مصادفة لا تحدث كثيرًا، يوليو 1954 فازت ألمانيا الغربية المستضعفة، بعد خسارة الحرب العالمية الثانية، بكأس العالم للمرة الأولى في تاريخها.
وبعد 50 عاما في يوليو 2004، انتصر مستضعف آخر في أوروبا، وهو منتخب اليونان "الضعيف كرويا"، ليحقق إنجازًا تاريخيا.
اليونان قبل بطولة يورو 2004، لم تكن قد حققت أي فوز في البطولات الكبرى "اليورو وكأس العالم"، إذ تأهلت لكأس الأمم الأوروبية 1980، وكأس العالم 1994، وودعت في النسختين من دور المجموعات بإجمالي 5 خسائر وتعادل وحيد مع تسجيل هدف وحيد.
فشلت اليونان كسابق عهدها في كرة القدم، في التأهل لكأس العالم 2002 في كوريا الجنوبية واليابان، ليقرر الاتحاد اليوناني رحيل فاسيليس دانييل، والتعاقد مع الألماني أوتو ريهاجل لتدريب المنتخب سنة 2001، في أول تجربة له كمدرب لمنتخب في مسيرته، وللمرة الأولى يتولى فيها تدريب فريق خارج حدود ألمانيا.
تشكك البداية في اليونان
أوتو ريهاجل قبل وصوله إلى اليونان، كان قد فاز بالدوري الألماني 3 مرات، بواقع مرتين مع فيردر بريمن، ومرة مع كايزر سلاوترن الصاعد حديث للبوندسليجا.
تشكك اليونانيون في اختيار ريهاجل في البداية، نظرًا لأنه لم يقم بالتدريب خارج وطنه ألمانيا من قبل، وكذلك عدم إلمامه بالكرة اليونانية، وعدم قدرته على نطق كلمة يونانية واحدة، وهو ما اعترف به المدرب بأنه يمثل مشكلة أكبر مما يتوقع.
5 سبتمبر 2001 كانت أول مباراة رسمية لليونان تحت قيادة ريهاجل في تصفيات كأس العالم، وكان قد فقد بالفعل فرصه في التأهل لكأس العالم، ليتعرض لخسارة كبيرة 5-1 أمام فنلندا، في بداية صعبة على المدرب الألماني، وكأنه إعلان لمدى صعوبة التحدي الذي سيواجهه.
بداية ريهاجل الصعبة جعلت الشكوك تزيد، وتكرر السيناريو الصعب في بداية مشوار التصفيات لليورو، حيث خسر مباراتين أمام إسبانيا وأوكرانيا، لكن ما حدث بعدها كان مفاجئا إذ نجح في الفوز بـ6 مباريات متتالية، ليقهر منتخب إسبانيا في وجود رارؤول جونزاليس، وأوكرانيا في وجود أفضل لاعب في العالم 2004 أندريه شيفتشينكو، وكذلك الفوز على أرمينيا وأيرلندا الشمالية ليتأهل لليورو.
لقد كنا مُحتَقرين
أوتو ريهاجل ذكر في عيد ميلاده الـ85 قبل أشهر، في تصريحات عن يورو 2004 نقلتها موقع "جريك سيتي تايمز": "لقد كنا محتقرين، لقد أخذونا على محمل الجد فقط عندما فزنا بالفعل"، في إشارة للإنجاز التاريخي لمنتخب اليونان.
ريهاجل استعد ليورو 2004 باستدعاء قائمة من اللاعبين المحليين، لم يكن بينهم نجوم كبار في أوروبا لينجح في التأهل لأمم أوروبا: "لقد قمت بدعوة لاعبي كرة القدم الذين ربما لم يعرفوا في ذلك الوقت مدى جودتهم. ومع ذلك، كانوا لاعبين جيدين للغاية؛ وإلا فقد كانوا لم يكن بمقدورهم تحقيق النتائج التي حققوها فيما بعد".
من بين اللاعبين مدافع باوك اليوناني "ثيودوروس زاجوراكيس"، والذي توج بجائزة أفضل لاعب في يورو 2004، وكان ضمن فريق البطولة، واحتل المركز الـ17 في جائزة أفضل لاعب في العالم لعام 2004، وجاء في المركز الخامس في ترتيب أفضل اللاعبين في أوروبا للعام ذاته.
بطولة إعجازية
المنتخب اليوناني نجح في التأهل من دور المجموعات في المركز الثاني بفارق الأهداف ليقصي إسبانيا، في المجموعة التي ضمت البرتغال أول المجموعة وروسيا رابعا.
المنتخب اليوناني فاز في المباراة الافتتاحية على حساب البرتغال 2-1، قبل التعادل مع إسبانيا والخسارة الوحيدة أمام روسيا.
واصلت اليونان مشوارها التاريخي بإقصاء فرنسا حامل اللقب من ربع النهائي والإطاحة بالجيل التاريخي الذي ضم زين الدين زيدان، وتيري هنري، ثم التشيك في نصف النهائي بالهدف الفضي في الدقيقة الأخيرة من الشوط الأول الإضافي، في هدف قاتل، قبل تكرار الفوز أمام البرتغال في المباراة النهائية بهدف نظيف، وسط دموع نجوم الجيل الذهبي للبرتغال كرستيانو رونالدو، ولويس فيجو، وديكو، وروي كوستا.
أوتو ريهاجل علق على انتقاد البرتغاليين لطريقة اليونان الدفاعية: "احتقرونا واعتقدوا أن الأمور على ما يرام، وأن طريقة لعبنا لا تستحق الدراسة والاستعداد الجيد، وكان بإمكان البرتغاليين رؤية ما كنا نلعبه بالضبط، لماذا لم يجدوا طريقة لمعالجة ما حدث لهم في المباراة الافتتاحية، كان أمامهم حوالي عشرين يومًا للقيام بذلك حتى المباراة النهائية التي حققنا فيها الفوز عليهم أيضا".
أوتو كشف عن تفاصيل ما سرده للاعبين: "بحلول الوقت الذي سيتعرفون فيه على أسلوب لعبنا، ستكون البطولة قد انتهت، وهذا ما حدث، وبحلول الوقت الذي تعلموا فيه أن يأخذونا على محمل الجد، كنا قد فزنا بالفعل ببطولة أوروبا".
الملك أوتو استخدم المدرسة القديمة
أوتو ريهاجل، أطلق عليه اليونانيون اسم "الملك أوتو" نسبة إلى أول ملوك مملكة اليونان والتي تأسست عام 1832 بعد استقلالها الكامل عن الدولة العثمانية.
قام ريهاجل بالتركيز على نقاط قوة اللاعبين، وعدم بذل الكثير من المجهود والوقت في التحليل التكتيكي
الإعلامي اليوناني فاسيليس سامبراكوس أصدر كتابا حمل اسم "المعجزة"، نقل فيه حديث اللاعبين عن ريهاجل.
المدافع الاحتياطي ستيليوس فينيتيديس: "لم يركز ريهاجل كثيرًا على التكتيكات"
مدافع احتياطي آخر، نيكوس دابيزاس: "لم يكن من النوع الذي يبالغ في التحليل وتغيير التكتيكات"
ثيودوروس زاجوراكيس قائد الفريق: "لم نتدرب على التكتيك كثيرًا في التدريبات".
سامبراكوس ذكر في كتاب المعجزة: "ريهاجل استخدم المدرسة القديمة للرقابة الفردية، حيث عانى المنافسون من أجل التعامل معه، رغم أنه لم يكن جديدًا إلا أنه يبدو مفاجئا للاعبين لتفكيك النظام اليوناني".
بنى ريهاجل طريقة لعبه 4-3-3 تتحول بسرعة عند فقدان الكرة إلى 4-5-1، كانت استراتيجيته تعتمد على معدل الجري والحيوية في الملعب، لتضييق المساحات أمام الخصم للركض بالكرة.
أما الهجوم فكان يعتمد على الكرات الطويلة، حتى أن المباراة النهائية في يورو أمام البرتغال، لم يخلق أي من الفريقين فرصة على المرمى، حتى سجل اليونانيون هدف في الدقيقة 57 برأسية أنجيلوس خاريستياس .
وصفها جون ماي مراسل بي بي سي: "نسخة كربونية من هدفي اليونان بالرأس ضد فرنسا والتشيك".
