هل سمعت عن تأثير الفراشة يوما ما؟ هي استعارة لتوضيح مدى تأثير واقعة صغيرة في حدوث أشياء كبيرة.
وهنا تسبب بكاء أرانتيس دو ناسيمنتو أو المعروف باسم دونينيو في تغير مسار تاريخ المونديال حتى الآن.
بكاء في الـ16 من يوليو سنة 1950 في البرازيل كان له تأثيره البالغ على تاريخ المونديال حتى الآن.
بكى دوندينهو بسبب نهائي المونديال، ووعده نجله إدسون بجلب كأس العالم للبرازيل وهنا بدأت قصة أعظم لاعب في تاريخ البطولة العريقة.. بيليه.
لكن قبل ذلك البكاء بقرون بدأت قصة أخرى صنعت أسطورة البرازيل الكروية في المونديال بسبب الجينجا التي جاءت من الكابويرا.
لكن ما هي الجينجا والكابويرا من الأساس؟ لنبدأ القصة.
في القرن الـ16 زحف البرتغاليون إلى البرازيل بكثرة وجلبوا معهم العديد من العبيد الأفارقة وبالتحديد من أنجولا وموزمبيق وبدأ الصراع بين الطرفين.
من أجل الهروب من العبودية والدفاع عن النفس أتقن الأفارقة فن يُعرف باسم الكابويرا وهو فن يجمع بين عناصر الرقص والحركات البهلوانية السريعة، وبدأ ذلك الفن ينتشر كثيرا في منطقة باهيا حيث يتواجد العديد من الأفارقة.
الهدف من الكابويرا هو خداع الخصم بتلك المراوغات السريعة لإلحاق الأذى به وعدم التعرض في المقابل للأذى منه.
نتيجة لذلك جرم القانون البرازيلي الكابويرا واعتبر ممارستها جريمة يعاقب صاحبها عليها.
في نهاية القرن الـ19 ألغت البرازيل العبودية رسميا وفي الوقت ذاته ظل فن الكابويرا مُحرما رغم توارث الأجيال له على مدار ثلاثة قرون.
لذا جاءت فكرة استخدام أحد تكنيكات الكابويرا والتي تُدعى جينجا في اللعبة الجديدة القادمة إلى البرازيل.. كرة القدم.
توصف الجينجا بإنها هي التي "تمنح اللاعبين البرازيليين سرعتهم وإيقاعهم في المباريات وتمكنهم من اللعب بشكل جميل، هي الروح المتأصلة في الحمض النووي للبرازيليين".
تكنيك الجينجا يعتمد على جعل قدم واحدة ثابتة على الأرض وإحداث المراوغة بالقدم الأخرى لخداع الخصم.
الجينجا كانت تعتمد على الركض والمراوغة والسيطرة على الكرة بجميع أجزاء القدم مع القيام بحركات مفاجئة أو الالتفاف حول المدافع.
وبالفعل أتقن البرازيليون الأفارقة تلك المهارة بشدة ومنهم بدأت تنتقل إلى باقي الأعراق المختلفة في البلد.
استخدام الجينجا كان لا يعرض صاحبه لأي عقوبة على عكس الكابويرا.
كارثة الماراكانا
أقيم كأس العالم قبل الحرب العالمية، الثانية ثلاث مرات أعوام 1930 و1934 و1938 وكانت البطولة الأنجح للبرازيل هي الثالثة والتي تأهلوا فيها لنصف النهائي وفي النهاية حققوا المركز الثالث.
توقفت البطولة وحاولت البرازيل استضافة النسخة الرابعة في عام 1946 ولكن لكثرة الاعتذارات تم إلغاء البطولة وفي النهاية نجحت في استضافة البطولة في 1950.
بدأ المنتخب البرازيلي البطولة بقوة وفاز في مباراتين وتعادل في واحدة وتأهل للمرحلة النهائية التي كانت تقام بنظام الدوري في مجموعة ضمت أوروجواي والسويد وإسبانيا.
اكتسح المنتخب البرازيلي نظيره السويد 7-1 ثم إسبانيا 6-1، واحتاج للتعادل فقط في اللقاء الأخير –الذي أصبح بمثابة النهائي- أمام أوروجواي.
احتشد في ملعب الماراكانا الذي شُيد خصيصا من أجل رفع البرازيل للكأس ما يقرب من 200 ألف مشجع، تم تسجيل أغنية تُدعى "البرازيل تنتصر"، وفريق يرقص السامبا ينتظر صافرة النهاية من أجل الاحتفال.
صحيفة "أو موندو" طبعت صورة وكتبت عليها "الأبطال"، حتى أن عمدة ريو دي جانيرو أعد خطابا من أجل "أبطال العالم".
كل ذلك كان بسبب التفاؤل مما حدث قبل النهائي بعام إذ التقى الفريقان في بطولة أمريكا الجنوبية –كوبا أمريكا فيما بعد- واكتسح المنتخب البرازيلي نظيره أوروجواي بخمسة أهداف لهدف.
الحماس في كل مكان والحناجر تهتف بأعلى صوت للبرازيل لما لا والتاريخ سيُكتب خلال وقت قليل.
لكن حدث ما لم يكن في الحسبان وفرط المنتخب البرازيلي في تقدمه بهدف وخسر بهدفين ليعم الصمت أرجاء البلد كلها وليس ملعب الماراكانا فقط، إلقاء الدبوس كان سيحدث صوتا في تلك الأيام الحزينة.
حتى أن مُسجل الهدف الثاني لأوروجواي في البرازيل ألسيديس جيجيا قال: "ثلاثة فقط جعلوا ملعب الماراكانا يصمت، البابا وفرانك سيناترا وأنا".
ألقى البرازيليون اللوم على الهزيمة الكارثية على الجينجا ورأوا إنها هي السبب الرئيسي فيما حدث في أمام أوروجواي لأنه "ما جدوى المراوغة والمتعة طالما لا نفوز؟" على حد قولهم.
ما حدث في كأس العالم 1950 والهزيمة في ربع نهائي مونديال 1954 من المجر 4-2 دعم ذلك اللوم على الجينجا وتم تحريمها من المدربين في التدريبات والمباريات وبدأت البرازيل تنتهج الأسلوب الأوروبي في لعبها.
وهنا بدأت أزمة الهوية في البرازيل.. هل تلعب بأسلوب الكرة الأوروبية المنظم والاعتماد على التكتيك دون المهارات أم تعود إلى الجينجا؟
حتى أن البرازيل قررت عدم ارتداء الزي الأبيض والسروال الأزرق مرة أخرى بعد تلك الكارثة وتم تغيير القميص للون الأصفر الشهير.
نور يلوح في الأفق.. ديكو
في عام 1878 اخترع توماس إديسون المصباح الكهربائي وفي 23 أكتوبر 1940 وُلد من سينير الطريق إلى البرازيل إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو أو من يعرف حاليا في العالم أجمع باسم بيليه.
سبب إطلاق اسم إدسون على المولود كان تيمنا باسم توماس إديسون وقرر والديه إزالة حرف "I" فأصبح إدسون بدلا من إديسون.
اسم الشهرة للطفل كان ديكو أما بيليه فقد جاء عن طريق نطقه الخاطئ لاسم حارس فاسكو دي جاما بيلي ومن هنا جاء الاسم الذي عُرف به في العالم.
ديكو أو بيليه ولد بهدية من خالقه، كان يتقن الجينجا مثلما كان يتنفس ويشرب.
في الأحياء الفقيرة في ساو باولو وسط المنازل المتهالكة والأراضي غير الممهدة كان يلعب بيليه الكرة رفقة أصدقائه لكن ليس من أجل الانتصار فقط بل من أجل الإبداع وتعلم حركات جديدة.
فكانوا يمررون الكرة لبعضهم البعض دون أن تسقط على الأرض حتى لو اضطروا لتمريرها من أعلى المارة في الطريق أو من أعلى البيوت، يقومون بأي شيء حتى لا تلمس الكرة الأرض وإلا فمن سيتركها تسقط سيكون هو الخاسر.
أحد أسباب مهارة بيليه كانت أن والده كان لاعب كرة قدم يدعى دونينيو ولكن لسوء الحظ تعرض الأخير لإصابة في الركبة أجبرته على الاعتزال فكان يعمل كعامل نظافة في أحد المستشفيات وفي حديقة المستشفى كان يدرب نجله بعدما كان يساعده في تنظيف المراحيض.
"رأيت أبي يبكي بشدة بعد هزيمتنا في نهائي كأس العالم 1950 ووعدته بأن أجلب له كأس العالم" بيليه.
تحت اسم "الحفاة" كون بيليه فريقه وخاض به منافسات بطولة على ملعب ترابي في ساو باولو أمام أعين كشاف نادي سانتوس والديمار دي بريتو الذي قرر ضمه إلى سانتوس.
وفي وسط الدورة كاد بيليه يتعرض للحبس لسرقته هو وأصدقائه بعض حبوب الفول السوداني لبيعها من أجل شراء أحذية قبل خوض النهائي ولكن القدر كان رحيما به ولم يستطع أحد الإمساك به.
ورغم الهزيمة في النهائي إلا أن بيليه تألق بشدة وسجل أكثر من هدف بطريقة مُبهرة ما جعل الحاضرين يهتفون باسمه وفي النهاية قرر الكشاف اصطحابه إلى سانتوس.
في سانتوس رفض مدرب الفريق أن يلعب بيليه بأسلوب الجينجا وكان يطلب منه كثيرا الاعتماد على التكتيك ما أدى إلى شعوره بالفشل.
لكن ذات يوم انفجر بيليه تسلم كرة في وسط الملعب وراوغ أكثر من نصف الفريق قبل أن يهيئ الكرة لنفسه ويسددها بركلة خلفية مزدوجة في الشباك لتبدأ رحلة الإبداع.
