منذ جاء جياني إنفانتينو رئيسا لـ فيفا في عام 2016 وهو يبحث عن أفكار لبطولات جديدة وعن تطوير للبطولات القائمة، والهدف المعلن بكل وضوح هو زيادة الأموال في خزائن الاتحاد الدولي، وبالتالي الاتحادات الوطنية.
فالاتحاد الدولي يستهدف تحقيق مدخولات تقترب من 11 مليار دولار من عقود البث التليفزيوني وعقود حقوق الرعاية في بطولة كأس العالم القادمة عام 2026 مقارنة بـ 19 مليون دولار فقط حققها من حقوق الرعاية لكأس العالم 1982. فكأس العالم وهو البطولة الأكبر والأهم التي ينظمها فيفا، بل والحدث الرياضي الأهم في العالم هو الدجاجة التي تبيض ذهبا للجميع.
ولكن يبدو أن رئيس فيفا الجديد إنفانتينو سيصبح مثل الرجل الذي ذبح دجاجته التي تبيض بيضة ذهبية واحدة كل يوم ليحصل على الذهب كله مرة واحدة.
كأس عالم بـ 48 فريقا
كانت بداية السعي وراء البيض الذهبي في يناير 2017 عندما وافق مجلس الاتحاد الدولي بالإجماع على توسيع مسابقة كأس العالم لتضم 48 فريقا بدلا من 32 فريقا والحجة وقتها كانت هي إتاحة الفرصة أمام عدد أكبر من المنتخبات الوطنية للمشاركة في المسابقة العالمية الأكبر.
ولم يضع هذا القرار في اعتباره صعوبة استضافة بطولة بهذا الحجم والعوائق التنظيمية والتمويلية التي ستواجه البلد أو البلدان المنظمة، فإقامة مسابقة يبلغ عدد مبارياتها 80 مباراة (كما تقرر في البداية) في مدة لا تتجاوز 32 يوما سيتطلب عدد لا يقل عن 12 إلى 16 استادا على المستوى المطلوب من فيفا، وهو ما يستبعد الغالبية العظمى من دول العالم من التقدم للتنظيم وخصوصا دول إفريقيا وآسيا.
وهذا ما يجعل الخيار العملي الوحيد هو التنظيم المشترك كما سيحدث في أولى البطولات بشكلها الجديد في المكسيك والولايات المتحدة وكندا عام 2026. وكذلك لم يضع هذا القرار في اعتباره انخفاض مستوى البطولة نتيجة توسيع عدد المنتخبات المتأهلة أو حتى انعدام تكافؤ الفرص والإثارة في دور مجموعات مكون من 16 مجموعة من ثلاثة فرق فقط تقام مبارياتها الثلاثة في مواعيد غير متزامنة، على عكس المجموعات الرباعية التي تبقى المنافسة فيها حتى آخر مباراة.
وكان نجاح كأس العالم بقطر والإثارة التي شهدتها مباريات المجموعات حتى آخر دقيقة دافعا لـ فيفا لمراجعة نظام كأس العالم 2026. إذ اتخذ قرارا في مارس 2023 بالعودة لنظام المجموعات ذات الأربعة فرق، أي أنه سيتم تقسيم الـ 48 فريقا المتأهلة إلى 12 مجموعة مع تأهل الأول والثاني من كل مجموعة بالإضافة لأفضل ثماني ثوالث، وهو ما سيرفع إجمالي عدد مباريات كأس العالم إلى 104 مباراة، مما سيجعل تنظيم مثل هذه البطولة كابوسا تنظيميا لأي دولة أو دول منظمة وسيرفع عدد الأيام المطلوبة لإقامة هذه البطولة لأكثر من 40 يوما متصلة.
وتجاهل فيفا أن نظام المجموعات الرباعية لا ينجح ولا يكون في قمة إثارته إلا إذا كان التأهل من نصيب فريقين فقط، فوجود نظام أفضل الثوالث يقلل كثيرا من الإثارة كون الفريق الثالث قد يحتاج تعادلا فقط في المباراة الثالثة أو قد لا يحتاج نقاطها من الأصل.
كما تفتح الطريقة المعقدة في تحديد مواجهات الدور التالي المصحوبة بنظام أفضل الثوالث، باب للفرق للتساهل في المباراة الأخيرة لاختيار مسارا معينا نحو المباراة النهائية، وهو ما يحدث كثيرا في بطولات الـ24 فريقا حاليا، فالمشكلة الحقيقية التي تجاهلها فيفا هي ليست في نظام المجموعات بل في نظام الـ48 فريقا ذاته والذي حتما سيضعف من مستوى البطولة أيا كان نظام دورها الأول.
