كتب : دعاء نائل
تخيل لاعبا مبتور الذراع سجل هدفا اقتنص به بطولة ما في الوقت الحالي، كيف ستكون ردود فعل الصحافة ووسائل الإعلام؟ كم جريدة ستتهافت على قص حكايته برومانسية منذ الولادة؟ هناك لاعب أحرز كأس العالم بذراع واحد ولم يعرف أحد شيئا عنه إلا بعد الهجوم على قنصلية بلاده في الأرجنتين.
هيكتور كاسترو الملقب بـ "إل ديفينو مانكو" أو "الإله المشوه" أهدى أوروجواي كأس العالم للمرة الأولى في تاريخها وتاريخ البطولة بعدما سجّل الهدف الرابع والأخير في شباك الأرجنتين بذراع واحد.
وُلد هيكتور كاسترو في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1904 في مونتيفيديو عاصمة الأوروجواي. كانت أمريكا الجنوبية وقتها قد بدأت مرحلة التصنيع والجميع يريد الحصول على وظيفة في وقت مبكر.
كاسترو المراهق حصل بالفعل على واحدة في سن العاشرة، لكن لم يكن يعلم أنه انساق إلى قدر سيغير حياته إلى الأبد.
في أحد أيام عام 1917 أي بعد 3 سنوات، يسهو ذلك المراهق ليقطع المنشار الكهربائي ساعده الأيمن. لا نعرف كم فقد من الدماء أو مقدار الألم الذي شعر به لكن الشيء الوحيد المؤكد الذي نعرفه أنّ البطل قد وُلد من رحم المعاناة.
قفزة بالزمن 4 سنوات للأمام، ربما كانت فترة من الشفاء، ربما تعامل مع الألم "الوهمي" الذي يصيب الأشخاص الذين فقدوا أطرافهم، لا نعلم شيئا لكن كاسترو الذي يبلغ من العمر 17 عاما ولم يعد يمتلك ذراعه الأيسر قرر التركيز على قدميه ليصبح لاعب كرة قدم الآن.
بدأ كاسترو مسيرته الكروية في أتلتيك كلوب ليتو. فريق صغير للهواة صعد للتو إلى الدرجة الأولى في أوروجواي، لا نزال لا نعرف الكثير عن تلك الفترة لكن استنادا على ما سنعرفه فيما بعد فإن كاسترو كان مهاجما ذو بنية جسدية قوية، ذكي بشكل شيطاني داخل الصندوق واعتبره البعض "قذرا" لأنه كان يستخدم إعاقته لصالحه مستدرجا شفقة الخصوم قبل أن يصطدم معهم بباقي الذراع المبتور في الكرات الهوائية.
مسيرة كاسترو بدأت تأخذ منحنى آخر بعدما وقّع مع ناسيونال أحد أكبر الأندية في أوروجواي عام 1923، لم يحتج صاحب الـ19 عاما الكثير لتثبيت أقدامه وصعد مباشرة إلى الفريق الأول وتوج بلقب الدوري، ومعها ظهر لأول مرة مع المنتخب الوطني بعد استدعائه في نوفمبر من العام ذاته.
وفي عام 1924، لم يستدعي كاسترو للألعاب الأولمبية في باريس. ربما خاب ظنه، لكن شعر بالاحباط؟ بالقطع لا، شخص فقد ذراعه وبدأ ممارسة كرة القدم في سن 17 عاما، هل لأي شيء الجرأة على تعكير صفو طموحاته؟ فازت أوروجواي آنذاك بالميدالية الذهبية ولكن الفرص لا تنتهي.
جاءت الألعاب الأولمبية عام 1928 في أمستردام ورافق كاسترو الفريق الذي تخطى أصحاب الأرض -هولندا- وألمانيا ثم إيطاليا في نصف النهائي ليضرب موعدا مع الغريم التقليدي الأرجنتين. انتهت المباراة الأولى بالتعادل، ثم أعيدت واحتفظت أوروجواي بالميدالية الذهبية للمرة الثانية بعد الفوز بنتيجة 2-1.
