أقيمت منذ أيام قليلة قرعة أول نسخة من الدوري الإفريقي (دوري السوبر الإفريقي سابقا) الذي وعد الاتحاد الإفريقي لكرة القدم (كاف) أن يغير من وجه الكرة الإفريقية. فهل هذه البطولة ستكون بداية مرحلة جديدة وقوية لكرة الأندية في إفريقيا أم ستؤدي لنهاية بطولات الأندية الإفريقية كما نعرفها.
أوروبا.. الأصل
منذ بدأ البث التلفزيوني المباشر لمباريات كرة القدم في الانتشار وبعد أن أصبح الاحتراف هو سيد اللعبة، تدفقت أموال الرعاية على الأندية والاتحادات من كل صوب، وأصبحت كرة القدم مع بداية تسعينيات القرن العشرين أكثر اللعبات الرياضية جذبا للأموال، وهو ما دفع الاتحادات القارية لتطوير بطولاتها للأندية والمنتخبات لزيادة عدد المباريات وزيادة المنافسة لجذب الرعاة والمشاهدين.
كان الاتحاد الأوروبي رائدا في ذلك كالمعتاد، فبدأ تطوير بطولاته للأندية التي كانت تعتمد على نظام خروج المغلوب التقليدي إلى نظم جديدة تزيد من عدد المواجهات.
بدأ الأمر في موسم 1992/1993 حينما تغير اسم بطولة أبطال أوروبا إلى اسم جديد وهو دوري أبطال أوروبا مع تغيير الدور ربع النهائي ليصبح دوري من مجموعتين بدلا من نظام خروج المغلوب.
كان التطوير المستمر في شكل المسابقات الأوروبية يتم مع مراعاة ألا تكون زيادة عدد المباريات وزيادة عدد الأندية المحلية المشاركة في البطولات القارية على حساب البطولات المحلية، ودون اعتبار لإرهاق اللاعبين، لذلك كان يتم التشاور دائما على شكل التطوير ونظام البطولات لا في داخل أروقة الاتحاد وحده بل بالاشتراك مع رابطة الدوريات المحترفة في أوروبا وكذلك رابطة اللاعبين المحترفين.
وهو ما أسفر عن استقرار النظام الحالي على عدد من الثوابت التي تكفل لكل الأطراف تحقيق أهدافها، وأهم هذه الثوابت ألا يتجاوز عدد المباريات القارية شهريا مباراتين فقط في وسط الأسبوع، بما يكفل استمرارية البطولة المحلية.
كذلك كانت المشاركة في البطولات القائمة أو المستحدثة أساسه هو مبدأ الجدارة المحلية الذي يمنح مقاعد المشاركة بناء على الفوز بالألقاب المحلية أو الترتيب في الدوري المحلي وليس تاريخ النادي أو ألقابه القارية السابقة.
لهذا رأينا باستمرار مشاركة فرق جديدة في البطولات الأوروبية، وهو ما انعكس على زيادة مدخولات أندية جديدة جراء مشاركتها. وهو ما أدى إلى تحسن مستويات هذه الأندية مما عاد على الدوريات المحلية في أوروبا إيجابا، عوضا عن اقتصار العوائد على حفنة من الأندية الكبيرة الغنية كما كان سيؤدي به مقترح دوري السوبر الأوروبي الذي خرج للنور في ربيع عام 2021 ووقف في وجهه الاتحاد الأوروبي بكل حسم.
وبناءا على هذه الأسس وعندما قرر الاتحاد تطوير شكل دوري أبطال أوروبا مجددا بداية من موسم 2024/2025 لمواجهة فكرة دوري السوبر الأوروبي.