والحقيقة أن الاتحادات القارية في أوروبا وإفريقيا وآسيا قد سبقت فيفا في توسيع بطولاتهم القارية من 16 إلى 24 فريقا. وظهر انخفاض المستوى نتيجة توسيع البطولة واضحا في يورو 2016 ثم يورو 2020. أما في إفريقيا فلم تكن المشكلة في انخفاض المستوى فقط، بل شكل توسيع البطولة تحديا تنظيميا عند تطبيقه لأول مرة في 2019 وحتى الآن.
كأس عالم كل عامين
لم تنته أفكار البيض الذهبي عند هذه الفكرة، فبعد عودة النشاط الرياضي عقب الانحسار الجزئي للوباء ظهر في مايو 2021 اقتراح سعودي بجعل كأس العالم يقام كل عامين بدلا من كل أربعة أعوام، وهو ما تلقفه فورا إنفانتينو وأرسين فينجر المسؤول عن التطوير العالمي لكرة القدم حاليا بـ فيفا ليضعوا بحث إمكانيته للتصويت بين الدول الأعضاء.
وبالفعل لاقى اقتراح بحث الفكرة تأييد 166 دولة من الدول الأعضاء رغم موجة الاعتراضات التي صدرت عند طرحه. فالاتحادين الأوروبي (يويفا) والأمريكي الجنوبي (الكومنيبول) اعترضا بوضوح على الفكرة. وكذلك اعترض الاتحاد الدولي للاعبين المحترفين (فيفبرو) ورابطة الأندية الأوروبية على الفكرة كونها تزيد من الضغط على اللاعبين، إلا ان فيفا لم يبال بكل ذلك وعقد في ديسمبر 2021 ما أسماها القمة الدولية لمستقبل كرة القدم.
في هذه القمة عرض فيفا نتائج دراستي جدوى عن إقامة كأسي العالم للرجال والسيدات كل عامين وبالطبع أوضحت النتائج (كما يريدها فيفا الذي مول هاتين الدراستين) أن العائد المتوقع من ذلك هو زيادة المخصصات السنوية للاتحادات المحلية من 6 مليون دولار سنويا الآن إلى نحو 25 مليون دولار سنويا. كما شجعت نفس الدراسة الاتحادات القارية على اتباع نفس النهج مع بطولاتها للمنتخبات حيث أن ذلك سيرفع من مدخولات كرة القدم العالمية بنحو 6.6 مليار دولار في أول أربع سنوات.
ورغم أن المقترح بعد ذلك تم تأجيله بعد الاعتراضات الكبيرة من مجتمع كرة القدم إلا أنه في اعقاب كأس العالم بقطر ٢٠٢٢ بدأ انفانتينو في الحديث مجددا عن اقامة كأس العالم كل ثلاثة أعوام! ففكرة جمع المزيد من الأموال عن طريق عقد كأس العالم بمعدل اقرب من الاربعة سنوات يبدو أنها مازالت تسيطر عليه.
كأس عالم جديد للأندية
ولكن الأفكار لم تتوقف عند ذلك فظهرت في 2019 فكرة جديدة لـ إنفانتينو أقرها مجلس فيفا في مارس 2019 لإقامة كأس عالم موسع للأندية يضم 24 فريقا ويقام في الصيف بدلا من موعده الحالي في ديسمبر. وأختير صيف 2021 لإقامة أول نسخ هذه البطولة رغم أن صيف نفس العام كان سيشهد بطولتي كأس الأمم الإفريقية (قبل تأجيلها ليناير 2022) والكأس الذهبية لـ كونكاكاف. قبل أن يطيح فيروس كورونا بكل هذه الترتيبات بعد تأجيل بطولتي الأمم الأوروبية وكوبا أمريكا إلى صيف 2021، وهو ما أجل الحديث عن البطولة الجديدة حتى نهاية 2022 عندما صرح إنفانتينو أن كأس العالم للأندية بشكلها الجديد ستبدأ في صيف 2025 وستضم 32 فريقا وستقام كل أربع سنوات، وهي الخطة التي أقرها مجلس فيفا في مارس 2023 مع إعادة انتخاب إنفانتينو لأربع سنوات جديدة. والحقيقة هي أن إقامة هذه البطولة هو بديل خلفي لفكرة إقامة كأس العالم كل عامين، حيث أن بهذا الشكل سيصبح لاعب الصف الأول في أوروبا على موعد مع بطولة اليورو مع منتخب بلاده في صيف 2024 ثم كأس العالم للأندية في صيف 2025 ثم كأس العالم للمنتخبات في صيف 2026 دون أي راحة سلبية صيفية.