لم يتصدر كاسترو مشهد البطولة، لكن لن يكون ظلما إذا قررنا تلقيبه بالبطل، تحدى إعاقة، وامتهن رياضة ونجح فيها وحصد ألقابا. في بعض الأحيان لا تحتاج لكؤوس في خزانتك لتُلقب بالبطل بل مجرد تغلبك على الصعوبات الكبيرة يجعلك بطلا بالفعل. لكن الحقيقة أن كل ما عاشه كاسترو في تلك السنوات كان مجرد تمهيد لظهور قصته الأسطورية.
جاء عام 1930، وقرر الاتحاد الدولي لكرة القدم إقامة أول نسخة من كأس العالم، ووقع الاختيار على أوروجواي بالتزامن مع احتفالها بالذكرى المئوية لاستقلالها عن إسبانيا ولكونها حاملة لقبي الألعاب الأولمبية الأخيرين كذلك.
ووقعت أوروجواي في المجموعة الثالثة رفقة بيرو ورومانيا.
جاءت لحظة ظهور كاسترو الأولى بعدما مُنح شرف بدء المباراة ضد بيرو، وسجل الهدف الوحيد في المباراة ليصبح أول لاعب يسجل لـ الأوروجواي في تاريخ كأس العالم. هل تلك هي اللحظة حين بدأ يسمع العالم عنه؟ لا ليس بعد، لا أحد وراء المحيط الأطلسي كان يأبه بكأس العالم.
صعدت أوروجواي إلى نصف النهائي بعد الفوز في مباراتيها ثم هزمت يوغوسلافيا في نصف النهائي بسداسية لهدف، أما على الجانب الآخر اجتازت الأرجنتين مجموعتها وفازت على الولايات المتحدة الأمريكية بالنتيجة ذاتها. ليعلنا نهائيا ثأريا جديدا..
كان توتر العلاقات بين الدولتين على أشده منذ نهائي 1928، حيث قيل أن الأرجنتين عرضت مبلغا ماليا كبيرا على أوروجواي لترك المباراة كما وصل الأمر إلى تهديدات بالقتل حال الرفض.
وجاء الثلاثين من يوليو عام 1930، فُتحت أبواب ملعب سينتيناريو منذ الثامنة صباحاً قبل بدء المباراة بست ساعات تقريباً واكتظت المدرجات بالجمهور.
وأمام 93 ألف متفرجا انطلقت صافرة المباراة واصطف الفريقان ولم يكن أي منهما على استعداد للعب بكرة الآخر. تخيل عزيزي المشهد الهزلي، كل دولة تأتي بكرة خاصة بها ويرفض كل طرف الكرة التي قدمها الجانب الآخر.
تدخل فيفا لحل الأزمة وتوصل لأن أفضل قرار هو أن الشوط الأول سيلعب بالكرة الأرجنتينية والثاني بكرة أوروجواي، ليوافق جميع الأطراف وتبدأ المباراة.
سيطرت أوروجواي في بداية المباراة بصورة أفضل ومنحها بابلو دورادو التقدم في الدقيقة 12 قبل أن تستفيق الأرجنتين وتتعادل عن طريق كارلوس بوسيلي ويضيف جييرمو ستاييلي الثاني في الدقيقة 37 من عمر الشوط الأول. ولم تُخيب كرة الأرجنتين أصحابها.
عاد منتخب أوروجواي في الشوط الثاني رفقة كرته الخاصة وعادل النتيجة عند الدقيقة 57 عن طريق بيدرو سيا وأضاف سانتوس إرياني الثالث في الدقيقة 68.
لم تنته المباراة بعد، هذا هو المشهد الذي ننتظره جميعا، تشير ساعة المباراة إلى الدقيقة 89 والنتيجة لصالح أوروجواي 3-2، تلك اللحظة الفارقة التي يحدث حينها أحد حدثين.. إما العودة في المباراة أو قتلها.
طار هذا "المانكو" من بعيد وسدد رأسية سبقت يد الحارس وسكنت الشباك وقتل المباراة وأصبحت أوروجواي أول دولة تفوز بكأس العالم في التاريخ. هل هذه هي اللحظة التي عرفه بها العالم؟ يؤسفني أن أقول لك لا، ليس بعد.
تأهبت شرطة أوروجواي في شوارع باركي باتلي استعدادًا لأي أعمال عنف محتملة. لكن في الواقع حدث العنف على بعد أكثر من 350 ميلا في شوارع بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين عندما خرج المشجعون في الشوارع وهاجموا قنصلية أوروجواي، ورُجمت مجموعة من النساء اللواتي يحملن علم أوروجواي بالحجارة.
