كتب : أحمد أباظة
"الكرة التي نشأت ألعبها لم يعد لها وجود. اليوم كل ما يهتم به اللاعبون سياراتهم وأحذيتهم وأسمائهم عليها. بالنسبة لي كانت كرة القدم هي كل ما يهم، ولا شيء غيرها".
تصريح يبدو مزعجا للغاية أليس كذلك؟ لا يختلف كثيرا عن ذاك العجوز الذي تغير اتجاهك إن صادفته عن بعد، خشية فقرته اليومية التي تبدأ بتمجيد ماضيه وتنتهي بلعن حاضرك.
ولكن حين يقول ميروسلاف كلوزه هذه الكلمات في معرض تفسير قرار اعتزاله، فهو يعنيها. الأمر ليس فقط محاولة منه لجذب انتباه الأصغر، ونسج خيالات عن ماض لم يرونه، فقط لأنه يجد في ولادته المبكرة أفضلية ما.
الوحيد
مانويل نوير وماتس هوميلس وسامي خضيرة وتوني كروس ومسعود أوزيل وباستيان شفاينشتايجر وغيرهم وغيرهم وغيرهم، جيل تاريخي أنهى سنوات طويلة من المطاردة، ورفع كأس العالم 2014.
المعذرة على بدء القصة من ختامها، ولكن في 2014، كان ميروسلاف كلوزه هو الوحيد في قائمة ألمانيا الذي لم يخرج من قلب نظام الاتحاد الألماني للناشئين.
بينما ترى بيدري يثبت جدارته كعنصر أساسي في برشلونة قبل أن يكمل عامه الثامن عشر، وترى مبابي يغزو فرنسا قبل أن يختتم فترة المراهقة، يمكنك أن ترى قيمة العين الثاقبة والنظام الراعي للناشئين في سرعة ظهور اللاعبين على الساحة، وبالتالي ازدياد طول مسيراتهم.
اليوم إرلينج هالاند يقارن بأفضل مهاجمي التاريخ ويتصدر قائمة هدافي أقوى دوريات العالم في عمر 22 عاما فقط، هل تعرف أين كان كلوزه في نفس ذلك السن؟ بالكاد شق طريقه عبر منافسات الهواة ونال بدايته في الدوري الألماني مع كايزسلاوترن.
"لا يمكنني تخيل شخص يمر بنفس مسيرتي في هذه الأيام. هناك الكثير من الكشافين الآن، لا أعتقد أن اللاعبين الموهوبين يمكنهم أن يسقطوا بين الشقوق بعد اليوم".
هذا هو الوجه الجيد للرخاء الحالي، أما وجهه السيئ فهو تعاظم قيم أخرى فوق كرة القدم. وربما يكمن هنا مفتاح الإجابة على السؤال: كيف للهداف التاريخي لكأس العالم ألا يحظى بشهرة لاعبين أقل إنجازا في تاريخ كرة القدم؟
أخرجوا الرب من أكاذيبكم
لم يملك كلوزه قصة شعر مميزة أو سيارة فارهة تخطف الأنظار. لم يواعد عدة عارضات أزياء ولم يثر أي جلبة خارج الملعب.
لم يملك حتى تلك المراوغات الساحرة التي يترقبها المتابعون، كل ما كان يجيده هو بعض الصفات المملة: تسجيل الأهداف – إتقان التحرك نحو العرضيات وتوجيهها بالرأس – جودة التحرك وتوقيته لسرقة المدافعين – التفاني وعدم التكاسل.
مارادونا أسطورة لا تقبل التشكيك، ولكننا نعلم جيدا أن جوانبه السيئة لم تمنحه أبدا الجزاء المستحق كنموذج سيئ، بل ساهمت في حفر أسطورته أكثر داخل قلوب عشاقه، وعشاق الحالات الغرائبية عموما.
قطعا لا يمكنك نسب كل شيء إليها، فإن لم يكن موهوبا لدرجة خارقة لقتلته سلوكياته قبل أن يولد، ولكن في الوقت ذاته إن حاولت تفكيك هذه الأسطورة، لا يمكنك أن تمر مرور الكرام على واقعة "يد الرب"، حين خدع الحكم وسجل الهدف الشهير بيده في شباك إنجلترا.
بوافر الحظ، كان هذا الهدف أمام خصم على عداء تاريخي مع بلاده كرويا وسياسيا، وبالتالي ربما كان الشعب ليرجم مارادونا إن آثر عدم الغش في موقف كهذا، وعلى النقيض التام، لم يجد أي شخص أدنى غضاضة في تقبل تبريره العاطفي واعتبار هذا الهدف ثأرا إلهيا لحرب جزر الفوكلاند.
لنكن أكثر صراحة، أنت -على الأرجح- لن تعترف بأنك سجلت بيدك في ملعب خماسي استأجرته مجموعة من الأصدقاء لساعتين، ليس لأنك تفتقر للأمانة، بل لأنك -على الأرجح أيضا- لن تسلم من صرخات زملائك "يا عم الشيخ". قد يكون ملعب كرة القدم هو المكان الوحيد الذي يتحول فيه التدين إلى تهمة، ولكن الشيخ كلوزه لم يكن يبالي بذلك.
في 2005 مع فيردر بريمن، تحصل كلوزه على ركلة جزاء ولكنه رأى أن القرار لم يكن صحيحا، فذهب للحكم ورفضها.
التهمة التالية بعد "عم الشيخ" هي أنك "لن تجد من يصفق لك"، ولكن كلوزه لم يجد فقط من يصفق، بل من يمنحه جائزة للعب النظيف في نهاية الموسم. الأغرب بالطبع، هو أنه لم يكن يبحث عن ذلك التصفيق أصلا.
"إنه شرف كبير لي أن أتسلم هذه الجائزة، ولكني منزعج بعض الشيء. بالنسبة لي هذا شيء يجب أن تفعله دائما وسأفعله مجددا".
لم يكذب الألماني.. مرت الأعوام وتبدلت الأماكن والقمصان بل وحتى الدول، وبقي هو الثابت الوحيد.
في الدوري الإيطالي بقميص لاتسيو عام 2012، سجل كلوزه هدفا بيده في شباك نابولي، فالتفت للحكم مباشرة واعترف بذلك، ليُلغى الهدف وينال بطاقة صفراء، ومصافحة تقدير واحترام من الحكم.
مرة ثانية نال الرجل نفس الجائزة التي أزعجته قبل 7 سنوات، وأتت إجابته أكثر مللا من سابقتها:
"سألني الحكم ما إذا كنت قد لمستها بيدي ولم أجد أي مشكلة في الإجابة بـ نعم. هناك الكثير من الصغار يشاهدون كرة القدم عبر التلفاز، ونحن يجب أن نكون لهم مُثلا يحتذى بها".
ولذلك، حين يخبرك الرجل أن كرة القدم لم تعد كما كانت في زمنه، يجب أن تصدقه حتى وإن اختلفت معه. هو لا يحاول الإيحاء لك بأي شيء، بل فقط يقول ما يعتقده صحيحا..
ويفوز باللذات..
بدأ كلوزه مسيرته الاحترافية عمليا في عام 2000، ونال الاستدعاء الدولي الأول في 2001، وبالتالي كان موندياله الأول هو 2002.
وسريعا ودون طول انتظار، وفي مباراة الثمانية الشهيرة، سجل كلوزه هاتريك بالرأس في شباك السعودية، وأتبعه بهدف في شباك أيرلندا ثم هدف آخر في شباك الكاميرون، وهكذا عاد من المشاركة الأولى بـ 5 أهداف.
في النسخة ذاتها سجل الظاهرة رونالدو هدفين وأبكى الألمان في النهائي، رافعا رصيده إلى 8 أهداف في صدارة هدافي البطولة، ليصل بحصيلته الكاملة إلى 12 هدفا معادلا أسطورة بلاده بيليه في المركز الثالث.
على بعد هدف من الفرنسي جاست فونتين (13)، وهدفين من الهداف التاريخي الألماني جيرد مولر (14)، كان ينتظر رونالدو فرصة كسر الرقم في النسخة التالية، كأس العالم 2006 في قلب ألمانيا.
وفي دور المجموعات أمام اليابان، سجل رونالدو الهدف الأول ليعادل فونتين، ثم سجل الرابع ليطيح به ويعادل مولر.
وأخيرا، في السابع والعشرين من يونيو عام 2006، أدرك رونالدو الفرصة الأخيرة وسجل الهدف الخامس عشر إجمالا في شباك غانا بدور الـ 16، ليحطم الرقم في مدينة دورتموند، قبل مباراة واحدة من عرض زيدان الأشهر الذي أجهز على البرازيل، ومعه انسحب رونالدو من المشهد الدولي للأبد.
على الجانب الآخر كان كلوزه يسجل هدفين في شباك كوستاريكا، ومثلهما في شباك الإكوادور، أتبعهم بخامس في شباك الأرجنتين ليصل إلى 10 أهداف بالتمام والكمال.