والغريب كذلك في هذه الخطة إنها تتجاهل تماما أنه حتى الآن من المقرر إقامة كأس الأمم الإفريقية في صيف 2025، فكيف سيتسق هذا مع ذاك! ولم يصرح أيا من مسؤولي الاتحاد الإفريقي بأي شيء عن هذا التعارض، فيبدو أنهم يأسوا أخيرا من إقامة البطولة في الصيف! خاصة أن هذه البطولة تحديدا لا تجد من ينظمها حتى الآن.
أجندة دولية جديدة لمصلحة اللاعبين
ولمواجهة ما قد تثيره منظمات اللاعبين والأندية من أن هذه الاقتراحات ستؤدي إلى إرهاق شديد للاعبين، عمل أرسين فينجر على الترويج لأجندة دولية جديدة توفر راحة أكبر للاعبين، وفي نفس الوقت تسمح بإقامة كل هذه البطولات.
فالأجندة الدولية الجديدة التي يقترحها فينجر ستلغي التوقفات الدولية خلال الموسم الموجودة حاليا في شهور سبتمبر، وأكتوبر، ونوفمبر، ومارس، في مقابل اقتراح من اثنين. الأول هو راحة دولية واحدة لمدة أربعة أسابيع في أكتوبر والثاني هو تقسيمها إلى ثلاثة أسابيع في أكتوبر، وأسبوعين في مارس لإقامة تصفيات البطولات الدولية المجمعة التي ستصبح سنوية على أن تقام في شهر يونيو (العام الزوجي لكأس العالم والعام الفردي للبطولات القاريات).
كما يلغي هذا المقترح التوقف الدولي للبطولات المجمعة في يناير مما سيجبر الاتحادين الإفريقي والآسيوي على إقامة بطولتيهما القارية في الصيف متجاهلا ظروف القارتين المناخية، كذلك يقترح فينجر أن يكون 25 يوما من شهر يوليو راحة سلبية إجبارية لكل اللاعبين لاستعادة طاقتهم قبل بدء الموسم الجديد في أغسطس.
الحقيقة أن آخر ما يفكر فيه إنفانتينو أو فينجر أو رؤساء الاتحادات المؤيدة لهذه الأفكار هي راحة اللاعبين. فلاعب فرق المستوى الأول في أوروبا حاليا وقبل هذه الاقتراحات الأخيرة يلعب في المتوسط 38 مباراة في الدوري المحلي، و5-7 مباريات في الكأس و4-6 مباريات في كأس رابطة المحترفين ثم يلعب 12-14 مباراة في بطولات الأندية الأوربية.
ويضاف إلى ذلك أن اللاعب الدولي يلعب في تصفيات كأس العالم أو تصفيات البطولة القارية عدد قد يصل إلى 10 مباريات خلال الموسم، أي أن اللاعب الدولي الأساسي في أندية المستوى الأول في أوروبا قد يلعب في الفترة من منتصف أغسطس إلى الأسبوع الأول من يونيو حاليا (وهي فترة توازي 38 أسبوعا) متوسط عدد من المباريات قد يصل إلى أكثر من 70 مباراة. أي بمعدل مباراة كل أربعة أيام.
وكل ذلك قبل تطبيق النظام الجديد لبطولات الأندية الأوروبية الذي سيجعل بداية من عام 2024 مباريات دور المجموعات لدوري أبطال اوروبا تزيد بنحو أربعة مباريات عن العدد في النظام الحالي.
وفي العام الذي يقام فيه بطولة قارية مجمعة أو كأس العالم في يونيو يزيد عدد المباريات المحتملة للاعب بنحو 7-9 مباريات أخرى بين مباريات تحضيرية قبل البطولة ومباريات البطولة نفسها، وتنتهي البطولة في أول أسبوع من يوليو وفي الأسبوع التالي مباشرة ينضم اللاعب للمعسكر التحضيري لناديه استعدادا للموسم الجديد, وبالتالي كانت الفرصة الوحيدة لراحة اللاعبين هي الأعوام الفردية التي لا تقام بها مسابقات كبرى في يونيو. فإذا افترضنا تطبيق الأجندة الجديدة فهل سيكون ذلك أكثر راحة للاعب؟ سنرى حالا.