حينها فقط نعم، عرف العالم كأس العالم وبالتالي هيكتور كاسترو بعدما تكرمّت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس "بريطانيا" بالالتفات إلى أحداث العنف في شوارع الأرجنتين.
كان هذا كأس العالم الأول والأخير لكاسترو مع أوروجواي بعدما رفضت المشاركة في النسختين التاليتين بسبب مقاطعتها للدول الأوروبية التي رفضت المشاركة في النسخة الأولى على أرضها.
وعندما عاد كأس العالم عام 1950 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية كان كاسترو اعتزل بالفعل منذ 14 عاما وأصبح يبلغ من العمر 46 عاما.
في ذلك العام كان كاسترو غائبا عن الساحة مع فجوة كبيرة بين تركه تدريب ناسيونال عام 1943 وعودته عام 1952 لكن تلك القصة بالفعل أعطتنا مساحة كافية للتخيل.. فدعنا يا عزيزي.
ما وصلنا عن شخصية كاسترو أنه كان خارج الملعب مقامرا لا يفارق الخمر والنساء، ربما ذهب إلى إحدى صالات القمار خلال نهائي البرازيل وأوروجواي وعندما جاءت الدقيقة 79 التي ظنّ قبلها الأغلب أن راقصي السامبا هم الأقرب، كان كاسترو مخمورا يراهن الجميع أن أوروجواي ستفوز.. -انطلاقة أليسيديس جيجيا لاعب أوروجواي على الطرف الأيسر بعدما تسلّم الكرة إلى داخل منطقة الجزاء ثم سددها قوية على يسار الحارس باربوسا تسكن الشباك وتُفجر قنبلة في الماراكانا- وفازت.
بالعودة إلى حياة كاسترو، لم يكن نهائي كأس العالم هو المباراة الدرامية الوحيدة التي تصدّر كاسترو بطولتها في مسيرته، فقد أهدى ناسيونال بطولة الدوري في أوروجواي عام 1933 بعدما سجل ثلاثية في مباراة لا يزال يثار الجدل من أجلها حتى الآن.
الأمر بدأ في مايو من هذا العام، في مباراة تحديد بطل الدوري بين ناسيونال وبينارول، حتى تقدم الأخير بهدف أشعل فتيل شجار بين اللاعبين والحكم ليتعرض للإصابة ويُطرد ثلاثة لاعبين ويتدخل حكم أخر لكنه ألغى المباراة في الدقيقة 70 بسبب الإضاءة.
وفي 30 يوليو، قرر مجلس الدوري خوض الدقائق العشرين المتبقية من المباراة بدون جماهير مع إلغاء الهدف وقرارات الطرد، وأقيمت بالفعل في 25 أغسطس ولكن دون تغير في النتيجة، لتعاد المباراة كاملة في 2 سبتمبر وتنتهي بالتعادل السلبي.
وفي 18 نوفمبر أقيمت المباراة الثالثة الفاصلة، وسجّل هيكتور كاسترو ثلاثية وفاز ناسيونال بنتيجة 3-2 لينال اللقب أخيرا.
علق كاسترو حذاءه عام 1936 في عمر الـ32 عامًا متوجا بـ كأس العالم ولقبي "كوبا أمريكا" وفي المرتبة الرابعة لأعلى الهدافين في تاريخ الدوري الأوروجواياني وقت اعتزاله بتسجيله 107 هدفا في 181 مباراة.
وسلك كاسترو التدريب بعد الاعتزال حيث عمل مساعدا في ناسيونال عندما فاز ببطولة أوروجواي عام 1939، ثم أصبح مدربا للفريق في الموسم التالي.
وقاد كاسترو ناسيونال في فترتين، الأولى امتدت من 1939 إلى 1943 والثانية في عام 1952.
و فاز ببطولة الدوري خمس مرات كمدرب في أعوام (1940 و1941 و1942 و1943 و1952)، كما شغل منصب المدير الفني للمنتخب عام 1959 لفترة وجيزة.
وتوفي كاسترو في الخامس عشر من سبتمبر عام 1960 عن عمر يناهز 55 عامًا بعد حياة ليست بالقصيرة برهن فيها أنك لا تحتاج كلا ذراعيك لحمل الكؤوس، بل ذراع واحد يكفي المهمة.
المصادر: