كتب : زكي السعيد
في 22 يونيو 2022، عقد القائمون على برنامج "التشيرينجيتو" الإسباني جلسة نواح مسائية مطولة.
جوسيب بدريرول والرفقة أحيوا الذكرى العشرين لتوديع إسبانيا لكأس العالم 2002، أو على حد وصف الشارع الكروي الإسباني: "سرقة القرن".
مباراة خلّدت اسم الحكم المصري جمال الغندور في رأس المواطن الإسباني، وجعلت منه الطاغية الأكبر الذي سمعوا به على الإطلاق.
الغندور لم يعد حكمًا يرى الإسبان أنه أطاح بهم من المونديال في ذلك الربع نهائي الشهير أمام كوريا الجنوبية صاحبة الأرض، بل تحوّل إلى شخصية أسطورية حتى في الفلكلور الثقافي الإسباني.
أي خطأ تحكيمي عابر يمكن معه استدعاء اسم الغندور فورًا، تمامًا كما فعلت صحيفة ماركا بعد نهائي دوري الأمم الأوروبية العام الماضي بين إسبانيا وفرنسا.
ماركا عنونت: "الغندور كان حكم الفيديو" في إشارة إلى هدف كيليان مبابي المثير للجدل والذي منح اللقب لـ فرنسا.
أحيانًا حتى لا تكون إسبانيا طرفًا في المباراة، مثلما حدث في مواجهة دور المجموعات للكأس الذهبية 2015 بين جامايكا وكندا.
وقتها غرّد الإحصائي الكروي الإسباني الشهير MisterChip:
"الحكم جاديل مارتينيز هذا ابن عم جمال الغندور".
ماذا لو ابتعدنا عن الرياضة تمامًا وتحوّلنا إلى السياسة لنرى كيف يستعمل الإسبان اسم الغندور.
لدينا هنا مقطع قصير من أحد البرامج السياسية، يتحدث فيه جوردي كانيوس السياسي الإسباني وعضو البرلمان الكتالوني بين 2010 و2014 ويقول: "إنه شخص انتهك حقوقي وحقوق المواطنين، أتمنى أن يلقوا القبض عليه وأن يحاكموه وأن يدينوه وأن يدخل السجن، وقد أخبرته بذلك في وجهه".
الحساب يسأل بشكل ساخر عن هوية من يتحدث عنه كانياس في المقطع ويعطي اختيارات لمتابعيه:
حسنًا، بالطبع كان يقصد بوتجمونت لأنه برنامج سياسي، أمّا الشخصيات الأخرى في الاختيارات فكان المقصود اختيار الأشخاص الأكثر سوءًا في العقل الباطن الإسباني، ونعم، الغندور يتواجد في هذه القائمة.
لكن، ومع تأصل فكرة أن الغندور هو الرجل الشرير في العقل الباطن الإسباني، ربما نسي البعض طرح السؤال الأهم: هل أخطأ الغندور حقًا؟
—-----------
وُلد جمال محمود أحمد الغندور في القاهرة يوم 12 يونيو 1957، للمصادفة، احتفل بعيد ميلاده قبل 10 أيام على إدارته مباراته الدولية الأخيرة.
ورغم دخوله عالم التحكيم بالصدفة عندما أدار إحدى المباريات أثناء إصابته وظهر بشكل مميز، لكنه أنهى أيامه مع الصافرة كالحكم الأكثر نجاحًا والأشهر في تاريخ الكرة المصرية.
سجل الغندور ظهوره في كأس الأمم الإفريقية لأول مرة في 1996 حيث أدار 3 مباريات، أهمها لقاء نصف النهائي بين جنوب إفريقيا وغانا.
في نفس العام، ظهر الغندور في دورة الألعاب الأولمبية وأدار 3 مباريات، أبرزها انتصار البرازيل على البرتغال في مباراة تحديد المركزين الثالث والرابع.
لكن قبل 6 سنوات من الصدام العنيف مع الشعب الإسباني، كان الغندور على موعد مع ذكرى سيئة لهم ولن تُنسى.
إسبانيا كانت صاحبة الذهبية في 1992، لكنها فقدت فرصة المنافسة على أي ميدالية بخسارة كارثية أمام الأرجنتين في ربع النهائي.
الأرجنتين بقيادة هيرنان كريسبو سحقت جيل راؤول جونزاليس وجايزكا مندييتا برباعية نظيفة تحت أنظار الغندور الذي كان حكمًا للقاء.
لم يرتكب الغندور أخطاءً مؤثرة في ذلك اللقاء، ولم يلاحظه الإسبان وقتها من الأساس، إذ انشغلوا باستيعاب السقوط الفادح لمنتخب بلادهم.
عام 1996 الحافل استمر بمزيدٍ من النجاحات للغندور، إذ تحوّل لإدارة مباريات كأس آسيا في الإمارات العربية المتحدة.