وفقا للأجندة الدولية الجديدة، سيلعب اللاعب نفس عدد المباريات في الدوري المحلي والكؤوس المحلية ولكن في عدد أسابيع أقل. كيف؟ أولا، يجب إنهاء المسابقات المحلية قبل 15 مايو لإعطاء فرصة للاعبين للانضمام قبل بطولة المنتخبات (كأس العالم أو الكأس القاري) بـ 15 يوما وفقا للقواعد الحالية أو للاستعداد لكأس العالم للأندية الموسعة.
ثانيا: سيتم تأخير بدء المسابقات المحلية لمدة أسبوعين لأن الراحة السلبية الإجبارية بعد البطولة الكبرى ستنتهي في نهاية شهر يوليو والأندية تحتاج نحو أربعة أسابيع من الإعداد قبل بدء النشاط المحلي، وهكذا سيصبح على اللاعب لعب نحو 60 مباراة مع ناديه (أو أكثر في حال تطبيق نظام دوري الأبطال الجديد في أوروبا أو دوري السوبر في إفريقيا) في 29 أسبوعا بدلا من 38 أسبوعا (38 أسبوع - 4 أسابيع توقف دولي في أكتوبر - أسبوعين تأخير في البداية - 3 أسابيع تبكير في نهاية الموسم = 29 أسبوعا). أي أن اللاعب سيلعب مباراة محلية كل ثلاثة أيام! فأين الراحة إذا؟
ويدفع فينجر إلى أن تجميع التوقف الدولي في فترة واحدة في أكتوبر سيقلل من متاعب السفر للاعبين للعب المباريات الدولية، وإن كان هذا صحيحا إلا أن ضغط المباريات بعد ذلك سيضيع هذا المكسب. ولا يضع هذا الاقتراح في اعتباره أن توقف المسابقات المحلية لنحو شهر كامل يجعل الأندية تحتاج إلى شبه فترة إعداد جديدة للعودة للياقة المباريات من جديد.
نحو كرة قدم جديدة
ما زاد الطين بلة هو أن في مواجهة تصاعد الاحتجاجات على ضغط المباريات وإجهاد اللاعبين، بدأ الاتحاد الدولي في دراسة بل وتجربة خمسة تعديلات في قانون اللعبة. وهي:
-جعل المباريات من 60 دقيقة على شوطين على أن تتوقف الساعة عند توقف اللعب.
-فتح التبديلات دون قيود.
-استبعاد الحاصل على إنذار من اللعب لمدة خمسة دقائق.
-ركلات تماس بدلا من رميات التماس.
-بدء اللعب مباشرة من الضربات الثابتة دون الحاجة لتمريرها لزميل.
أي أن تصبح كرة القدم لعبة أخرى غير التي نعرفها وأقرب إلى كرة اليد !
تنفيذ هذه التعديلات وخاصة التعديل الأول يجعل كرة القدم التي كانت تقام مبارياتها الرسمية في أي ملعب قانوني بأي طاقم حكام ويسهل متابعتها من الجمهور الحاضر مستحيلة، فالآن يمكن على أي مشاهد في المدرج أو حتى على سطح المنزل المجاور للملعب أو أي عضو جهاز فني متابعة الوقت على ساعته الخاصة العادية وفقا لمقولة ”نظبط ساعاتنا مع بعض” الشهيرة، أما أن يتم إيقاف الوقت مع كل توقف للعب فسيتطلب تطبيقه تزويد الملاعب بشاشات مزودة بتوقيت مرتبط بساعة الإيقاف التي مع الحكم حتى لا يفتح بابا للخلاف على الوقت المتبقي! أي أن النتيجة ستكون هي نهاية لإمكانية إقامة مباريات كرة قدم رسمية في معظم ملاعب أندية الدرجات الأدنى وأندية الهواة في العالم اجمع، وكذلك اقتراح فتح عدد التبديلات دون قيد الذي في ظاهره إراحة اللاعبين ولكنه عمليا سيجعل المباراة دون طعم أو لون، كون الفريق الذي سيبدأ المباراة قد ينهيها بلاعبين مختلفين كليا عن ما بدأها!
ومن المؤكد أن استمرار الدفع في اتجاه زيادة عدد البطولات وبالتالي عدد المباريات التي يخوضها اللاعبون خلال الموسم سيعطي دفعة لهذه التعديلات، كونها تقلص من مدة المباريات وتفتح عدد التبديلات مما سيتم ترويجه (وفقا لدرسات سيتم وضعها وقتها) على إنه لمصلحة اللاعبين.
وهكذا سيودي السعي الدؤوب من فيفا وراء البيض الذهبي بكرة القدم التي نعرفها إلى ذمة التاريخ، وقد نعلن في وقت قريب لا يتجاوز العشر سنوات من الآن وفاة اللعبة الجميلة ونهايتها إلى الأبد.