كتب : لؤي هشام
الشاشة السوداء تبدأ في التلاشي تدريجيا لتفتح الكاميرا عدساتها على المشهد الأول والأخير في ذات الوقت.
يقف نيلسون مانديلا مرتديا قميص اللاعب الأبيض نيل توفي قائد منتخب بلاده آنذاك ليسلمه كأس أمم إفريقيا وسط صخب واحتفالات جنونية من عرقي الأمة السود والبيض، في تلاحم واضح ومقصود نقله من الكاميرا.
ينتهي المشهد سريعا لتكتسي الشاشة بالسواد مجددا قبل أن تفتح عدساتها على مشاهد متتابعة سريعة من شريط الفيلم الذي يبدو أنه يدور إلى الخلف بسرعة كبيرة، كي يبدأ القصة.
تستطيع أن تتبين من بين المشاهد مقاطع لحفل افتتاح ثم مباراة رجبي ثم رجل يقف خلف القضبان ليتابع مباراة كرة قدم، ثم آلاف من الجماهير تركض في كل اتجاه.
يظهر في الخلفية دخان كثيف ودماء ترسم أشكالا غير محددة بشكل متناثر على الأرضية، ثم رجل أسمر البشرة في الأربعينات يحيط به رجال الشرطة فيما يبدو أنها عملية اعتقال، ثم رجال شرطة آخرون يطلقون النار صوب حشودا كثيفة، ثم رجل أبيض يبدو أنه سياسي يلقي بخطبة أمام جماهير بيضاء متحمسة بجنون.
وأخيرا تظهر كلمة أبارتايد وتختفي سريعا لتظهر كلمة البداية.
__________
طائرة تطير على ارتفاع منخفض والحشود السمراء تحييها رافعين قبعاتهم وكأننا في مشهد احتفالي.. الصورة لا توحي بأن حدثا خطيرا سوف يحدث بعد عدة دقائق.
كان الآلاف من السود قد قرروا الاحتشاد أمام قسم شرطة شاربفيل اعتراضا على قوانين الفصل العنصري الجائرة والتي كان آخرها قانون "الاجتياز" الذي كان بمثابة تقييد جديد أكثر قوة لحريات ذوي البشرة السمراء إذ نص على ضرورة حمل ما يشبه جواز سفر داخلي من أجل التنقل بين مدن جنوب إفريقيا المختلفة.
كان ذلك القانون نتاجا لسياسات التمييز العنصري التي اتبعها الحزب القومي منذ صعوده إلى السلطة في 1948.. منذ ذلك التوقيت وأصبحت عملية التمييز أكثر مأسسة من قبل أجهزة الدولة مختلفة.
خدمات متدنية، تعليم ضعيف، وخدمة صحية أضعف، معاملة سيئة واعتقالات مستمرة لكل من تحمل جيناته اللون الأسود، مدن مخصصة لهم ببنية تحتية متهالكة، وبالطبع أجور وثروات أقل، وعدم قدرة على امتلاك أي أرض أو بناية.. كانوا كأنهم عبيدا في العصور الوسطى.
حقيقة أن المظاهرة كان يعتريها غضب كبير لم تنف أنها كانت سلمية، ولكن بينما يقف توم وهارمفلي شاهدا مجموعة من المتظاهرين يرفعون أيديهم بقبضة مضمومة فيما يعرف باسم "التحية الإفريقية" التي ترمز إلى نضالهم، أمام مجموعة مسلحة من الضباط... وسرعان ما بدأ إطلاق نار كثيف.
يقول توم إن البعض لم يصدق أن هناك إطلاقا لنار حية فقد ظنوا أنهم سمعوا أصوات ألعاب نارية، ولكنهم صدقوا حينما شاهدوا الدماء والقتلي أمام أعينهم.. كان الناس يركضون في كل الاتجاهات وعلى وجوههم هلع شديد.
يتدخل هارمفلي في الحوار ليضيف روايته إذ بينما كان يقف إلى جوار سيارته سمع صوت إطلاق النيران.
يقول إن بعض السيدات ضحكن ظنا منهن أن الشرطة تطلق أعيرة فارغة للتهديد ولكنهم توقفوا عن ذلك بهتانا حينما سقطت امرأة على بُعد 10 ياردات من سيارته، أحد الشباب الواقفين ظن أنها تعرضت لإغماءة فقرر أن يساعدها ولكن ما أن أدار ظهرها حتى فوجئ بالدماء تغطي صدرها.
يشاركه إيان بيري، وهو مصور صحفي، الحديث مؤكدا أنه كان على بعد خمسين ياردة من قسم الشرطة، وأن الضباط الذين حملوا السلاح لم يبدوا في وضع تهديد من المتظاهرين، فقط أرادوا تلقينهم درسا قاسيا.
كانت تلك مذبحة شاربفيل التي راح ضحيتها 69 شخصا إضافة إلى المئات من المصابين، في عام 1960.
وقد كانت المذبحة التي قرر نيلسون مانديلا بعدها اتباع نهج الكفاح المسلح بعد 12 عاما من المعارضة السلمية لسياسات الحزب القومي.
(بينما تتنقل الكاميرا بين مشاهد القتلى والمصابين والثكالى والمصدومين والدماء المتواجدة في كل مكان، يظهر في الخلفية أحدهم فيما يبدو أنه المصور ليغلق عدسات الكاميرا ويحملها مقررا التحرك نحو مكان آخر)
_______
تفتح الكاميرا عدساتها من جديد ولكن هذه المرة على مشهد مختلف.. نيلسون مانديلا يقف في زنزانة ضيقة، ممسكا بقضبان نافذة صغيرة وهو ينظر بشغف كبير إلى شيء لا نتبينه.
تتحرك الكاميرا ببطء نحوه وتتوقف من خلفه، ليتضح لنا ما يتابعه بشغف.. مباراة كرة قدم بين المساجين.
قضى مانديلا خلال فترة اعتقاله التي دامت 27 عاما، 18 عاما منها في جزيرة روبن في أوضاع معيشية صعبة، ولكنه كما قال: "كانت كرة القدم تجعلنا نشعر أننا أحياء".
في الجزيرة القريبة من ساحل مدينة كيب تاون سمحت إدارة السجن للمعتقلين الذين كان أغلبهم من المعارضين في صفوف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي ترأسه نيلسون لاحقا، بممارسة كرة القدم.
أسس المعتقلون دوريا احترافيا بمعنى الكلمة من ثلاث درجات، وفيه تم اتباع قوانين الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" إذ كان كتيب قواعد اللعبة من بين الكتب القليلة التي تسمح بها إدارة السجن في مكتبتها.
وقد أسسوا اتحادا للعبة اسموه اتحاد "ماكانا" نسبة إلى أحد المقاتلين الخالدين في سيرة مجموعة "الكوسيون" العرقية والذي كان معتقلا على جزيرة روبن في وقت من الأوقات.
سمحت إدارة السجن للجميع بممارسة اللعبة ماعدا مانديلا خوفا من تأثيره بين المساجين، وقد اكتفى بمشاهدة المباريات خلف قضبان زنزانته، ولكنه يؤكد أنها كانت الساعات التي يشعر فيها بأن إنسانيته لم تنتزع بعد.
تفاصيل صغيرة ترسم أحاسيسا كبيرة، وأصوات كالاحتفالات والصرخات والاعتراضات خلال المباريات كانت كافية بالنسبة لـ"ماديبا" كي يشعر أنه حي.
وماديبا منعته إدارة السجن من مشاهدة اللعبة بعد أعوام عن طريق بناء سور كبير يحجب الرؤية إمعانا في التضييق عليه، كي لا يشعر أنه حي.
في ذلك الدوري شارك العديد من المعتقلين السياسيين من بينهم على سبيل المثال جايكوب زوما رئيس البلاد السابق والذي عرف بأنه كان مدافعا قويا يتميز بالالتحامات، بجانب والد سلفه في الحكم تابو ميبيكي، والرئيس السابق كاليما موتلانتي، ورجال آخرين بارزين في نظام الحكم لاحقا كطوكيو سيكسويل وموسيا ليكوتا وزير الدفاع الأسبق.
كانت المباريات تلعب لساعتين يوم السبت. في ليلة الأحد يكون الأحاديث عنها، ومن الإثنين إلى الأربعاء للتعامل مع خرق القواعد والعقوبات، والخميس والجمعة لاختيار التشكيلات وتجهيز الخطط.
يحكي ليزو سيتيو أحد النزلاء السابقين في سجن الجزيرة كيف كانت الكرة وسيلتهم للحفاظ على كرامتهم في النضال ضد الأبارتايد.
ويقول: "كرة القدم أنقذت حياتي، شخص محتجز غير قادر على فعل أي شيء لا يمكنه التفكير، ولكن حينما كانت الكرة هناك فقد أعطتنا شيئا لنتحدث بشأنه، ولهذا كانت أكثر من مجرد لعبة".
"أكثر من مجرد لعبة" كان عنوان الكتاب الذي ألفه تشاك كور قبل أن يتحول لفيلم لاحقا، بنفس الاسم، وفيه تناول بالتفصيل تلك الفترة التي تأسس فيها اتحاد ماكانا وكيف نال الدوري اهتماما كبيرا من المعتقلين حتى أنهم استغلوا أوقات فراغهم في كتابة خطابات لتحسين مستوى الدوري، والشكوى من المستوى التحكيمي السيئ والمطالبة بتأجيل بعض المباريات.
يقول تشاك كور: "رغم أن هؤلاء الرجال كانوا يعملون ويعرقون ويستحمون وينامون معا إلا أنهم خاطبوا بعضهم البعض بخطابات رسمية في الحديث عن الدوري".
"بالطبع أحبوا كرة القدم ولكنها كانت أيضا طريقة لإظهار قدرتهم على إدارة الأمور، لقد أظهروا أنهم فهموا الإجراءات القانونية الصحيحة، حتى لو لم يتم منحها قانونا لهم. كان الأمر يتعلق بالبقاء والكرامة".
يشرح أنتون سوزي أحد المؤسسين لهذا الدوري ما مثلته لهم اللعبة قائلا: "كانت طريقة أخرى للبقاء على قيد الحياة، في وضع سعى دائما لتقويضنا، أعطتنا اللعبة الأمل".
"إنه لأمر مدهش أن تلك اللعبة التي يعتبرها البعض أمرا مفروغا منه في جميع أنحاء العالم كانت نفس اللعبة التي أعطت مجموعة من السجناء عقلانية، ومجدتهم بطريقة ما".
أما جايكوب زوما رئيس البلاد السابق فيؤكد "فكرنا أنه إن كنا قادرين على إدارة دوري في تلك الظروف الصعبة والقهرية فإننا بالتأكيد قادرين على إدارة بلد".
تعود الصورة من جديد إلى مانديلا الذي كان على الوضعية الأولى التي بدأ بها المشهد، ثم تعتري وجهه ابتسامة كبيرة.. ابتسامة أمل.
(يظهر ذات المصور في الخلفية ليحمل الكاميرا من الزنزانة.. تتشح الشاشة بالسواد وتفتح على مشهد جديد.. مشهد أكثر قتامة من سابقه)
_________
الحكومة قررت أن يتم التدريس للطلاب السود بلغة الأفريكانس، وهي اللغة الرسمية للدولة وقد كانت لغة البيض الهولنديين الذين استقروا في البلاد، بدلا من الإنجليزية.
القرار سببّ غضبا كبيرا بين الطلاب الذين عانوا بالأساس من التعليم بالإنجليزية، فكيف يكون التحول إلى لغة لم يعهدوها من قبل.
في مدرسة سويتو الثانوية قرر الطلاب تنظيم مظاهرة للاعتراض على القرار.
كان ذلك السبب المعلن ولكن عنصرا آخر عجّل بالتظاهر، إذ تعرضت إحدى زميلاتهم للاعتقال، والسبب غناء أغاني ثورية، وفقا لرواية أنطوانيت.
تتذكر أنطوانيت ذلك اليوم بكل تفاصيله، تبلغ من العمر الآن 68 عاما ورغم ذلك لم تؤثر الشيخوخة على ذاكرتها فيما يخص تلك الذكرى الأليمة.
لم تعرف أنطوانيت بينما تتجه إلى المدرسة في الـ19 من يونيو عام 1976 أن هذا اليوم لن يغير من حياتها للأبد فقط وإنما سيغير من تاريخ جنوب إفريقيا والعالم أجمع.
صورة يظهر بها 3 أشخاص هي من بينهم، ستحول مسار قضية أمة بشكل كامل.
وصلت الفتاة الصغيرة إلى مكان تجمع المظاهرة التي رُفع بها لافتات كـ "التعلم بالأفريقانية يجب إلغاؤه"، "نحصل على الشهادات ولكن لا نتعلم"، وبدأ الطلاب في الهتاف وترديد الشعارات المناهضة لذلك القرار التعليمي.
"كان الأمر يبدو وكأننا في رحلة مدرسية ولكن سيرا على الأقدام، شاهدت جيراني، وأقاربي، كان الأمر رائعا" هكذا تسترجع أنطوانيت القصة.
"فجأة سمعت جلبة كبيرة تحدث، وشاهدت قنابل الغاز المسيل للدموع تتدافع نحونا. ارتبكنا وبدأ الجميع يركض ويتجه نحو المنازل القريبة، لم أكن أفهم لماذا تحترق عيناي، حتى أوضحوا لي أن ذلك الغاز هو السبب".
"ارتكنت جانبا بجوار أحد المنازل، ولكني فجأة شاهدت أخي الأصغر صاحب الـ13 عاما بعرض الشارع. لم يفترض أن يتواجد هنا، كان صغيرا جدا على فهم ما يحدث".
"لوّحت له وابتسمت كي أهدئ من روعه. أخبرته أن يبقى في مكانه وأنه سيكون بخير، حاولت أن أكون شجاعة لأنني الأخت الكبيرة ولكني كنت أشعر بالرعب في داخلي".
يتداخل سام نظيما وهو مصور صحفي كان متواجدا في الحديث، ويوضح "بدأ الطلاب في غناء النشيد ممنوع وقتها (فليبارك الرب إفريقيا) في ذلك التوقيت لم يكن هناك رصاصا مطاطيا ما يعني أنه بمجرد رفع السلاح ستعلم أنك ميت لا محالة".
"اتخذت وضعي بين الشرطة والطلاب، ثم شاهدت ضابطا أبيضا يرفع سلاحه ثم يوجهه نحو الحشود.. وأطلق النار. سقط أحد الطلاب الصغار وحينها اتجهت ناحيته بالكاميرا".
كانت أنطوانيت في تلك الأثناء تحاول البحث عن شقيقها الأصغر الذي اختفى بين الحشود المتدافعة في كل مكان.
"في تلك اللحظة رأيت أحدهم يحمل جسما ما تبينت منه حذاء أخي، تبعته فورا وأنا أركض، وسألته: من أنت؟ هذا أخي، ما الذي حدث؟ إلى أين تأخذه؟، لكن هذا الرجل واصل الركض ولم يتكلم. نظرت إلى أخي وجدت الدماء تخرج من فمه. أخبرت الرجل مجددا: ألا ترى أنه مصاب؟".
"ظهرت سيارة أمامنا وتوقفت لنقله إلى أقرب مشفى، لكن الرجل صدمني في تلك اللحظة وهو يضعه في السيارة: لقد مات. نزل الخبر كالصاعقة، شعرت أنني انقسمت إلى نصفين، كيف يمكن أن يحدث ذلك، لم يكن من المفترض أن يكون هنا، هذا غير حقيقي. هذا لا يمكن أن يحدث".
نتج عن تلك الأحداث 176 حالة وفاة - كان من بينهم أرييل كاجونجواني لاعب كايزر تشيفز - وأكثر من ألف إصابة بين المتظاهرين فيما عرف إعلاميا بـ"انتفاضة سويتو" والتي تسببت تلك الصورة الملتقطة من نظيما في إثارة فزع المجتمع الدولي، وتحريك الضغط الدولي تجاه سياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
(يظهر مصورنا مع نهاية كل مشهد، ويحمل الكاميرا هذه المرة ببطء ينم عن حسرة كبيرة.. وتغلق العدسات لتتشح الشاشة بسواد يتناسب مع المشهد)
________
تفتح الكاميرا عدساتها تلك المرة على مشهد ليس قاتما كسابقيه.. مانديلا نال حريته أخيرا بعد 27 عاما، ويظهر في الصورة وقد وقف إلى جوار رئيس الحكومة الأبيض دي كلارك يدا بيد أمام الحشود.
حصل مانديلا على إفراج غير مشروط في فبراير 1990 من قبل حكومة دي كلارك الذي اعتبر نظام الابارتايد غير قابل للاستمرار وقرر الإفراج، قبل مانديلا، عن جميع المعتقلين السياسيين إضافة لتقنين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي.