استقر الأمر بعد مشاورات عديدة أن يكون دور المجموعات من 36 فريق من مجموعة واحدة، يلعب الفريق الواحد ثماني مباريات، بدلا من النظام الحالي الذي تلعب فيه الأندية ست مباريات. وهو ما يعني أن عدد المباريات الإجمالي الذي ستلعبه فرق الصدارة التي ستكمل مشوارها في البطولة للنهاية زاد بمقدار مباراتين فقط. وهو ما لا يخل بانتظام البطولات المحلية ولا يزيد حمل المباريات على اللاعبين بالشكل الكبير. وهكذا تطورت ونمت بطولات الأندية الأوروبية وزادت إيراداتها وعوائدها واستفاد الجميع من ذلك.
إفريقيا.. الصورة
على الجانب الآخر من المتوسط بدأ الاتحاد الإفريقي تقليد شقيقه الأوروبي في تغيير نظام بطولات الأندية، ففي عام 1992 أنشأ بطولة ثالثة تحت اسم كأس الاتحاد الإفريقي يشارك فيها الفرق أصحاب المركز الثاني في بطولات الدوري ثم أدخل نظام دور المجموعات مع تغيير مسمى بطولة أبطال الدوري لنفس المسمى الأوروبي تحت اسم دوري أبطال إفريقيا بداية من العام 1997.
وبعدها تم دمج بطولتي أبطال الكؤوس وكأس الاتحاد تحت اسم كأس الاتحاد (الكونفدرالية) بداية من موسم 2004، مع استحداث نظام تحول المهزومين في دور ثمن النهائي في دوري الأبطال لهذه البطولة على غرار كأس الاتحاد الأوروبي وقتها. كذلك منح الاتحاد الإفريقي أحقية المشاركة لفريقين في كل مسابقة للاتحادات المحلية صاحبة التصنيف الأعلى بناءا على نتائج أنديتهم في السنوات الخمس السابقة، وهو ما رفع من مستوى المنافسة في البطولتين بشكل ملحوظ.
استقر هذا النظام فترة طويلة ولم يتغير كثيرا حتى عام 2017 عندما تم توسيع دور المجموعات في البطولتين ليضم 16 فريقا. كل هذه التعديلات نجحت مثلما حدث في أوروبا في زيادة الرعاة وارتفاع مدخولات الاتحاد الإفريقي، وبالتالي ارتفاع قيمة جوائز البطولتين. وبالتالي كانت الصورة تشبه الأصل.
سوبر إفريقي موعود
في صيف عام 2021 ومع فشل فكرة دوري السوبر في أوروبا وإجهاض الاتحاد الأوروبي لها، بدأ الحديث في أروقة الكرة الإفريقية (بتشجيع واضح من فيفا) عن بطولة جديدة للأندية بنفس الفكرة تحت اسم دوري السوبر الإفريقي يشارك بها الأندية الكبيرة في القارة دون النظر لأي عوامل أخرى.
وكان الدافع المعلن والمبطن لإنشاء هذه البطولة الجديدة هو اجتذاب المزيد من الرعاة والأموال للاتحاد وأعضائه من الاتحادات المحلية. فالاتحاد الإفريقي أعلن وقتها أن مجموع جوائز هذه البطولة سيصل إلى 100 مليون دولار. في البداية تردد أن البطولة ستقام على مدار الموسم (أي من أغسطس حتى مايو) بمشاركة 24 فريقا سيتم تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات على أساس جغرافي دون توضيح أسس اختيار هذه الفرق ولا مصير البطولتين القائمتين.
ثم فيما يبدو أنه فشل في تأمين الرعاية الكافية للبطولة، تراجع الطموح في النسخة الأولى التي تقرر أن تقام في موسم 2023/2024 إلى مشاركة ثمانية أندية فقط.
وتم بالفعل اختيار هذه الأندية عبر خطابات مباشرة من كاف والشركة المنظمة للبطولة (وهي شركة إيطالية مجهولة تم تأسيسها خصيصا لهذا الحدث تحت اسم شركة دوري السوبر الإفريقي المحدودة AFSL ltd). لم يتم إعلان ماهية المعايير التي تم اختيار هذه الأندية الثمانية على أساسها. وعند معرفة هذه الأندية وهي كما أعلن: الأهلي المصري، والوداد المغربي، والترجي التونسي، وصان داونز الجنوب إفريقي، وبترو أتليتكو الأنجولي، وسيمبا التنزاني، وإنيمبا النيجيري، ومازيمبي الكونغولي، اتضح أن المعيار هو التمثيل الجغرافي أولا ثم النتائج في بطولة دوري أبطال إفريقيا في المواسم الأخيرة ثانيا مع إهمال الجدارة المحلية تماما.
حتى أن هذه الفرق ليست الثماني فرق الأعلى تصنيفا في الخمس سنوات الأخيرة وفقا لتصنيف كاف. ففريق مثل بترو أتليتكو، وهو حاليا الحادي عشر في تصنيف الخمس سنوات الأخيرة لـ كاف، أفضل إنجاز له هو الوصول لنصف نهائي دوري أبطال إفريقيا مرتين فقط في تاريخه ولم يحقق أي ألقاب سابقة. أما إنيمبا، وهو الثالث والثلاثين في التصنيف حاليا، فآخر مشاركة له في دوري الأبطال كانت في 2020 وخرج من الدور الأول وحتى في الكونفدرالية كانت آخر مشاركة في عام 2021 وخرج من دور الثمانية. كذلك كان أفضل إنجاز لنادي سيمبا، التاسع في التصنيف، هو الوصول لدور الثمانية في دوري الأبطال. أما عن مازيمبي فأفضل إنجاز له في السنوات الأخيرة بعد لقب 2015 هو الوصول لقبل النهائي في 2021 وهو حاليا الثالث عشر في التصنيف. إذاً فمعيار اختيار هذه الأندية الأربعة تحديدا ليس نتائجها السابقة بل لتمثيل مناطق جغرافية بعينها.
أما الأربعة الآخرون فهم الفرق الفائزة بدوري الأبطال في الثماني مواسم الأخيرة وهم الأعلى تصنيفا حاليا. وجدير بالملاحظة أن ستة من الفرق الثمانية كانوا متأهلين لدور الثمانية لدوري الأبطال في نسخته الأخيرة، فما الجديد إذن الذي ستقدمه هذه البطولة الذي سيجلب لها المشاهدين والرعاة. كذلك من غير المفهوم من سيشارك وعلى أي أساس في النسخة المقبلة هل هي نفس الفرق في كل مرة ومن سيخرج ومن سيدخل ولماذا؟ وإذا أقيمت النسخة المقبلة كما هو مأمول بمشاركة 24 فريقا، فما هو مصير بطولتي إفريقيا الحاليتين؟
أما عن نظام البطولة فالتصور الأول لبطولة من 24 فريقا مقسمين على ثلاثة مجموعات يجعل عدد المباريات لكل فريق في دور المجموعات وحده وقبل الأدوار الإقصائية 14 مباراة. وهو عدد كبير جدا لا يتناسب إطلاقا مع التزامات الفرق المحلية، ولكن بعد تخفيض الأندية لثماني فرق فقط أصبح النظام المطروح هو خروج المغلوب مباشرة أي أن مجموع مباريات البطولة بأكملها هو 14 مباراة فقط، فكيف سيتم تسويق مثل هذه البطولة ومن سيشتري حقوق البث التليفزيوني بمبلغ كبير لبطولة مبارياتها أقل من بطولة كأس محلية؟
البطولة المحشورة
ولأن عدد المباريات أصبح قليلا بعد قصر المشاركين على ثماني فرق فقط، تقرر "حشر" هذه البطولة في منتصف الموسم الإفريقي بين العطلتين الدوليتين لشهري أكتوبر ونوفمبر. إذ تقرر أن تبدأ في 20 أكتوبر وتنتهي في ١١ نوفمبر.
ولأن أكتوبر عادة كان يقام به الدور الإقصائي بين الفرق المهزومة في الدور التمهيدي الثاني لدوري الأبطال والفرق الفائزة من نفس الدور في بطولة الكونفدرالية، تقرر إلغاء هذا النظام. وهو ما يشكل تطورا سلبيا لبطولة الكونفدرالية وسيضعف من مستواها بشكل ملحوظ.
