كتب : محمود ليالي | السبت، 16 مارس 2024 - 02:04

"أنا متعب للغاية".. هل نستطيع أخذ قسط من الراحة كما فعل يورجن كلوب؟

يورجن كلوب

"سافر، أنت لست شجرة، مكانك ليس هُنا، اعمل، اجتهد، كِد، اكدح، لا وقت للنوم، لا صُلح، لا تفاوض، ولا اعتراف بالكسل، فكورسات بقى، اتعلم لغة، اتنين، تلاتة، أقل من 5 لغات مينفعش، ادرس برمجة، تحليل بيانات، لازم سِعرك يبقى عشرين ألف دولار في الدقيقة، ابن خالتك معاه تلاتة ماجستير، وبيحضر دكتوراه في "تخصيب اليورانيوم"، وانت نايم لسه؟ طيب وبعدين؟ سؤال ليست له أية إجابة واقعية، أليس كذلك؟ لا يهم؛ ففي عزِ ماسورة التنمية البشرية التي ضربت في وجهنا تلك، وريلز اللايف كوتشينج، "صلاح أبو المجد" تحديدًا، والتي تحثك ليلًا ونهار على ألَّا تكون فقيرًا، لأن "الشغف يُحرك المُرفهين، والمسؤولية تُحرك الجدعان"، يأتي من خلفك صوت يورجن كلوب، المدير الفني لنادي ليفربول، قائلًا: "أنا متعب جدًا، ولا أعتقد بأنني لازلت قادرًا على تحمل هذه الوظيفة، ولذلك قررت الرحيل عن ليفربول، وربما سأعتزل التدريب قريبًا".

"أنا متعب"

إن سألتني عن الإنجاز الكروي الأصعب في تاريخ مشاهدتي لكرة القدم؟ فأول ما سيخطر على بالي هو فوز كلوب بالدوري الإنجليزي، وبعد عامٍ واحد فقط من خسارته بفارق نقطة وحيدة عن مانشستر سيتي، هذا الانجاز صعب التصديق، لماذا؟ لأن ردة الفعل الطبيعية في تلك الحالة، عادةً ما ستنحصر بين الاستسلام والانهيار النفسي الكامل، ليس انهيارك وحدك، بل ومعك لاعبيك وإدارييك وجماهيرك أيضًا، وهذا هو ما لم يحدث، بل قاوم كلوب مغريات الفشل، وألهم الجميع حتى يعاودوا الكرة مرةً أخرى، وبالفعل تم له ما أراد في السنة التالية، واقتنص لقب الدوري من فم مانشستر سيتي ومدربه بيب غوارديولا، رغمًا عن أنف الجميع، وأولهم النفس الأمارة بالاستسلام.

وهذا هو العجيب، أن الكلمات المليئة بالإرهاق وفقدان الشغف والدوافع تلك، قد خرجت من فم رجل له تلك الخلفية، كما أنه سابع أغلى مدرب في العالم، طبقًا لما نشره موقع "الجزيرة.نت"، براتبٍ يُقدر بحوالي 10 مليون يورو سنويا، أي ما يعادل 75 مليون جنيهًا مصريًا -حتى كتابة تلك الكلمات- وما يعادل 11 مليون دولار أميركي، وبما أن متوسط دخل الفرد الإماراتي، باعتباره صاحب أعلى متوسط دخل عربي، يقدر بحوالي 45 ألف دولار سنويًا، طبقًا لأكثر الإحصائيات، لذا فإن الفرد الإماراتي يحتاج لأن يعمل بجد واجتهاد ما يقارب من 244 عامًا كاملًا، قبل أن يصل إلى راتب كلوب في سنة واحدة فقط، فما بالك بالفرد المصري أو اللبناني، أو من على شاكلتهم من أصحاب الدخول المعدومة تقريبًا.

كما أنها خرجت من فم رجل ذائع الصيت، ومعروف لما لا يقل عن نصف سكان كوكب الأرض تقريبًا، ومعجب به وبشخصيته ما لا يقل عن 70 مليون شخص -هم جماهير ليفربول بشكل تقريبي، طبقًا لعدد من الإحصائيات المعقدة، والتي تعتمد على نسب مبيعات القميص، ونسبة مشاهدات الفريق على القنوات والمنصات المختلفة، وعدد آخر من الأشياء ليس هناك مجال لذكره هنا- لكن المقصود من هذا كله؛ أن يورجن يحمل على كتفيه أحلام وتطلعات الملايين حول العالم.