كأس العالم 1958.. فليستمتع العالم بالسحر البرازيلي
عين الاتحاد البرازيلي فيسنتي فيولا مديرا فنيا للبرازيل قبل انطلاق كأس العالم وضم معه صاحب الـ17 عاما بيليه ومعه جارينشا وزيتو وماريو زاجالو ومازولا وكلهم كانوا نجوم أنديتهم في ذلك الوقت.
رفض فيولا اللجوء لأسلوب الجينجا واعتمد على التكتيك الأوروبي في البطولة وبدأوا البطولة بفوز غير مقنع على النمسا بثلاثية دون رد ثم تعادلوا سلبيا مع إنجلترا وفازوا على الاتحاد السوفيتي بهدفين دون رد في ختام دور المجموعات.
المباراة الأخيرة بالتحديد كانت هي بداية النهضة والعودة إلى الجينجا بالظهور الدولي الأول لبيليه وجارينشا سويا.
غير المنتخب البرازيلي من طريقة اللعب فاعتمد على 4-2-4 بدلا من 2-3-5 و3-4-3 بعدما كان يعتمد عليهما في السابق.
في فيلم "بيليه مولد أسطورة" يشار إلى أن فيولا غير أسلوب لعبه خلال مشوار البطولة وبالتحديد قبل مواجهة السويد في النهائي وطلب من اللاعبين اللجوء إلى الجينجا بعدما شعر بعدم راحتهم في أسلوب اللعب التكتيكي والتقيد بتعليمات محددة.
وفي المؤتمر الصحفي الذي سبق المباراة قال جورجي رينور المدير الفني للسويد: "لو سجلنا هدفا مبكرا سنفوز على البرازيل".
وبالفعل كان له ما أراد في الدقيقة الرابعة لكن ذلك اليوم شمسه أشرقت من أجل الجوهرة بيليه.
ملك السويد في الملعب والجمهور السويدي يهتف بشدة فكأس العالم يقترب ولكن كل شيء تحول لانبهار خلال الدقائق التالية.
أدرك فافا التعادل للبرازيل وسجل هدف التقدم في 32، ذلك قبل أن يظهر بيليه ويقهر كل الصعاب التي مر بها ليسجل أحد أجمل أهداف المونديال في ذلك الوقت ويبهر الحاضرين.
تسلم رائع للكرة بالصدر ومرور بالكرة من أعلى رأس المدافع السويدي داخل منطقة الجزاء ثم التسديد بيمناه بكل قوة لتسكن الشباك وسط تصفيق الحاضرين لما رأوه من إبداع.
بعد ذلك سجل ماريو زاجالو الهدف الرابع للسليساو وتبعه بيليه بهدف خامس، لينتهي اللقاء بانتصار البرازيل بخمسة أهداف لهدفين.
تشير التقارير إلى أن ملك السويد هبط خصيصا إلى أرضية الملعب لإلقاء التحية على ذلك الفتى صاحب الـ17 عاما الذي هزم منتخب بلاده.
وعن الهدف المُبهر قال بيليه: "كانوا في أوروبا في ذلك الوقت لا يعرفون كيف تراوغ الخصم بتمرير الكرة من أعلى رأسه، المدافع السويدي فوجئ بما فعلته".
وبفضل ذلك الجيل أصبح البرازيل هو المنتخب الوحيد من خارج أوروبا الذي يفوز بلقب كأس العالم في القارة الأوروبية حتى الآن.
وبعد أربع سنوات توج منتخب البرازيل باللقب الثاني له على التوالي بمشاركة بيليه.
ورغم عدم التواجد في نصف النهائي في نسخة عام 1966 إلا أن السيليساو وبيليه عادوا في عام 1970 وتوج راقصو السامبا باللقب.
تتويج باللقب ثلاث مرات انتظر منتخب إيطاليا 12 عاما أخرى ليعادل رقم البرازيل بالظفر بنفس عدد الألقاب في 1982.
وحتى الآن وبفضل تلك الثلاثية المونديالية خلال أربع نسخ من البطولة، يظل المنتخب البرازيلي متربعا على عرش العالم بخمسة كؤوس في جعبته بفارق لقب عن ملاحقيه ألمانيا وإيطاليا.
وأصبح بيليه أصغر لاعب في التاريخ يتوج بالمونديال آنذاك بعمر الـ17 عاما و249 يوما وبالطبع أصغر مسجل للأهداف آنذاك.
هذا بالإضافة لكونه الهداف التاريخي للبرازيل في كأس العالم بـ12 هدفا قبل أن يكسر رونالدو الظاهرة ذلك الرقم في 2006 بوصوله لـ15 هدفا.
وبيليه هو أكثر صانع تاريخ للأهداف في كأس العالم بواقع 10 مرات.
كما أنه اللاعب الوحيد حتى الآن الذي توج بكأس العالم ثلاث مرات.