أما في مباراة اليونان فكان جورجيوس سيتاريديس ظهيرًا أيمنًا ولكن تم استخدامه أحيانًا كقلب دفاع إضافي، وكان مثاليا لإبطال فاعلية تيري هنري في مباراة ربع النهائي أمام فرنسا، حيث وضح تفوق الدفاع اليوناني، ليفشل هنري وزيدان وروبرت بيريز في إيجاد أي مساحة بعيدًا عن المدافعين اليونانيين.
لم يقدم ريهاجل سوى القليل من التوجيه للأسلوب الهجومي لليونان، ولم تكن هناك أنماط محددة للعب في الهجوم، مع الاعتماد على الكرات الثابتة لتسجيل الأهداف.
ذكر كتاب المعجزة: "يبدو أيضًا أنه كان هناك اتفاقا غير رسمي بين اللاعبين بأنهم سيحاولون خروج النتيجة في الشوط الأول 0-0، ثم المضي قدمًا في الشوط الثاني عندما يكون خصومهم متعبين أو محبطين. لقد نجح هذا النهج بشكل ممتاز في مرحلة خروج المغلوب".
أزمة المباراة النهائية
اختار الاتحاد الأوروبي الحكم الألماني ماركوس ميرك، وهو طبيب أسنان، لإدارة المباراة النهائية، ليثير مخاوف البرتغاليين، من ميله نحو مواطنه أوتو ريهاجل مدرب اليونان.
الحكم ميرك رد بسخرية: "إذا اتبعنا هذا المنطق، فأنا لدي حوالي 5000 مريض أسنان مسجلين في مسيرتي المهنية، وكان بعضهم برتغاليين ويونانيين، لدي خمسة مطاعم مفضلة أيضًا: "أحدهما برتغالي والآخر يوناني".
لقطات في حياة ريهاجل
ريهاجل ولد في أغسطس 1938 قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بأشهر قليل، في مدينة إيسن الصناعية، في وادي الرور غرب ألمانيا، وتوفي والده في صغره.
لعب لنادي "توس هيلين" المحلي، وكان يتقاضى 400 مارك شهريا، يمنحهم مباشرة لوالدته للمساعدة في مصاريف الأسرة، بعد الحرب العالمية الثانية.
تنقل ريهاجل بين أندية كايزرسلاوترن وهيرتا برلين حيث خاض 201 مباراة في الدوري الألماني، قبل أن يعلن اعتزاله وينتقل للتدريب بدءًا من عام 1972، ليقوم بتدريب دوسلدورف، وأرمينيا بيلفيلد، وبوروسيا دورتموند، وفيردر بريمن.
نجح ريهاجل في التتويج مرتين بالدوري الألماني مع لفيردر بريمن 87/88، و92/93، وبطولة لكأس الكؤوس الأوروبية 1992، لينتقل إلى تدريب بايرن ميونيخ، ولكن لم تنجح تجربته، لينتقل لقيادة كايزرسلاوترن ليصعد به إلى البوندسليجا وينجح في التتويج بالدوري الألماني بمجرد التأهل، قبل الانتقال لأول تجربة دولية مع منتخب خارج ألمانيا.
قاد ريهاجل اليونان للفوز ببطولة يورو 2004 في إنجاز تاريخي، وكذلك التأهل لكأس العالم 2010، للمرة الثانية في تاريخ اليونان.
خطأ ريهاجل يعود به للمستضعفين
بعد نجاح تجربته مع فيردر بريمن، كانت أندية أوروبا تتهافت عليه وتلقى عروضا من لاتسيو وريال مدريد، وبايرن ميونيخ، ليختار العملاق البافاري، وصرح وقتها: " "كنت مثاليًا. واليوم أنا واقعي وأعلم أنه على المدى الطويل، أفضل كرة قدم تُلعب حيث يوجد المال".
ولكن مع المال في بايرن لم ينجح ريهاجل فيما صرح به، حتى أن محمد شول نجم الفريق البافاري بالتسعينيات هاجم المدرب في الصحافة الألمانية: "إما ريهاجل أو أنا"، ليقرر وقتها رئيس النادي فرانز بيكنباور إقالة ريهاجل، ليعود إلى طريق النجاح مع المستضعفين في أوروبا.