تلك الملايين لم تُعجب به، هكذا، من قبيل الصدفة، بل تماهت معه لهذه الدرجة لأن له قصة ملهمة وحالمة للغاية، وفي هذا كتب الكاتب والصحفي الرياضي، يوسف حمدي، عبر صفحته على فيسبوك: "بإحصاء الأشخاص الذين يحبون كلوب في العالم، بالكاد تجد من أحبه فقط من أجل كرة القدم التي يلعبها، ستجد دومًا الإجابات تدور حول كونه رجلًا ملهمًا، شغوفًا، يمنح الطاقة لمن حوله طوال الوقت، يساعدهم على اكتشاف ذواتهم والإيمان بها، يدرك قيمة العمل والعمل والعمل، لا يعتبر الموهبة وحدها كافية للتعاقد مع اللاعبين، لأنه قادر على إنتاج نسخة أفضل من اللاعبين محدودي الموهبة، ويفسر ذلك بأنه كان هكذا حين كان لاعبًا، وفي وداعه، ظهر كلوب كما هو منذ اليوم الأول؛ "ملهمًا"، ولم نعثر في قواميس اللغات ومعاجمها على لفظ يناسبه أكثر من ذلك".

وحقيقةً؛ لم نعثر نحن أيضًا في قواميس اللغة على ما هو أفضل من الإقتباس السابق، كي يعبر عمَّا يجول بخاطرنا تجاه الرجل، ذلك الشخص الحالم الصلب، والذي قرر منذ بدايته لاعبًا متوسط الموهبة رفقة نادي "ماينز" أن يكون ملهمًا للجميع، ولذلك؛ فرغم تعليق حذاءه كلاعب دون تحقيق إنجاز يذكر، إلا أنه تحلى بالصبر والصلابة كي يمارس مهنة التدريب، لا لسببٍ إلا لكي يصل باللاعبين السيئين إلى بر الأمان، وأن يعيد اكتشاف المواهب والبشر، وكأنه قرر أن يصبح مدربًا، حتى يصبح النموذج الذي كان يتمنى أن يراه، فلطالما تمنى أن يجد مدربًا يساعده لكي يكون لاعبًا وإنسانًا أفضل، وعندما لم يجد، قرر أن يساعد هو لاعبيه على أن يكونوا لاعبين وبشرًا أفضل.

هنا قد تظن أن الحبكة ازدادت تعقيدًا، ولكن لا تقلق، فلحسن الحظ يمكن اختصارها في مقطع واحد فقط: هناك رجل ذائع الصيت، يملك من الأموال ما يجعله مؤمنًا تمامًا من تقلبات الدهر، إضافة إلى أنه شغوف، وملهم، وبعد سنواتٍ من العمل الدؤوب، يقرر فجأة أن يضع حدًا لكل شيء، وربما للأبد، وأن يتحول من صاحب النفسية الصلبة العملاقة إلى "متعب" و"مرهق" فقط لا غير، فهل سمع صلاح أبو المجد، أو غيره من مدربين السوشيال ميديا، عن هذا الشعور من قبل؟

كلوب ليس الأول

"قرار كلوب بالتخلي عن منصبه يخبر العالم أنه على الرغم من أنك قد تكون الأفضل على الإطلاق، إلا أنك ستظل إنسانًا".

آلان تشو ، الأستاذ المشارك في علم النفس الرياضي التطبيقي بجامعة "نورث كارولينا"

كلوب هو أحدث شخصية رفيعة المستوى تقرر التوقف عن العمل في ذروة مسيرتها المهنية، ففي العام الماضي على سبيل المثال، قدمت رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة، جاسيندا أرديرن، إستقالتها من المنصب، مشيرة إلى أنها لا تملك "ما يكفي من الطاقة لممارسة وظيفتها"، كما سبقها أيضًا نجمة التنس ناعومي أوساكا، فقد كانت في قمة مستواها عام 2021 عندما أعلنت أنها بحاجة إلى استراحة كاملة من الرياضة، لأنها تشعر بالإرهاق البدني والذهني العنيف.