مغامرة الألمان انتهت في نصف النهائي على يد البطل الإيطالي، ولكن كلوزه وجد لنفسه موقعا بالفعل بين الهدافين التاريخيين للبطولة، فقط رونالدو (15) ومولر (14) وفونتان (13) وبيليه (12) والمجري ساندور كوتشيس والألماني يورجن كلينسمان (11) يسبقونه.
6 أسماء، و6 أهداف لاجتيازهم جميعا، وفي سن 28 عاما لا يزال هناك متسع من الوقت، نسخة واحدة، وربما اثنتان.
وفي جنوب إفريقيا عام 2010 لم يطل الانتظار، هدف في شباك أستراليا وضعه مع كوتشيس وكلينسمان على قدم المساواة، ثم هدف في شباك إنجلترا أطاح بهما ونقله إلى بيليه.
وفي ربع النهائي، سجل كلوزه هدفان في شباك الأرجنتين سقط بهما بيليه وفونتان معا بضربة واحدة، ليصل إلى 14 هدفا بالتساوي مع مولر.
المغامرة لم تستمر، إذ كانت على موعد مع رأسية كارلس بويول الشهيرة في نصف النهائي، وكأن الإطاحة بألمانيا باتت من شروط التتويج في الألفية الثالثة: إسبانيا تفوز بكأس العالم للمرة الأولى في تاريخها.
هدف وحيد يفصله عن معادلة رونالدو، وهدفان يفصلانه عن الانفراد بالرقم، ولكن مع حلول عام 2014 سيصل عداد العمر إلى السادسة والثلاثين.
بعد كأس العالم 2010 لم يكن كلوزه في أفضل أحواله، إذ سجل هدفا وحيدا في 20 مباراة بالبوندسليجا، وفي نهاية المطاف لم يصل لاتفاق مع بايرن ميونيخ بشأن التجديد، ليشد رحاله إلى لاتسيو، والعين على الهدف.
أكتوبر 2011: "إذا سار كل شيء بشكل جيد، أتمنى اللعب مع لاتسيو حتى 2014 والظهور في كأس العالم ثم سأنهي مسيرتي".
أغسطس 2012: "إذا حافظت على صحتي وواصلت كوني فعالا، سيكون كأس العالم 2014 نهاية مسيرتي مع المنتخب. صحتي وقوتي البدنية سيحددان ما إن كنت سأواصل اللعب على مستوى الأندية".
واصل الرجل الحفاظ على لياقته وحدته قدر المستطاع حتى حانت اللحظة المرتقبة: مونديال 2014 في البرازيل.
لم يطل البحث عن هدف التعادل، إذ سجل في شباك غانا خلال دور المجموعات ليعادل رونالدو رسميا، ويطارد ذاك الهدف الأخير إلى نهاية الفرصة الأخيرة.
تأخر الهدف، فلم يسجل في دور الـ 16 ولا ربع النهائي. هذه الأمور لا يمكن التحكم بها بالطبع، ولكن لو كان الأمر بيد كلوزه لما كتب لنفسه نهاية أفضل من هذه..
8 يوليو 2014.. تاريخ أسود في صفحات الكرة البرازيلية. ليلة لن ينساها شعب بأكمله، ففيها فقد السيليساو فرصة بلوغ النهائي على أرضه، وفيها أذله الألمان بسبعة أهداف على أرضه، وفيها حطم كلوزه رقم رونالدو أمامه وعلى أرضه.
بعد هدف مبكر من توماس مولر في الدقيقة 11، صار كلوزه سيد الهدافين في كأس العالم بالهدف الثاني في الدقيقة 23، ولكن للأمانة لم تملك جماهير البرازيل ما يكفي من الوقت للحزن على ذلك، فبحلول الدقيقة 29 وصل العداد إلى خماسية بيضاء.
هكذا كتب لميروسلاف كل ما أراده مع منتخب بلاده عدا معانقة اللقب العالمي، ومهما بلغت قيمة هذا الرقم القياسي، ما كان ليساوي الكثير أمام فقدان الكأس في النهائي مرة ثانية.
"قبل أن يأتي ماريو بدلا مني قلت له: يمكنك أن تجعلها تحدث".
بدأ كلوزه معركته الأخيرة ضد الأرجنتين على أرض الماراكانا، واستمر حتى الدقيقة 88 في مباراة بلا أهداف تسير بخطوات ثابتة صوب الوقت الإضافي، حتى غادر وأتى ماريو جوتزه بدلا منه.. والبقية للتاريخ.
"بالفوز في البرازيل تحقق حلم الطفولة. أنا فخور وسعيد بأني تمكنت من المساهمة في هذا النجاح الكبير. حظيت بوقت فريد ورائع مليء باللحظات الخالدة في الذاكرة مع منتخب ألمانيا".
وأسدل الستار..
المصادر: