كتب : أحمد عز الدين | الخميس، 26 مايو 2016 - 01:34
اللعب في منطقة سيميوني
"أنا جابريل ماركوتي صحفي في شبكة (إي.إس.بي.إن) وأود سؤال مدرب أتليتكو: لو جاء يوم وأصبحت مديرا فنيا لبرشلونة، هل ستغير اسلوبك وتلعب كرة هجومية أم يظل اعتمادك على الخطط الدفاعية؟".
أجاب دييجو سيميوني مبتسما "حقيقة لا أعلم. لكني أؤمن بأن المدرب يشعر بالراحة حين يعمل مع فريق يعكس شخصيته".
دييجو سيميوني لن يلعب كرة قدم استعراضية حتى وإن منحته قائمة برشلونة.. فشخصية المدرب الأرجنتيني وحكايته تنتمي لعالم مختلف في كرة القدم.
تبدأ الحكاية حين شعر سيميوني وهو يقف خلف مرمى فريقه أن الحارس يتلكأ في اللعب. استشاط غضبا واخترق القواعد لأول مرة في حياته.
لا نتحدث هنا عن مباراة لأتليتكو، ولم يكن سيميوني قد بدأ حتى لعب الكرة بعد بل كان طفلا في الـ11 من عمره يعمل حاملا للكرات في فيلز سار سفيلد.
رأى سيميوني أن حارس فريقه بطــــــيء وممل ويعطل فيلز سار سفيلد عن مباغتة خصمه بوكا جونيورز بهجمات سريعة، فحاول ضربه بإلقاء كرة تجاهه داخل الملعب أثناء سير المباراة.
طبعا حين وجد الحكم كرتين في الملعب طرد الطفل المشاغب. ويحكى سيميوني عن الواقعة لاحقا "لم أقصد مضايقة أحد. فقط ألقيت الكرة ولم أكن منتبها إلى أن الحارس وجد أخرى بالفعل وبدأ اللعب".
بعدها بسنوات طويلة وحين بات سيميوني مديرا فنيا شهيرا لأتليتكو ألقيت كرة داخل الملعب وهناك هجمة مرتدة على ناديه. الكل اتهم دييجو، لكنه قال: "لست الفاعل. لست مسؤولا عن الكرات".
في المرتين يمكنك تصديق سيميوني أو لا، لكن لا تجادل أن الرجل الذي تراه الآن بالحُلة السوداء لا يختلف في عصبيته وشخصيته عن دييجو الذي بدأ رحلته مع الكرة عام 1982.
شخصية سيميوني
في كأس العالم 1986 سقط الإنجليز أمام سحر لاعب أرجنتيني يدعى دييجو مارادونا كان يعد آنذاك وجها دعائيا للمهارة والكرة الجميلة.
وبعد 12 عاما في كأس العالم 1998 سقط الإنجليز أنفسهم أمام الأرجنتيين مجددا وبسبب لاعب أيضا يدعى دييجو، لكنه يمثل وجها مختلفا تماما لكرة القدم.
دييجو سيميوني احتك مع نجم إنجلترا ديفيد بيكام. الأخير أخطأ وضربه بقدمه ضربة خفيفة لم يرها الحكم الدنماركي الشهير كيم ميلتون نيلسون.
هنا أخذ سيميوني يتقلب في الأرض حتى أقنع الحكم بإشهار البطاقة الحمراء في وجه بيكام.. سقطت إنجلترا وفازت الأرجنتين بـ"حركة شوارع" كانت من سمات دييجو وأقرانه من أبناء الوجه الخشن لكرة القدم.
ويروي سيميوني في حوار مع مجلة FourFourTwo: "كنت قويا. ألعب كأني أخبئ سكينا بين أسناني لضرب خصومي".
قد تكره تلك النوعية وترى فيها سلوكا غير رياضي، لكن ملاعب الكرة لا يمكن أن تكون كلها ميسي ورونالدينيو.. هناك لاعبون يستخدمون تلك الحمية لتعويض قدراتهم التقنية المحدودة.
"دييجو لم يكن لاعبا مهاريا ولم يمتلك حتى السرعة".. هكذا يتحدث رادي أنتيتش المدير الفني السابق لأتليتكو مدريد عن سيميوني.
ويشرح أنتيتش "سيميوني وهو لاعب كان بالضبط كما تراه الآن كمدير فني.. يتمتع بعقل وجسد قويان، يلعب بذكاء ويجيد توجيه رفاقه لغلق المساحات أمام الخصوم".
وهكذا من كلمات أنتيتش يمكنك أن تؤمن بما كتبه مايك كاريسون في كتاب "قادة كرة القدم": كل مدرب تحوي خططه الكثير من رحلته وشخصيته كلاعب.
وأنتيتش بالمناسبة أول مدرب منذ السبعينات يقود أتليتكو للتتويج بالليجا سنة 1996، وطبعا سيميوني كان لاعبا في الكتيبة التي كتبت أول سطر للفريق المدريدي في التاريخ الحديث.
المفارقة هنا أن أتليتكو مدريد انهار وتخصص في الفشل بعد رحيل أنتيتش ولـ15 عاما حتى عاد سيميوني إلى بيته مدربا هذه المرة في 2011.
وصل الانهيار لدرجة إنتاج النادي حملة دعائية في 2010 تطالب الجماهير بشراء تذاكر المباريات، وكان بطل الإعلان طفل يسأل والده باستغراب "أبي لماذا نشجع أتليتكو مدريد؟".
ويتذكر دييجو فورلان مهاجم أتليتكو السابق حالة النادي وقتها: "كنا فريق وسط الجدول. نلعب الدوري الأوروبي ولا ننافس الكبار.. النتائج أوصلت للجماهير تلك الرسالة وتحرك الكل على هذا الأساس".
تحرك اللاعبون على أساس أن أتليتكو مجرد معرض لمواهبهم لا أكثر.. يراوغ سيماو، يسدد خوسيه أنطونيو رييس، يبدع أجويرو.. لكن لم يكن أي منهم يلعب ويضحي من أجل الفريق.
لم يعتد مهاجم على العودة للدفاع حين يفقد الكرة. كان تركيز كل لاعب على إحراز هدف جميل يمنحه عرضا من ناد أخر.
والآن يمكنك إدراك ما أنجزه سيميوني مع عقلية لاعبي أتليتكو حين تشاهد أنطوان جريزمان يعود للدفاع ويخطف الكرة من مهاجمي بايرن ميونيخ أو برشلونة من داخل منطقة جزاء فريقه.
"لا أحب من يبحث عن دور الشخصية الرئيسية في الفيلم.. إذا لم تمنح الفريق كل ما لديك سيحصل أخر على موقعك".. سيميوني في مؤتمر تقديمه مدربا لأتليتكو.
هكذا زرع سيميوني جيناته في الفريق حتى بات أتليتكو تماما مثل مدربه.
فلو قلت لك أنا أتحدث عمن اعتاد استخدام القوة وعنف الشوارع ويلعب بذكاء يغطي نقص مهاراته ويطارد الألقاب رغم ضعفه قياسا بالخصوم، قد يختلط عليك الأمر.. هل الحديث عن أتليتكو أم رحلة سيميوني.
ويفصح تياجو مينديش "كل لاعب في أتليتكو يمتلك جزء من عقل سيميوني في الملعب.. تعلمنا من هذا الرجل الكثير جدا".
ما الذي تعلموه؟ هذا هو بيت القصيد..
يقول أرسين فينجر ضمن حملة دعائية للعبة فوتبول مانجر الشهيرة: "يمكن تقسيم الملعب إلى 60% عمق، و20% للطرف الأيمن ومثلهم للأيسر".
وتابع "وأفضل ما في خطة 4-4-2 أنها تغطي الملعب بهذا التوازن ذاته: هناك 6 لاعبين في العمق و2 على كل طرف".
لهذا تعد 4-4-2 جيدة للفرق التي ترغب في تأمين كل مناطق الملعب، ولربما كان ذلك وراء استخدام سيميوني لها. لكن طبعا ليس كل من يستخدم تلك الخطة يدافع بنجاح، وإلا لما شاهدنا برشلونة بطلا أبدا.
ويقول سيميوني: "ركن الحافلة أمام مرمى فريقك ليس سهلا بالمناسبة".
ويضيف "لا يوجد ما يسمى بطريقة مثالية للعب. أنا رجل كرة قدم وأعلم أنك قد تدافع بـ10 لاعبين أو تهاجم بـ10 لكن هذا لن يكفل لك الفوز.. المهم كيف يحفظ فريقك خطة اللعب".
وحتى يحفظ أتليتكو مدريد خطة اللعب يقسم سيميوني ملعب التدريبات إلى مربعات تصل إلى 16.
يعتمد مران سيميوني على قاعدة واحدة: تلتزم المجموعة ذات الرداء الأحمر (مجموعة لاعبي الدفاع والوسط) بالتحرك في 4 مربعات فقط.
انظر الصورة من كتاب يشرح تدريبات سيميوني:
ممنوع خروج لاعب عن تلك الحدود، وهكذا يتعلم الفريق التحرك كوحدة.
ويطبق المران نفسه في كل أرجاء الملعب.