وفي حين أن الرجل لم يستخدم كلمة "الإرهاق" بشكل مباشر مثل سابقيه، إلا أنه وصف بعض أعراضه بالفعل، حيث قال صراحةً: "أنا مثل سيارة رياضية، ليست الأفضل، ولكنها سيارة جيدة جدًا، ولا يزال بإمكانها القيادة بسرعة 160، 170، 180 ميلاً في الساعة، ولكن بعد فترة عليها أن تذهب إلى محطة البنزين، هذا بالضبط ما أعرف أنه يجب علي فعله".

وهناك أسباب لذلك؛ فيعرف مارك أوياجي، المدير المشارك لقسم علم النفس الرياضي بجامعة دنفر، ذلك الشعور باعتباره متلازمة تتكون من ثلاثة أجزاء: الشعور بالإرهاق، ثم السخرية من الوظيفة، وأخيرًا الشعور بأنك لم تعد فعالاً، ولذلك يبدو من الفيديو أن كلوب يواجه بعنف الجزء الأول من متلازمة الإرهاق، ويوافقه في ذلك مارك ليتر، الأستاذ الفخري في جامعة "أكاديا"، الذي استطرد قائلًا أنه مزيج من السخرية والإحباط الشديد، فإن لم تكن متأكدًا مما إذا كنت تعاني من الإرهاق في عملك أم لا، فتعامل مع الأمر كما لو كان حقيقيًا، باعتبار أنه ليس إلا نقطة النهاية، في طريق طويل جدًا".

كما صرح جود بروير، مدير مركز الأبحاث والابتكار بجامعة براون، "أن الإرهاق يمكن أن يعني أشياء كثيرة مختلفة للعديد من الأشخاص، ومن الممكن أن ينطبق على "أي شخص"، مهما كانت درجة التزامه، وبالتالي يصبح واضحًا عندما يشعر الإنسان أنه لم يعد في قمة مستواه الوظيفي أو المهني، ومن ثَمَّ تصبح وظيفته محبطةً له بشده، ويتحول جرس المنبه الذي يوقظه في الصباح إلى جرس استئذان لدخول الجحيم".

فما العمل إن شعرت بهذه الأشياء؟ حسنًا، يجب عليك التوقف عن العمل فورًا، لماذا؟ لأن كثرة التعرّض لمثل هذا الإجهاد، سيؤدي لا محالة إلى الوقوع في فخ الاعتلالات النفسية المستمرة مثل "الإكتئاب" المزمن، مع حدوث أعراض جسدية مثل الصداع وآلام المعدة، تزداد وتيرتها مع الزمن حتى يستحيل السيطرة عليها، ولذلك ينصح الخبراء بهذا: عندما تشعر بالملل أو بالإرهاق، فتوقف عن فعل ما يؤذيك فورًا، لأنه ببساطة "سيقتلك".

كيف السبيل؟

"كم كان عمرك عندما أدركت أن خطتك الأصلية بأن تكون لطيفًا حقًا، وتعمل بجد حقًا، وتتحمل أكثر مما ينبغي على أمل أن تُكافأ على ذلك بصورة تلقائية دون أن تطلب، كانت مجرد هراء؟"

الكاتبة البريطانية، كيت ليستر، على حسابها بموقع "x"

النصائح السابقة؛ كانت المرجع العلمي لكلوب في اتخاذ قراره بالتوقف عن التدريب، ولو مؤقتًا، لأنه لا يريد بالطبع لوظيفته أن تقتله، ولكن ربما هناك أسباب أخرى، منها أنه يريد الاستمتاع بثروته دون منغصات، وربما ليس هناك سبب معين غير أنه "يورجن كلوب شخصيًا" فقط لا غير.

أي لأنه ببساطة: يستطيع اتخاذ ذلك القرار، بل ويستطيع ترك العمل للأبد، دون أن يوبخه أحد من أفراد أسرته، ودون أن يُتهم بالتقصير في رعاية منزله وأطفاله، ودون أن يطنطن في أذنه من هم مثل "صلاح أبو المجد"، مذكرينه بأهمية العمل والإنجاز، لأنه يملك من الأموال ما يؤمن له درجة من الحرية، تجعله قادرًا على اتخاذ مثل تلك القرارات الحاسمة دون خوف من المجهول، وهنا سيظهر التساؤل: ماذا عنَّا نحن أبناء العالم الثالث، هل بإستطاعتنا اتخاذ مثل تلك القرارات؟ أقصد؛ هل نمتلك نفس تلك الرفاهية؟

في حقيقة الأمر؛ فالإجابة ستكون "لا"، نحن لا نمتلك تلك الرفاهية، ولا نستطيع تغيير مجرى حياتنا بهذا العنف المفاجئ، وليس بإمكاننا أن نشعر بالإرهاق، ولم يعد هناك حيلة واحدة لتغيير ما نحن فيه،، وبخلاف الصعوبات والمخاوف المعتادة، هناك صعوبات نمتلكها "نحن" خصيصًا في تلك البقعة من العالم، وهي معروفة للجميع بالضرورة، وبالتالي فنحن لا نمتلك إلا رفاهية "العمل" فقط لا غير، وحقيقةً؛ فأن تعمل في بلد يعيش 35% من سكانه تحت خط الفقر، فهذا انجاز في حد ذاته.

ولكن في نفس الوقت؛ فهذا ضد الطبيعة البشرية، ولا يمت للإنسانية بصلة، فالإنسان مجبول بطبيعته على السكون، وله الحق في أن يشعر بفقدان الشغف، وبأنه غير قادرٍ على ملئ كوب ماء لنفسه، هذه كلها مشاعر طبيعية تمامًا، ومن المفترض أن تكون مكفولة للجميع، وكما أصابت أشد الأشخاص الهامًا وشغفًا مثل كلوب، فمن الطبيعي أن تمر على كل فرد فاعلٍ فينا.

وهنا بالضبط تكمن الأزمة؛ أن عالمنا الرأسمالي، يحصر القدرة على تحويل تلك المشاعر إلى أفعال، على من يمتلكون المال اللازم لتغطية النفقات، وتغطية النفقات، كما تعرف، ليست بالأمر الهين، فطبقًا للفيلسوف الفرنسي، "توماس بيكيتي"، فهي ميزة حصريةً على من يمتلكُ المال سلفًا قبل أن يولد، لأن عوائد رأس المال الموجود بالفعل، ستظل أكبر من النمو في الاقتصاد، أو باختصار مخل: من وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب، سيظل يملك مالًا أكثر من الجاد المجتهد، صاحب الـ 16 ساعة عمل يوميًا، وهذا ما يدحض كل فرضيات مشاهير السوشيال ميديا، عن حتمية الوصول.

فهل معنى هذا ألَّا نحاول؟ بالطبع لا، حاول تغيير واقعك بأقصى جهد لك، و"كورسات بقى وبتاع"، لأن هذا هو السبيل الوحيد، ولكن أثناء الركض ومشقة الرحلة: استرخي، فالفقر ليس عيبًا، فضلا على أنه ليس مشكلتك انت كما يقول "صلاح أبو المجد"، أما العمل الشاق فهو ما كُتب علينا في "اللوح المحفوظ" لأسباب لا نعرفها، فإن شعرت بأنك فاقدٌ للشغف، فهذا طبيعي، فلن تسطيع تغيير الكون وحدك، ولكنك للأسف أيضًا، لن تسطيع أن تحذو حذو يورجن كلوب وتتخلص من عملك، لأنك لست هو، وكل منَّا له تجربته الخاصة.

ولكنك تستطيع على الأقل أن تظل ثابتًا في مكانك دون حراك، وأن تمنع تلك العجلة المجنونة من التقدم، لماذا؟ لأن المفاجأة التي لم يقلها لك أشباه صلاح أبو المجد،" أن الشغف يُحرك "الجدعان" نحو ما يحبون، وعندما يَفتر الشغف، ومهما كانت صلابتك، فلن تستطيع تحمل العواقب النفسية، وقد تطل علينا في النهاية بوجه مجهد، معلنًا أنك على استعدادٍ لتفكيك انجازاتك كلها، وبأنك على الأقل تحتاج إلى التوقف في أقرب "محطة بنزين" لإعادة ملئ تانك الشغف، أما "المسؤولية" التي يتحدثون عنها، ويطنطنون بها، فدورها الوحيد هو إجبارك على الصمود في وجه ما لا تُحب.

التعليقات