وكما أعلن وقت إجراء القرعة، فإن الفاصل الزمني بين المباريات لا يزيد عن أربعة أيام لإنهاء البطولة كلها في 21 يوما فقط، وهو ما يعني تفرغ الفرق المشاركة تماما لها دون لعب أي مباريات محلية على الإطلاق في نفس الفترة.
وبعد أن تم التلميح لأن الفرق المشاركة في البطولة الجديدة ستعفى من المشاركة في الأدوار التمهيدية لدوري الأبطال وستشارك مباشرة في دور المجموعات، تم التراجع عن ذلك وستلعب هذه الفرق في الدور التمهيدي الثاني كالمعتاد عدا إنيمبا الذي سيبدأ البطولة من الدور التمهيدي الأول!
وهو ما يمثل عبء كبيرا على الفرق المشاركة في هذه البطولة، إذ أن الفريق الذي سيكمل مشواره للنهاية في دوري الأبطال وفي دوري السوبر سيلعب 20 مباراة بدلا من 14 مباراة سابقا، وزاد من سوء الأوضاع ضغط مواعيد دور المجموعات ببطولتي إفريقيا لهذا الموسم (دون سبب وجيه). بلعب اربع جولات في الفترة بين 24 نوفمبر إلى 19 ديسمبر. أي أن الفرق المشاركة في البطولة الجديدة قد تلعب في الفترة من 20 أكتوبر حتى 19 ديسمبر ما يصل إلى 10 مباريات قارية، دون الأخذ في الاعتبار إن فريق مثل الأهلي سيشارك كذلك في كأس العالم للـندية في الفترة من 12-22 ديسمبر. وهو ما يعني أن الاتحاد الإفريقي لا يضع في اعتباره أن هذه الأندية لديها أي نوع من الالتزامات المحلية ولا يهمه انتظام سير البطولات المحلية.
بل ويضع لمواعيد مبارياته مواعيد تتضارب مع كأس العالم للأندية دون النظر للفريق الذي يمثل إفريقيا في هذه البطولة، وغير بعيد عن هذا تحديد موعد كأس السوبر الإفريقي يوم 15 سبتمبر الجاري، وهو نفس موعد جولة الذهاب في الدور التمهيدي الثاني لدوري الأبطال أي أن كاف يضع مواعيد متضاربة لبطولاته ذاتها.
كل هذا والبطولة الجديدة يشارك بها هذا الموسم ثماني أندية فقط، فماذا سيحدث إذن الموسم المقبل إذا شارك بها 24 فريقا؟
وهكذا وفي سبيل هذه البطولة الجديدة (التي تم إعادة تسميتها باسم الدوري الإفريقي حتى لا يغضب الصديق الأوروبي) قرر كاف التضحية ببطولاته القديمة وبأندية الصف الثاني لمصلحة بطولة نخبة مخصصة لفئة بعينها من الأندية.
كما قرر ذبح بطولات الدوري المحلية عبر إغراقها في أجندة قارية شديدة الازدحام وسط صمت غريب من الاتحادات المحلية، وكذلك ضحى بلاعبي القارة عبر وضع حمل كبير من المباريات على فرق الصف الأول وهو ما سيؤثر بلا شك على مستوى كل بطولات الأندية الإفريقية بل ومنتخباتها كذلك.
في النهاية فالأفكار الحقيقية المفيدة لتطوير الكرة الإفريقية كثيرة لكنها بالتأكيد لا تمر عبر طريق الدوري الإفريقي المذكور والذي سيدمر الكرة الإفريقية إلى غير رجعة.
وهذه الأفكار تحتاج أكثر ما تحتاج إلى تحرك الاتحادات المحلية للدفاع عن مصالحها في وجه اتحاد قاري لا ينظر إلا تحت قدميه فقط.