لعله خطّط لسنوات دون أن يجرؤ، أو ربما نفّذ قرارًا فوريًا.. من الوارد أن الندم خنقه في طريقه إلى أسفل، أو محتمل أنه حلّق خفيفا مُجرَدا من الحياة.
لا نعرف، ولن نعرف، ما نعرفه فقط أن كارلوس جوزيه كاستيليو اندفع في سرعة كبيرة نحو النافذة، وألقى جسده من الطابق السابع، واستقر به الحال في العالم الآخَر.
الاكتئاب، الفصام، القلق، المخدرات، الكحوليات، الاضطراب ثنائي القطب، الضغط العصبي، الأزمات المالية، الصدمات العاطفية.. تعددت أسباب الانتحار العامة وتشعّبت وتفاوتت في حدتها، ولكنه يظل فعلا غير نمطي لا يمكن التنبؤ به عادة.
في 27 نوفمبر 1927، على أرض مدينة ريو دي جانيرو، وُلد كاستيليو، وبعد 59 عاما وشهرين و6 أيام، تحديدا 2 فبراير 1987، سيُلقي بنفسه من النافذة، منهيًا حياة غير اعتيادية لأحد أعظم حراس المرمى في تاريخ البرازيل.
ولأن كاستيليو حقق في مسيرته ما قد يفوق أهمية الطريقة التي مات بها، ولأن مسيرته أيضا شهدت أحداث أكثر غرابة من انتحاره الصادم، فستضطرون إلى الانتظار حتى الفقرات الأخيرة للتعرف أكثر على اليوم الذي طل فيه من النافذة.
4 كؤوس عالم
كافو، بيليه، دجالما سانتوس، رونالدو نازاريو، نيلتون سانتوس، إيمرسون لياو.. 6 من أصل 7 لاعبين فقط دخلوا قائمة البرازيل في 4 كؤوس عالم مختلفة.. سابعهم هو بطلنا: كاستيليو.
لكنه ربما كان أقل السابقين شهرةً ورصيدا، ففي ظهوره المونديالي الأول عام 1950، اكتفى بالمتابعة من مقاعد البدلاء طوال البطولة، وترك المرمى لـ باربوسا.
لعل الغيظ داعب كاستيليو كثيرا في تلك النسخة، حتى ارتكب باربوسا هفوته القاتلة في كارثة الماراكانا، وصار مجرما شعبيا، عندها فقط اكتشف كاستيليو مدى خطورة حراسة هذا المرمى البرازيلي.
ربما استحق كاستيليو حراسة مرمى البرازيل في 1950، ولربما اختلفت حينها نتيجة المباراة الختامية أمام أوروجواي، فـ كاستيليو لم يكن حارسا متواضعا بالمرة.
بل اشتهر طوال مسيرته بتصدياته الإعجازية؛ عندما يتأكد الجميع أن الكرة في طريق حتمي نحو المرمى، ينتفض كاستيليو برد فعل هائل ويمنعها من هز شباكه.
بل فوق ذلك، عُرف عن كاستيليو الحظ الشديد، فحدث كثيرا أن ضربت الكرة القائمين والعارضة في وجوده، حتى أطلقت عليه الجماهير المنافسة لقب Leiteria، وهي لفظة برازيلية دارجة تعني "الرجل المحظوظ".
يقول الصحفي البرازيلي جواو ماكسيمو: "كان الأمر مثيرا للدهشة، في بعض المباريات، ضربت الكرة عارضته وقائميه 3 أو 4 مرات".
في المقابل، حمل كاستيليو لقبا آخر من اختيار جماهير نادي فلومينينسي الذي مثّله لـ17 موسما: القديس كاستيليو.
وعلى أنقاض باربوسا المسكين، تسلق كاستيليو، وصار حارس مرمى البرازيل الأساسي في كأس العالم 1954.
راقصو السامبا لعبوا 3 مباريات في تلك النسخة، وهي كل رصيد كاستيليو من المباريات المونديالية طوال مسيرته، إذ سيبقى في النسختين التاليتين على مقاعد البدلاء.
في 1958، و1962، لن يُهمَش كاستيليو لصالح حارس مرمى لا يجيد إغلاق زاويته الضيقة كما حدث عام 1950، بل لصالح جيلمار رمز حراسة المرمى البرازيلية، وسيعود كاستيليو إلى وطنه في المرتين مظفرا.
كاستيليو جلس يشاهد إبداعات بيليه وجارينشا في استرخاء، ورجع إلى منزله مرتين بكأس العالم الأحمر المشتعل.. كأس العالم ذهبي اللون؟ لا، ليس في نظر كاستيليو.
كاستيليو عانى من عمى الألوان، وليس بالضرورة أن يكون المصاب غير قادر على تمييز أي لون كما يعتقد العديدون.
في حالة كاستيليو، الأصفر يعني الأحمر المتقد، وفي الخمسينيات والستينيات كان استعمال الكرات الصفراء أمرا معتادا في ملاعب كرة القدم.
مع هذه الحقيقة، يمكننا تفسير لماذا امتلك كاستيليو ردود فعل خارقة؛ إنه يرى جمرة نارية في طريقها إلى مرماه، لون كفيل بتحريك غريزته وبالتالي قرارات أسرع.
اعتاد كاستيليو أن يقول: "يجب أن يكون حارس المرمى مثل لاعب التنس، أن يُبقي نظره دائما على الكرة، وألا يشيح عنها أبدا تحت أي ظرف، إنها عدونا الأسوأ".
لكنه في الوقت نفسه، عانى كثيرا مع الكرات البيضاء في المباريات الليلية، وواجه مصاعب جمة في تمييزها.
البتر
إذا زرت مقر نادي فلومينينسي يوما ما، فستقابل في خطواتك الأولى تمثالًا رأسيا لـ كاستيليو.
كيف لا يكرمونه وهو رمزهم التاريخي! الرجل حمى مرمى فلومينينسي في 699 مباراة طوال 17 عاما، رقم قياسي لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
لكن في الواقع، ليس هذا القدر العظيم من المباريات هو السبب الرئيس وراء التمثال القابع في مقر فلومينينسي.
لو قرأت النَص المُرفَق بالتمثال، ستجد الكلمات التالية:
"قميص مبلل بالعرق، دموع منهمرة بغزارة، دماء تنزف.. الكثيرون فعلوا ذلك؛ لكن شخص واحد فقط ضحى بجزء من جسده لأجل فلومينينسي: كاستيليو".
هذا ليس نصًا مجازيًا، بل حدث بالفعل أن ضحى كاستيليو بجزء من جسده لأجل فلومينينسي.
في العام 1951، عانى كاستيليو كثيرا مع إصبع الخنصر في اليد اليسرى، أزعجه لأشهر طويلة بسبب إصابة لم يستطع الأطباء علاجها.
الفريق كان منافسا شرسا في ذلك العام على بطولة "كامبيوناتو كاريوكا"، وهي مسابقة الدوري التي تلعب فيها أندية ولاية ريو دي جانيرو، مسابقة في غاية الأهمية لم يكن فلومينينسي قد ظفر بلقبها قط.
مع تدهور حالة إصبعه، قال الطبيب لـ كاستيليو أن لا مفر من تدخُل جراحي يحل المشكلة جذريًا.
كاستيليو ارتاب عندما سمع فكرة الجراحة، وسأل عن المدة التي سيغيبها عن الملاعب، فجاءته الإجابة صادمة: ستغيب شهرين!
هذا يعني أن كاستيليو سيبتعد عن آخر 5 مباريات لـ فلومينينسي في الموسم، أمر لم يكن ليسمح بحدوثه، لتخطر إليه فكرة مجنونة.
الجزء المصاب في إصبع كاستيليو كان العُقلة العلوية، وكاستيليو اقترح على الطبيب أن يبتر هذا الجزء من إصبعه!
كاستيليو سئم الإصبع المعطوب، وفكرته واجهت معارضة شديدة من الجهاز الطبي لـ فلومينينسي.
يقول كاستيليو: "قناعتي كانت أن البتر هو الحل الوحيد للمشكلة، خصوصا أن الإصبع الأصغر ليس له تأثير على قدرات أي حارس مرمى".
"وعلى الجانب الآخر، زوجتي والأطباء لم يوافقوا. تحدثت إلى الطبيب باي باريتو وكنت حادًا للغاية، أخبرته أنني لو لم أجر الجراحة، فإنني لن أكون قادرا على مواصلة اللعب، وبالتالي سأفقد الثقة في ذاتي".
"في الثامنة من صباح اليوم التالي، ذهبت إلى المركز الصحي، والطبيب باريتو كان في انتظاري. وقبل أن ينتشر مفعول التخدير في جسدي، سمعت كلمته الأخيرة: أنت مجنون.. فأجبته قائلا: بالطبع، حارس المرمى يجب أن يكون مجنونا".
عندما أفاق كاستيليو، كان مجبرا على التعايش مع 9 أصابع ونصف لما تبقى من حياته، ولا يبدو أنه ندم على هذا القرار قط.
والتفسير النفسي لهذه التضحية القاسية، ترجع ربما إلى أن كاستيليو كان رواقيًا.. والرواقية أو Stoicism، هي ظاهرة نفسية يرجع أصلها إلى مذهب فلسفسي إغريقي، يحث أصحابه على الصبر وتحمُل المشاق وكبح العواطف وكبت الغرائز والتحرر من الانفعال.