المسؤولية كانت هائلة هذه المرة، لأنه تكفّل بتحكيم لقاء إيران والسعودية العصيب في نصف النهائي، مباراة حساسة للغاية على خلفية صدامات سياسية وعقائدية كبيرة، كان الغندور بسُمعته العالمية قادرًا على إدارتها.
الخطوة التالية كانت العودة للقارة السمراء والظهور في أمم إفريقيا 1998، وربما لولا وصول كتيبة محمود الجوهري بعيدًا لكان للغندور حظًا في إدارة النهائي.
الظهور المونديالي الأول حل في 1998 أخيرًا عندما أدار الغندور 3 مباريات، من ضمنها لقاء ربع النهائي الشهير بين البرازيل والدنمارك حيث احتفل بريان لاودروب احتفاله الخالد.
عام 2000 كان الأكثر نجاحًا في مسيرة الغندور الدولية، فقد أدار واحدة من أهم المباريات في تاريخ كأس الأمم الإفريقية.
نيجيريا وجنوب إفريقيا في نصف نهائي المسابقة، صدام سياسي كروي يحمل في طياته 4 سنوات من العداوة منذ انسحاب النسور من نسخة 1996 للضغط سياسيًا على بلاد نيلسون مانديلا.
لكن النجاح الأكبر للغندور في ذلك العام كان إنجازه التاريخي بالظهور في منافسات يورو 2000.
الغندور بات وقتها أول حكم غير أوروبي على الإطلاق يحكّم في اليورو، وظل الوحيد حتى العام الماضي عندما ظهر الأرجنتيني فيرناندو راباليني.
العجيب أن الغندور أدار وقتها مباراتين في البطولة، إحداهما لـ إسبانيا نفسها، وخمّنوا ماذا حدث… نعم، خسرت إسبانيا بهدف أمام النرويج في دور المجموعات وكادت أن تودع البطولة من الدور الأول لولا تدارك الموقف في الثواني الأخيرة من الجولة الثالثة.
لم يتوقف الغندور، فسجّل ظهورًا تاريخيًا في كأس القارات 2001 وأدار مباراة الافتتاح بين فرنسا وكوريا الجنوبية، ثم حكّم مباراة نصف النهائي المثيرة بين فرنسا والبرازيل.
وفي مطلع 2002، حقق الغندور حلمه أخيرًا وأدار نهائي كأس الأمم الإفريقية بين الكاميرون والسنغال.
وصل الغندور لصيف ذلك العام في الخامسة والأربعين من عمره، وهو في قمة النضج التحكيمي.
الأمور سارت على ما يرام في الدور الأول، بما في ذلك مباراة إسبانيا وباراجواي التي فاز بها منتخب "لاروخا" 3-1 دون مشاكل، بل احتسب الغندور يومها ركلة جزاء لكتيبة خوسيه أنطونيو كاماتشو.
ثم حكّم الغندور مباراة تاريخية أخرى في دور المجموعات بين البرازيل وكوستاريكا انتهت بخماسية.
مع حلول الدور الثاني للمونديال، كان الغندور واحدًا من حكام الصفوة المُنتظَر أن يديروا مباريات مهمة في المراحل المتقدمة.
يقول الغندور: "تم إخباري بشكل غير رسمي أنني سأحكم إحدى مباراتي نصف النهائي، لكن بعد الأخطاء التحكيمية التي عرفتها مباراة كوريا الجنوبية وإيطاليا في ثُمن النهائي، تقرر إسناد مباراة كوريا وإسبانيا في ربع النهائي لي".
مباراة كوريا وإيطاليا أدارها الحكم الإكوادوري سيئ السُمعة بيرون مورينو، وقد عرفت أخطاءً تحكيمية هائلة كان أبرزها عدم احتساب ركلة جزاء لـ فرانشيسكو توتي في الوقت الإضافي، بل وطرده فوق ذلك، وحرمانه من فرصة تسجيل الهدف الذهبي لبلاده.
ولذلك، فمن أجل مباراة إسبانيا بالدور التالي، حمل الغندور الصافرة، وعاونه: الأوغندي علي توموسانجي، والترينيدادي مايكل راجوناث.
يُقال إن الإسباني آنخل ماريا فيار استقال مباشرةً قبل المباراة من منصبه كنائب لرئيس لجنة الحكام في فيفا، بسبب اعتراضه على تعيين مساعدين مغمورين لهذا اللقاء، إذ "أراد مساعدين أوروبيين" على حد قول إتورالدي جونزاليس الحكم الدولي الإسباني السابق.
ونحن في FilGoal.com قررنا تحليل المباراة بالكامل تحكيميًا، وتوقفنا عند الحالات التالية:
الأمر لم يكن بهذا السوء إذًا!
أو بمعنى أصح، ظُلمَت إسبانيا، رغم أن الغندور لم يكن طرفًا في أي من قرارات المباراة الجدلية.
ولكن من السهل أن تربط حدثًا مؤلمًا باسم واحد، على أن تربطه بطاقم تحكيمي كامل أغلب أسمائه طويلة وصعبة وجنسياته غير مألوفة جدًا للمواطن الأوروبي.
يقول مورينتس لاحقًا عن هدفه المُلغى في بداية الوقت الإضافي: "لقد حرموني من تسجيل أهم هدف في مسيرتي، وربما الأغلى في تاريخ إسبانيا".
مورينتس الذي سجّل في نهائي دوري أبطال أوروبا من بين عدة أهداف أخرى مؤثرة في مسيرته، لم يكن يبالغ، فهذا الهدف كان كفيلًا بكتابة تاريخ غير مسبوق للإسبان.
منتخب إسبانيا حتى 2010، لم يكن قد وصل إلى نصف النهائي إلا مرة وحيدة طوال تاريخه، حدث ذلك في نسخة 1950، قبل 52 عامًا من مأساة كوريا الجنوبية واليابان، بل كان الوضع مختلفًا وقتها لأنها كانت مرحلة نهائية من 4 منتخبات وليس أدوار خروج مغلوب.
وبالتالي فإسبانيا عندما دخلت لمواجهة كوريا في 2002 كمرشحة للانتصار والعبور لمواجهة ألمانيا، كانت تعلم جيدًا أنها بصدد تحقيق الإنجاز الكروي الأبرز في تاريخها.
فإسبانيا وكأس العالم ليست قصة حب رومانسية باستثناء إنجاز 2010 الهائل.
في أول 10 نسخ، شاركت إسبانيا في 4 فقط، وباستثناء 1950 رفقة الخارق تيلمو زارا، فـ لاروخا لم يكن منتخبًا مؤثرًا.
الأمل الكبير وُضع على نسخة 1982 التي استضافتها إسبانيا، لكنها عرفت مشاركة كارثية وأداء باهت للنسيان.
ومع تغيير الجيل وتقديم كرة قدم جذابة في 1986، جاء الإقصاء القاسي في ربع النهائي بركلات الجزاء الترجيحية أمام بلجيكا.
ثم بهدف في الوقت الإضافي أمام يوغوسلافيا ضاع حلم 90، وفي 94 ظل أنف لويس إنريكي الدامي بعد مرفق ماورو تاسوتي رمزية لإخفاق هذا الجيل الذي قدّم أداء هزيلًا في مونديال 98 وودعه من الدور الأول.
ولذلك فـ 2002 كانت نسخة الإنقاذ، بدا أن كل الأمور مهيئة، جيل يقوده المخضرمون هييرو ولويس إنريكي وميجيل آنخل نادال، ويُبرزه النجوم راؤول ومندييتا ومورينتس، ويدفعه الشُبان إيكر كاسياس وتشافي هيرنانديز وخواكين وكارليس بويول.
إلى أن حطّم الغندور تلك الآمال العريضة، وفقًا للصحافة الإسبانية.
الوثائقي
مرت السنوات، ظل الغندور ثابتًا على موقفه في تصريحاته المتفرقة، شدد أن فيفا أعطاه تقييمًا عاليًا على أدائه في تلك المباراة، وأكد أنه مرتاح البال والضمير.
ثم جاء وثائقي محطة "موفيستار +" الإسبانية في عام 2019 ليهز الشارع الرياضي الإسباني.
فتح الإسبان التلفاز، ليجدوا عدوهم الأول جمال الغندور يواجههم في أعينهم، يتحداهم أن يستخرجوا أخطاءه من المباراة.
الوثائقي كان الحلقة الأولى من سلسلة تحت عنوان "الآخرون"، يتم تسليط الضوء فيها على الجزء الآخر من القصة، فأبطال تلك السلسلة هم أشخاص غير محظوظين، بل حتى منبوذين.
صُناع الوثائقي قدموا من إسبانيا حتى حيّ الرحاب للتصوير في منزل الغندور، ثم اصطحبوه شخصيًا إلى إسبانيا لتسجيل النصف الثاني من الوثائقي.
يظهر في الوثائقي، بخلاف الغندور، مورينتس، وميجيل آنخل نادال، ومندييتا، وبيدرو كونتريراس، وآخرون.
وقد خلّف الوثائقي دويًا هائلًا في الشارع الإسباني لأنه صدم الإسبان، فقد صاروا بين نار إنكار ما تراه أعينهم وأن أخطاء تلك المباراة التحكيمية ليس لها أي علاقة بالغندور حقًا، أو أن يعترفوا بواقع لم يعرفوا بوجوده طوال عقدين من الزمان.
ماذا عن كل المزحات التي قيل فيها اسم الغندور سخريةً من حكام ارتكبوا أخطاء خلال مباريات؟ كان ذلك الوضع حرجًا للغاية على العديد من الجماهير والإعلاميين حتى.
ونحن في FilGoal.com تواصلنا مع مارك بونس مُعد الوثائقي والرجل الذي حضر إلى مصر للتصوير مع الغندور وكان على اتصال مباشر معه خلال عملية الإنتاج.
يقول بونس في حديثه لـ FilGoal.com: "جمال شخص رائع، ذكي، مهذب، صادق، أمين. كما أنه شخص مرح للغاية، ويتمتع بحس القيادة. كما أنه أب عظيم وصديق رائع. أعتقد أنه يتوجب عليّ التواصل معه بشكل مستمر لأنه كذلك يمدني بالكثير من الثقافة المصرية الثرية".
ويواصل بونس حديثه: "أنا مقتنع أن الأخطاء في تلك المباراة سببها الحكمين المساعدين، جمال قدّم مباراة مميزة. بل في الواقع ارتكب خطأ كان في صالح الإسبان بعدم طرده لـ روميرو. الخطأ الوحيد الكبير الذي ارتكبه كان عدم إعادة ركلة جزاء خواكين الترجيحية بعد تقدُم لي وون جاي حارس مرمى كوريا الجنوبية عن خط مرماه".
ويشدد: "بقية الأخطاء الكبيرة في المباراة كانت مسؤولية المساعدين. المباراة كانت لتصير مختلفة تمامًا في وجود تقنية الفيديو".
ويكشف عن كواليس الوثائقي: "أردنا جمع الغندور بأحد لاعبي ذلك الجيل من منتخب إسبانيا لمشاهدة اللقطات سويًا، جمال وافق على ذلك، وقد حاولنا بالفعل مع عدة لاعبين، لكن الكثيرين منهم لم يرغبوا في فعل ذلك بحضور الكاميرات".
"الوحيد الذي حضر هو كوكي كونتريراس، وقد كانت مقابلة رائعة تبادلا فيها الآراء بشكل مذهل".
كونتريراس حارس مرمى ريال مدريد ومالاجا وريال بيتيس السابق، كان الحارس الاحتياطي لـ إسبانيا خلال ذلك المونديال.
وقد ظل كونتريراس مهووسًا بذلك الإقصاء لدرجة أنه أقدم على تصرف جنوني بعد اعتزاله كرة القدم.
قفز كونتريراس في مركب، وقرر الإقدام على مغامرة هائلة بعبور المحيط الأطلنطي غربًا نحو الجانب الآخر من العالم والوصول إلى ترينيداد وتوباجو.
هناك تمكّن من مقابلة الحكم المساعد الثاني مايكل راجوناث في مقر السفارة الإسبانية وتحدث معه.
ربما تلك الرحلة ساهمت في إخماد النيران المشتعلة في قلب كونتريراس، ولذلك فخلافًا لكل زملائه في جيل 2002، كان كونتريراس هو الوحيد الذي وافق على الظهور في الوثائقي جنبًا إلى جنب مع جمال الغندور ومصافحته في نهايته.
يواصل بونس حديثه إلى FilGoal.com: "لم يتعرض الغندور لأي مضايقات أثناء تواجده في إسبانيا. أمّا ردود الفعل على الوثاقي فكانت كثيرة ومختلفة، الكثيرون غيّروا آراءهم وعادوا لمشاهدة المباراة التي لم يكونوا قد شاهدوها أبدًا. لكن على جانب آخر، فالكثيرون يغضون البصر عن ذلك ومن المستحيل أن يغيّروا آراءهم. هناك جروح غير قابلة للالتئام. لكن دفاع جمال عن نفسه كان مذهلًا".
"الصحافة وقتها أعطت آمالًا كبيرة للجمهور بأننا نمتلك فرصة الوصول لنصف نهائي كأس العالم لأول مرة خصوصًا أن كوريا الجنوبية كانت منافسًا أقل في المستوى".
"لم يكن هناك مواقع تواصل اجتماعي أو إنترنت، وبالتالي لم يعد الناس لمشاهدة المباراة. الكل صدّق ما كُتب في الجرائد وما قيل في المحطات التلفزيونية، والمذنب الأول في الإقصاء كان الغندور".
"صحيح أن إسبانيا عانت من قرارات تحكيمية خاطئة يومها، لكنها لم تلعب مباراة جيدة من الأساس".
مرت 20 عامًا، الغندور يظل قاتل الأحلام الأكبر في نظر الإسبان، ولكنه في الوقت نفسه، أنجح حكم مصري على الساحة العالمية.
وفي 2022 نؤكد لكم أن حكام الساحة المصريين لن يتسببوا في أي جدل من أي نوع، لأنهم غير متواجدين في المونديال من الأساس.