وبعد 4 أعوام من الجولات في العديد من دول العالم للضغط على النظام في بلده لإنهاء الفصل العنصري، أقيمت أول انتخابات وطنية ديمقراطية في البلاد يشارك بها السود، وكما كان متوقعا فاز مانديلا ليصبح أول رئيس أسود للبلاد.
بعد توليه الرئاسة سعى مانديلا لتفكيك نظام الابارتايد في أجهزة الدولة، وتوجيه خطاب متسامح مع الأقلية البيضاء سعيا لمصالحة وطنية على أرض الواقع تعيد إعمار اقتصاد بلاده.
وفي الطريق نحو إذابة الخلافات والصراعات العرقية لعبت الرياضة دورا هاما، وقد كانت لعبة الرجبي أولى خطواته لخلق شعور وطني بين عرقي أمة "قوس قزح".
الرجبي كانت لعبة ترمز للعنصرية بالنسبة للأغلبية السوداء إذ كانت رياضة البيض المفضلة، بينما كانت كرة القدم لعبة السود، لكن مانديلا قرر أن يبدأ رسالته بالرجبي تطمينا لذوي البشرة البيضاء، وسعيا لمزيد من الترابط مع بني جلدته.
يتناول فيلم "إنفيكتوس – الذي لا يقهر" تلك الفترة بعد عام واحد من فوزه بمنصب الرئيس، وكيف ساهمت جولات منتخب الرجبي في الأحياء والمدن الفقيرة للسود في خلق شعور عام بدعمه، وكيف ولى الزعيم الإفريقي اهتماما كبيرا بهذا المنتخب، حتى أنه جلس في أكثر من مناسبة مع قائد المنتخب فرانسوا بينار.
في عام 1995 فاز منتخب جنوب إفريقيا للرجبي ببطولة كأس العالم على حساب نيوزيلندا تحت أنظار مانديلا، الذي كان يرتدي قميص قائد المنتخب بينار وعليه الرقم الذي حمله في السجن خلال فترة التمييز العنصري 46664.
بعد المباراة، قدّم مانديلا الكأس بنفسه لبينار، ليبدأ بعدها السود في الانجذاب لرياضة الرجبي التي كانوا يمقتونها، لأنها كانت محرمة عليهم لسنواتٍ طويلة، كانت خلالها لعبة للبيض فقط.
وعلى نفس المنوال كانت كرة القدم في العام التالي.
________
تتقاطع المشاهد وتتشابك خيوط التفاصيل في القصة ويطول السرد كي تُفهم الصورة بشكل أوضح. عقود من التفرقة والظلم كان مآلها النهائي أن تنتهي.
بطريقة أو بأخرى أسهمت الأحداث المأساوية وتراكماتها في تغيير المشهد، يطول الطغيان وتطول معه المعاناة لكن التاريخ يذّكرنا أنه لابد من نهاية، وحينها لا بد أن تكون مستعدا للبناء من جديد.. أو هكذا فعل مانديلا.
قد لا تمثل المشاهد السابقة غاية اهتمامك، لكن لمشاهدة الصورة كاملة لابد أن تدرك الأوضاع والتفاصيل، وحينها ستقودك الأحداث إلى الجوهر.. كرة القدم.
_______
لعبت جنوب إفريقيا دورا أساسيا في تأسيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم رفقة مصر والسودان وإثيوبيا عام 56 لكن سياستها العنصرية التي تمنع اختلاط العرقين حرمتها من المشاركة في أول نسخة عام 57.
وفي العام التالي استبعدها الكاف رسميا من المشاركة في أي بطولة، قبل أن يعلن فيفا إيقاف الأنشطة الكروية لحين تعديل أوضاعها.
وبعد انتفاضة السويتو وزيادة التركيز المنصب على مساوئ الابارتايد عالميا قرر فيفا استبعاد جنوب إفريقيا في نفس عام المذبحة 1976.
ومع قدوم عام 1991 الذي بدأت تظهر فيه خطوات إزالة نظام الفصل العنصري منح فيفا البافانا بافانا فرصة العودة للمنافسات بعد عقدين من الابتعاد.
في تصفيات أمم إفريقيا 94 لم تحقق جنوب إفريقيا سوى انتصارا وحيدا، ولم تتمكن من التأهل، وبعدها في تصفيات كأس العالم نجحت في احتلال المركز الثاني خلف نيجيريا ولم تتأهل للبطولة أيضا.
وبلغ زخم الكرة قمته في البلاد مع استضافتها نسخة 96 التي توجت بلقبها لأول مرة على حساب المنتخب التونسي في النهائي بهدفين نظيفين حيث وقف نيلسون مانديلا مرتديا قميص اللاعب الأبيض نيل توفي قائد منتخب بلاده آنذاك ليسلمه كأس أمم إفريقيا وسط صخب واحتفالات جنونية من عرقي الأمة السود والبيض في تلاحم واضح.
كانت تلك البطولة نتاجا لأعوام من استغلال اللعبة لدعم القضية.
ففي تقرير لمجلة "فورين بولسي" بعنوان "كيف تغلبت كرة القدم على الابارتايد" اُستعرض كيف ساهمت مباريات للاعبين السود خارج حدود جنوب إفريقيا في جمع الأموال لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وكيف أن إقامة زوما عند عودته من منفاه في 93 كانت في مقر لمالك نادي أورلاندو بايرتس.
وفي عام 91 حين تأسس الاتحاد الجنوب إفريقي بشكله الحالي كان بيانه يتضمن ".. حيث أن كرة القدم قد قادت الطريق لكسر قبضة مشددة من القمع العنصري".
كان ذلك البيان قويا في كلماته إذ انتهى نظام الفصل العنصري نهائيا بعدها بعامين.
تولى كليف باركر، أحد أبرز المدربين في الدوري المحلي ومن أوائل المدربين البيض في المسابقة، مهمة الإدارة الفنية للأولاد خلال تلك البطولة، وكان ذلك امتدادا لمشواره الذي بدأ مع المنتخب في 94.
وقال جرايم فريدمان مؤلف كتاب "أولاد ماديبا" عن وصول كليف لقيادة المنتخب إنه كان بمثابة تنفس هواء نقيا من جديد، ودفع لأخلاقيات المنتخب للأمام.
ستتوالى النجاحات مع باركر لاحقا وسيصبح أول من يقود أمة "قوس قزح" إلى المونديال في عام 98 بعمر 54 عاما.
تكوّنت قائمة المنتخب من غالبية من اللاعبين المحليين كان أغلبهم من أندية ماميلودي صن داونز وكايزر تشيفز وأورلاندو بايرتس وكيب تاون.
إضافة إلى سداسي محترف هم: المدافع لوكاس راديبي والمهاجم فيل ماسينجا لاعبا ليدز يونايتد، أوجستين ماجالاكالاني لاعب وسط زيوريخ السويسري، وجون موشيو لاعب وسط كيجالي سبور التركي، وإيريك تينكلر لاعب وسط فيتوريا سيتوبال البرتغالي، وأخيرا مارك ويليامز لاعب ولفرهامبتون.
اعتمد باركر على خطة 4-4-2. أندريه أريندسي (كيب تاون) في حراسة المرمى، ظهيران يتمتعان بالقوة والسرعة - سيزوي موتاونج (صن داونز) ودافيد نياثي (كيب تاون) - مع قلبي الدفاع المتفاهمين نيل توفي (كايزر تشيفز) ومارك فيش (أورلاندو بايرتس).
في وسط الملعب تواجد إيريك تينكلر (فيتوريا سيتوبال) وجون موشيو (كيجالي سبور) ودكتور كومالو (كايزر تشيفز) وليندا بثليزي (صن داونز)، وقاد الهجوم الثنائي مارك ويليامز (ولفرهامبتون) وفيل ماسينجا (ليدز يونايتد).
فيما كان الثلاثي لوكاس راديبي (ليدز) وشون بارتليت (كيب تاون) وهلمان مكاليلي (أورلاندو) عادة ما يشاركون كبدلاء.
كانت جنوب إفريقيا في المجموعة الأولى رفقة المنتخب المصري الذي تأهل ثانيا خلفها بنفس العدد من النقاط (6)، والكاميرون وأنجولا.
في الافتتاح ضرب البافانا بافانا الكاميرون بثلاثية نظيفة بفضل ماسينجا وويليامز وموشيو، ثم انتصروا على أنجولا بهدف نظيف سجله ويليامز، قبل أن يسقطوا أمام الفراعنة بهدف أحمد الكاس في الدقيقة السابعة.
في ربع النهائي انتصروا على الجزائر بهدفين لهدف بشق الأنفس بفضل هدف شون موشويو قبل 5 دقائق من النهاية، ثم ضربوا غانا بثلاثية بيضاء في نصف النهائي بفضل ثنائية موشيو وهدف بارتليت، قبل الانتصار على تونس بالنهائي بهدفي مارك ويليامز الذي دخل كبديل قبلها بدقيقتين فقط.
يقول ويليامز عن ذلك المشوار: "منذ البداية لم يمنحنا أحد فرصة ولكن مباراة ربع النهائي أظهرت عدم الاستسلام لدى تلك المجموعة من اللاعبين ثم أعطانا ذلك الحافز أمام غانا. في البطولات الكبيرة لا بد من الفوز على الكبار وقد أردنا إظهار أننا عدنا إلى المحطات الدولية".
ويضيف اللاعب الذي فقد مكانه ثم مستقبله مع ولفرهامبتون بسبب المشاركة مع بلاده في البطولة الإفريقية "أعتقد أنه عندما سجل موشيو ذلك الهدف أمام الجزائر شعرنا بالذهول والانبهار، في كل صباح وفي السادسة صباحا أثناء الإفطار كان يأتي مانديلا ليعطينا مزيدا من الثقة والإيمان، كان لدينا الرئيس والشعب من خلفنا، كان بمثابة حلم".
وعما حدث مع فريقه الإنجليزي "كشخص نشأ في جنوب إفريقيا ورأى مانديلا يفعل ما فعله لبلاده فأعتقد أنني اتخذت الخيار المناسب، لم يكن قرارا سهلا ولكنه كان صحيحا".
يشاركنا القائد نيل توفي الحديث عن تأثير مانديلا على الفريق والدعم الذي قدمه للبافانا بافانا.
يسترجع توفي الذكريات مع FilGoal.com قائلا: "لقد كانت لحظة عظيمة مجيدة للغاية، كنت ومازلت فخورا بها، أن يحدث هذا من مانديلا نفسه".
"انظر للتاريخ لا يوجد أحد أكبر من مانديلا كان ذلك تكريما وبطولة في حد ذاتها، كانت لحظة لا تصدق أبدا، كبرنا في المكانة الكروية وفي القارة وخطونا خطوة كبيرة نحو المستقبل".
"مانديلا كان حيويا للغاية لنا وساعدنا كثيرا في كل المباريات، تواجد بجانبنا دائما، لم يكن هناك الكثير من الرؤساء يفعلون ذلك، كم رئيس كان يحضر كل مباريات منتخب بلاده ويدعم لاعبيه؟".
ويتم لـFilGoal.com "كان يأتي ويشاهدنا ويشجعنا ويتحدث معنا منحنا ذلك دافعا كبيرا للغاية، كان يسعى لتنمية الرياضة وعلم بأهمية البطولة وكانت تلك قيمة كبيرة لنا".
يتحدث شون بارتليت مهاجم البافانا بافانا في تلك البطولة أيضا لمجلة فور فور تو شارحا الوضع "من الواضح أن ما حدث في 95 من فوز منتخب الرجبي أعطانا الدافع والحافز، إلى جانب وجود مانديلا، للمضي قدما وتحقيق الإنجاز".
ويضيف المهاجم الذي يحتل المركز الثاني خلف بيني مكارثي كثاني الهدافين التاريخيين للمنتخب برصيد 29 هدفا "حقيقة كانت اللافتة التي رفعها لنا منتخب الرجبي في المباراة النهائية مؤثرة في تحقيق فوزنا في ذلك اليوم".
أما الزامبي كالوشا بواليا هداف البطولة في تلك النسخة بخمسة أهداف فيشير من واقع معايشته للأحداث.
ويقول لفور فور تو: "تلك البطولة جمعت الجنوب إفريقيين معا، كرة القدم يمكنها تحريك مشاعر العديد من الناس. كانت واحدة من أفضل البطولات على الإطلاق، وقد كانوا فريقا جيدا للغاية ولن ينسى من تاريخهم".
يختتم لاعب الوسط المحوري للبافانا بافانا في تلك البطولة دكتور كومالو الحديث لـ FilGoal.com عن البطولة: "١٩٩٦ كانت بعد العودة من الإيقاف الطويل، عدنا أخيرا للعب وتمثيل دولتنا، كانت هناك مشكلة كبيرة للغاية، تعرف الوضع السياسي".
"تمكنا من اللعب أخيرا في كأس الأمم الإفريقية بعد عدم التأهل لنسخة ١٩٩٤، كنا أقوياء للغاية أردنا أن نجعل دولتنا فخورة وأردنا تقديم أنفسنا لأننا لم نكن نلعب دوليا، ومعظم اللاعبين أرادو إثبات قدراتهم وتقديم أنفسهم للعالم أجمع".
"كما نعلم جميعا، نيلسون مانديلا دعمنا كثيرا وكان متواجدا معنا طوال الوقت، وساندنا للفوز بالبطولة. كان شعورا جيدا من أجل مستقبل الدولة فيما يخص الرياضة، وصنع ذلك فارقا كبيرا لنا".
"أخبرنا مانديلا أن هذا التتويج سيفيد الدولة، كان أمرا مهما لنا كلاعبين أن نحققه لأننا لم نكن واثقين مما سنفعله ونحققه، لكننا تأهلنا من المجموعات وسرنا في طريقنا".
"لعبنا ضد الجزائر وكانت مباراة رائعة للغاية، وكذلك النهائي كانت مباراة جيدة جدا. كنا ندا قويا للجزائر، فزنا بنتيجة ٢-١، فوجئ الجميع بمستوانا في تلك المباراة".
"وضد غانا نجحنا في الفوز لم نواجه الصعوبة التي توقعناها، لم ألعب المباراة، لكنني أتذكر كانت لنا أفضلية كبيرة، بجانب المدرجات. الدولة بأكملها كانت تدعمنا، ثم جاءت مواجهة تونس في النهائي".
"نيلسون مانديلا عمد إلى إقامة احتفالات ودعمنا كثيرا، الملعب كان ممتلئا عن آخره، كان هناك الكثير من السياسيين والزعماء".
"كانت بطولة مهمة جدا لنا، كان من المهم أن نفوز بها، دائما ما أفتخر وأتذكر اللحظة، خاصة وأننا توجنا بها على ملعبنا. كان هناك الكثيرين الذين توجوا بها، أردنا اللحاق بالركب".
"فزنا باللقب، وغير ذلك كل شيء، تلك النقطة كانت علامة التحول الأكبر في تاريخنا".
_______
"تكشف تلك البطولة أننا اختبرنا شيئا يفوق توقعاتنا. كانت المباراة الأخيرة مثيرة، وأطلقت العنان لفورة من الفخر الوطني والوحدة السعيدة. وهكذا، نجتمع هنا الليلة للاحتفال بأحد أكبر النجاحات الرياضية المدهشة في جنوب إفريقيا. حقق فريقنا الوطني لكرة القدم أحلام جنوب إفريقيا رغم كل الصعاب.
نحييكم على التصميم الذي صعدتم فيه إلى مستوى التحدي واستخدمتم نقاط القوة الخفية للتغلب على الفرق الأعلى تصنيفًا. وقمنا بتوحيد مكان كرة القدم باعتبارها الرياضة الأكثر شعبية في جنوب إفريقيا.
سلوككم داخل وخارج الملعب الرياضي وروح بناء الفريق كانت ملهمة. مثل لاعبي لعبة الركبي والكريكيت لدينا، ساعدتم على جمع أفرادنا معًا كما لم يحدث من قبل. نحن ممتنون لإسهامكم في الوطنية الجديدة التي تدفع بلدنا نحو هدفها المتمثل في أن تكون ديمقراطية غير عنصرية بحق.
اسمحوا لنا جميعًا أن نكرس أنفسنا لجعل الرياضة في متناول جميع شعبنا حقًا، مستوحى من إنجازاتكم والدفء الذي أخذكم به جميع شعوب جنوب إفريقيا إلى قلوبهم. هل لي مرة أخرى أن أقول بكل تواضع: مبروك لأبطال إفريقيا! مبروك لجنوب افريقيا".
من خطاب نيلسون مانديلا للاعبي البافانا بافانا بعد التتويج باللقب.
** شارك في التقرير إسلام مجدي.