كاستيليو احتاج إلى أسبوعين فقط بعد الجراحة المصيرية، حتى يعود لممارسة كرة القدم، وقد نال الجائزة، وقاد فلومينينسي للتتويج بـ كامبيوناتو كاريوكا أخيرا بعد سنوات طوال من المحاولة، فصار بطلا أسطوريًا في نظر جماهير فريقه.
مسيرته لم تتأثر أبدا بفقدانه هذا القدر الضئيل من جسده، بل قدّم أفضل مستوياته في الفترات اللاحقة، حتى أنه تصدى لـ6 ركلات جزاء في عام 1952 وحده، وصار حارس مرمى البرازيل الأول.
الانتحار
بعد اعتزاله، تولى كاستيليو تدريب عدة أندية برازيلية، أبرزها جريميو وسانتوس، قبل أن يخوض تجربة مختلفة ويتعاقد على تدريب منتخب المملكة العربية السعودية في الأشهر الأخيرة من حياته.
في 2 فبراير 1987، تناول كاستيليو الغداء مع شقيقه أنطونيو في ريو دي جانيرو، وكانت تلك المرة الأخيرة التي سيتقابل فيها الشقيقان.
يروي أنطونيو: "عدت إلى منزلي بعد تناول الغداء مع كاستيليو، وإذا بأحد الجيران يحضر إلي في هلع ويسألني: أسمعت بما حدث لشقيقك؟".
"سألته أي شقيق يقصد، لأني أمتلك 3 أشقاء، فقال لي: كاستيليو.. لقد انتحر".
"هرعت إلى هناك واكتشفت ما حدث، إنها أسوأ ذكرى في حياتي بأكملها.. حتى اليوم، لا نعرف تحديدا سبب إقدامه على الانتحار".
"كان قدوتي، وشقيقي، وأبي. أذكر عندما كنت في العاشرة من عمري وبدأت العمل في ورشة، سمع بالنبأ وحضر إلي في العمل وأجبرني على الذهاب إلى المدرسة. أنا مدين له بكل شيء حققته في حياتي".
ما حدث أن كاستيليو توجّه إلى منزل طليقته فيلاما وأم أبنائه، والتي تزوج بعدها من امرأة أخرى تدعى إفيلينا.
في منزل فيلاما بمنطقة بوين سوسيو، دون رسالة انتحار، ودون سبب واضح، اندفع كاستيليو نحو النافذة، وألقى بنفسه من الطابق السابع، مقتلعًا روحه.
في السنوات التالية، أقدم عدة صحفيين على التقصي وراء هذا الانتحار الغامض، وخرجوا بعدة نظريات لم يتأكد أي منها.
بعض المقربين قالوا إنه عانى من الاضطراب ثنائي القطب، والبعض الآخر أرجع فعلته إلى صدمته العاطفية وما حدث مع زوجته الثانية إفيلينا التي رفضت الانتقال معه إلى السعودية وقررت الانفصال عنه.
يُقال إن كاستيليو لم يتحمل الخذلان، وحَط بجسده حيث الهاوية.
لن نعرف أبدا لماذا انتحر كاستيليو، وسيظل أفراد عائلته في تساؤل أزلي عن السبب، سيتمنون لو يعود الزمن دقيقة واحدة قبل وفاته حتى يغلقون تلك النافذة، أو ربما يحتضنونه طاردين تلك الأفكار الانتحارية من رأسه.. فات الأوان على أي حال.
"يجب أن أُنهي هذا، لم يتبق أي أمل، سأكون في سلام. لا أحد يتحمل مسؤولية ذلك، إنه قراري وحدي".
_الكوميديان الأمريكي فريدي براينز في رسالة انتحاره عن عمر 23 عاما.
الخط الساخن لتجنب الانتحار: 0220816831 – 08008880700
مصادر:
http://bit.ly/2kneJt2
http://bit.ly/2lWMG4g
http://bit.ly/2m4QlwI
http://bit.ly/2mpjYZT
http://bit.ly/2mnAz08
http://bit.ly/2msXgAf
http://bit.ly/2lX4nk5
http://bit.ly/2m1mvJA
اقرأ أيضا:
أول تعليق من صلاح بعد أزمة تويتر
عبد الغني ينفي تسبب جمعية اللاعبين المحترفين في خسارة صلاح لنقاط في جائزة الأفضل
فيفا يكشف لـ في الجول سبب عدم وجود مصر في ملف تصويت الأفضل
5 أشياء تعلمناها من الجولة الأولى لـ الدوري المصري.. لقطة جاد وفوز بلا تسديدة وفريق سيعاني
قالوا عن ساسي: لا نعرفه.. هل تأثر بقدوم ميتشو؟