بعدها يتكرر التدريب لكن هذه المرة 4 مستطيلات أفقية.. يبدأ المران داخل منطقة الجزاء ثم يتحرك الفريق للأمام، مستطيلين مستطيلين.
وهكذا تتعلم مع الدفاع متقارب الخطوط كيف تخرج بالهجمة من الخلف للأمام.
الشق الدفاعي في المران يكفل لك الفوز على برشلونة، والخروج بالهجمة من الخلف للأمام كوحدة واحدة يساعدك على سحق سيلتا فيجو.
والفوز على سيلتا فيجو وأمثاله من الفرق الصغيرة تحديدا يميز سيميوني ومورينيو عن غيرهما من المدربين أصحاب السمعة الدفاعية مثل روبرتو دي ماتيو وأتو ريهاجل.
فروبرتو دي ماتيو مثلا أجاد تحفيظ تشيلسي الدفاع في عدد مباريات قليل ضد خصوم يهاجمون بكل خطوطهم مثل برشلونة وبايرن. والنتيجة أنه فاز بدوري الأبطال.
لكن ما إن بدأ دي ماتيو الموسم مع تشيلسي في الدوري الإنجليزي اكتشف أن عليه تحفيظ فريقه كيفية الهجوم لأن الجلوس في الخلف طوال 38 مباراة لا يجعلك تفوز باللقب. فانتهت القصة سريعا.
أما تشيلسي مع مورينيو فقدم كرة دفاعية أمام الكبار وهجومية سريعة أمام الصغار جعلته ينهي موسمه بطلا للدوري الإنجليزي وصاحب أكبر عدد فرص مصنوعة بين كل فرق المسابقة.
لكن المشكلة أنه حتى وتشيلسي يفوز ويفوز وينتشر في الموسم الماضي انطلق جمهور أرسنال يهتف حانقا في مباراته مع البلوز: "كرة مملة.. مملة.. مملة".
وهنا العقدة الأساسية في فيلم دييجو سيميوني ومورينيو أمثالهما.. هل التعقيدات الدفاعية والنظام الذي يطرد برشلونة وبايرن من دوري الأبطال ممل وغير جذاب؟
"ربما يبهرك جمال الفراشة.. لكن لا تنكر أن هناك إبهارا في النظام المحكم الذي يتحرك به خلية النحل".. هكذا يردد صديقي كريم رمزي دوما مستدلا بمقال ممتع نشرته صحيفة ماركا.
ويمكنك مشاهدة النظام الممتع الناتج عن عمل سيميوني وكيف بفعل تدريباته يتحرك أتليتكو في مستطيلين فقط سواء بطول الملعب أو عرضه:
في الصورة الأولى هناك 8 لاعبين في مستطيلين فقط ناحية اليمين:
هنا يمكنك أن تشاهد 8 لاعبين على خطين متقاربين في الملعب لأتليتكو صاحب القميص الأصفر:
وهكذا أصبح أتليتكو محصنا بنظام مبهر كمدينة طروادة التي لم يستطع جيش الإغريق اقتحامها رغم حصارها لسنوات، ولم يتغلبوا عليها إلا بخدعة خيالية.
ويقول سيميوني: "برشلونة وريال يحبان الاستحواذ واللعب في المساحات الواسعة.. لهذا كان علي أن أجعل أتليتكو يحول الملعب إلى منطقة ضيقة على خصومه".
هكذا لو أردت الفوز على دييجو عليك أن تذهب إليه هناك، في منطقته وتلعب تحت قواعده.
يتدرب أتليتكو على التكدس في مربع أقصى ناحية اليمين:
فتصبح في منطقة سيميوني جبهة الظهير خوانفران صلدة كأن زانيتي يحميها. ليس لقوة اللاعب بل لأنه مدعوم بعدد يقلص المساحة التي يغطيها.. يلعب هو وخط التماس معا ضد أي جناح يظن نفسه موهوبا.
وسيميوني من ملوك التفاصيل الدقيقة. حين أقيم نهائي كأس إسبانيا بين فريقه وريال مدريد في برنابيو طالب اتحاد الكرة بألا يكون كل حاملي الكرات من الميرنجي أصحاب الملعب، بل يأتي نصفهم من أتليتكو.
تلك التفاصيل الدقيقة يمكن ملاحظتها في كيفية تمركز رباعي "خط" وسط أتليتكو أثناء الدفاع في الصورة التالية.
ستجد أن خط الوسط لا يتمركز على هيئة خط أصلا، ربما خطين إن أردنا الدقة..
لاعب يضغط وأخر يتأخر خطوة لتغطيته:
وأثناء خروج الفريق في الهجوم، يمكنك رؤية المثلثات التي يشكلها لاعبو الوسط والهجوم معا لتسهيل خلق محطات لعب لبعضهم البعض حتى الوصول لمرمى الخصوم:
فإذا كان الخصم برشلونة، تقدم كوكي بحرية لتسلم الكرة عند حدود منطقة جزاء البلوجرانا لأنها مكشوفة تماما بسبب انشغال بوسكتس طوال الموسم في تغطية الظهيرين الأقل التزاما من أي وقت مضى.
وحين بات الخصم بايرن، اقتحم ساؤول دفاع الفريق البافاري بثقة لأن شابي ألونسو لا يقطع الكرة، تياجو ألكنتارا لا يقطع الكرة، وديفيد ألابا طبعا لا يعرف كيف يتصرف وهو يشارك كقلب دفاع.
وفي الإياب استغل تقدم دفاع بايرن جدا وعدم التزام عناصره بسبب الحرية الرهيبة التي تركها لهم بيب.. فترك جريزمان يركض خلفهم، وكلف توريس بإلقاء الكرات إليه ليسجل هدف الوصول لنهائي الأبطال.
ويشرح سيميوني في حوار مع صحيفة أس "في المباريات الكبرى أول ما أهتم به وضع أكبر عدد من صانعي الألعاب في التشكيل".
لماذا؟ يفسر مورينيو الأمر بعد فوز إنتر على برشلونة في نصف نهائي أبطال 2010 قائلا: "كنت أدافع بأكبر عدد من المهاجمين".
وأوضح "الدفاع يحتاج للنظام، وهذا يمكن تطبيقه سواء بمدافعين أو بمهاجمين".
وأضاف "لو دافعت بلاعبين لا يجيدون الهجوم فلن تستفيد من المرتدات حين تتاح أمامك الفرصة. وفي المباريات الكبرى لا تسنح أمامك العديد من الفرص للتسجيل".
لهذا كنت ترى مورينيو يدافع بصامويل إيتو وجوران بانديف وويسلي شنايدر. والأمر نفسه يفعله سيميوني ويظهر بوضوح مع كوكي وأنطوان جريزمان.
ويؤكد جريزمان: "مع سيميوني تغيرت تماما".
ويحكي "في أول 6 أشهر عانيت كثيرا في تحمل طريقة عمل سيميوني بدنيا وفنيا.. لكني فخور لأني أصبحت أقوى بسبب هذا الرجل".
وربما جريزمان من أسباب عدم رحيل سيميوني عن أتليتكو حتى الآن. وهو سؤال مهم، لماذا لا يرحل مدرب مطلوب من نصف أندية العالم؟
يفسر سيميوني "حين تسلمت الفريق كان أغلب نجومه يمتلكون شروطا جزائية ضعيفة في عقودهم.. رحل من رحل، لكن الآن عدد المواهب الواعدة يزداد.. وهذا يجعلني واثقا في مستقبل أتليتكو".
أحب سيميوني..
وكما كنت أحب إبداع بيرلو، فبالضبط أحببت قتال جاتوزو.
ومع كل هذا أقر بوقوف الحظ جوار دييجو أمام بايرن. ونعم لازال أتليتكو يخسر أغلب مواجهاته مع برشلونة، ومن يعلم ربما حتى لا يكسب سيميوني الأبطال إن وجد زيدان حصان طروادة (يا مسهل).
لكن الروح القتالية التي ضخها المدرب الملقب بالـتشولو - ويعني اسمه صاحب الطاقة الكبيرة – في كرة القدم تجعل تجربته تستحق الاهتمام.
"أظن أننا غيرنا وجه الكرة هنا.. ربما لا نفوز دوما لكن الكبار الآن أصبحوا يشعرون بعدم الراحة حين يعلمون أن مباراتهم المقبلة أمام أتليتكو مدريد".. دييجو سيميوني.
شكرا سيميوني على جعل جمهور ريال مدريد يشعر أنه ليس الطرف الأقوى في صراع الأبطال..
وشكرا للاعبين لا يمتلكون مهارة ميسي أو نيمار لكنهم بفضل شجاعتهم وقتالهم وإيمانهم وصلو إلى النهائي، وبرشلونة لا.
“I want to thank the mothers of Atletico players for giving them balls that big”... Diego Simeone.
مقالات أخرى للكاتب
-
الجزء الناقص من صورة زيدان الإثنين، 20 يوليه 2020 - 19:57
-
برشلونة.. أكثر من مجرد فريق الخميس، 25 يونيو 2020 - 14:09
-
الشيطان مورينيو.. تلك كانت الأيام يا صديقي الأربعاء، 05 سبتمبر 2018 - 20:05
-
اللعب في منطقة سيميوني الخميس، 26 مايو 2016 - 01:34