عصام شاهين

رحلة صلاح المكتملة.. الوصول للمجد من الزاوية الضيقة

تبدو الزاوية الضيّقة دائماً أصعب، لكن الصعوبة كلّما اشتدت؛ كان النجاح مُمتِعا، وهكذا دائماً بطلنا الأوّل، في كل اختياراتِه؛ ذهَب دائماً إلى الزاويةِ الأصعب، ليحقِّق بذلك نجاحًا لم يعد له مثيل في التاريخ العربي والإفريقي.. المجد من الزاوية الضيقة.
الأربعاء، 03 نوفمبر 2021 - 12:11
محمد صلاح يحتفل بالهاتريك في شباك مانشستر يونايتد

تبدو الزاوية الضيّقة دائماً أصعب، لكن الصعوبة كلّما اشتدت؛ كان النجاح مُمتِعا، وهكذا دائماً بطلنا الأوّل، في كل اختياراتِه؛ ذهَب دائماً إلى الزاويةِ الأصعب، ليحقِّق بذلك نجاحًا لم يعد له مثيل في التاريخ العربي والإفريقي.. المجد من الزاوية الضيقة.

وقبل رحلته المكتملة للمجد، عاش المشجعون تجاربَ أخرى لم يُكتب لها الكَمَال؛ فدخلت الألفية الجديدة بتجربةٍ مثيرةٍ لأحمد حسام ميدو الذي خطَف الأضواء وهو ابن 18 عامًا، لكن الرحلة كانت محفوفة ببعض المشكلات، وخطف عمرو زكي القلوب سريعًا، لكن الرياح جرفته أسرع، وجلس محمود الخطيب وحيدًا في قائمة الشرف المصرية لأفضل من حصلوا على أفضل لاعب في القارة السمراء في تتويج صمد لـ٣٤ عامًا، حتى كفاح ديديه دروجبا في الدوري الإنجليزي بتسجيله 104 أهداف باتَ رحلة لم تكتمل في طريق الهداف الإفريقي للدوري الإنجليزي، كل شئ أكمله وأنهاه البطل الشعبي المصري محمد صلاح بنجاح.. في الرحلة المكتملة.

(1)

الرحلة الأولى.. المكان: قطار طنطا - القاهرة

كان صلاح مؤمنًا بأنه يقف على ناصية الحلم في طريق قتال سيكون محفوفًا بالمخاطر، لكن المخاطرة الأهم كانت حينها في طريقٍ يخوضه يوميا لنحو 4 ساعات يقطع فيها مسافة 165 كيلو من نجريج إلى مركز بسيون إلى طنطا؛ حيث يظفر بقطار القاهرة وصولاً إلى نادي المقاولون العرب.

تفوز عضلات مُحمد أخيراً بمقعدٍ خشبيٍ بعد ساعة قضاها واقفا من طنطا حتى مدينة بنها -المدينة التي تحمل نصف زوار القطار عادة- ينظر من الفتحة الضيقة لشبّاك القطار، ويستكمل شريط أحلامه؛ يزدهر حلمه كأشجارِ الطريق الزراعي الواصل بين طنطا والقاهرة، يحلم بهذا اليوم الذي تلتقطه عيون ناديي القمة في مصر.. أو بيوم آخر يكون محترفًا مصريًا في الخارج، تدور الكرة في مصر حوله، كان حلم صلاح يابساً، وواقعه عسيراً، لكن الصغير اختار لنفسه الطريق الأصعب، كأول زواية ضيقة يصوب فيها ليسجل مجده الأول، لاعبا في الفريق الأول لفريق المقاولون العرب.

(2)

زمن ميدو

تزداد أضواء القاهرة بين الأهلي والزمالك مع نهاية التسعينات ومطلع الألفية، يتمتع اللاعبون بالصخب مع كل خطوة يخطونها داخل مصر، فقط اختار عدد من اللاعبين البزوغ خارجها؛ فيخرج أحمد حسن وعبد الظاهر السقا وعبد الستار صبري وحازم إمام وياسر رضوان ومحمد عمارة وأحمد صلاح حسني وقبلهم هاني رمزي، تجارب شهدت نجاحًا متقطعًا في الدوريات التركي والألماني والبرتغالي، لكن سهمًا خرج من ميت عقبة معقل نادي الزمالك ليتجه صوب أوروبا، وهو لم يكمل الـ17 من عمره؛ أحمد حسام ميدو يفعل كل شئ ويصبح لاعبا في الدوري البلجيكي.

تشاهد مصر نجم ميدو يزداد؛ الشاب الذي اختار الابتعاد عن أضواء نادي الزمالك المدجج بالنجوم ليصنع مجداً فريداً -حينها- ينضم إلى أياكس، يفوز بالدوري والكأس ويزامل إبراهيموفيتش، ينتقل إلى مارسيليا الفرنسي ويزامل دروجبا ويسجل هدفه الأغلى في مرمى ريال مدريد وأمام أعين فريقه المرعب كارلوس وفيجو وزيدان ورونالدو، الفخر المصري في كل مكان، يذهب للدوري الأشهر في العالم مع نادي توتنهام - معاراً من روما الإيطالي- يقدم موسمًا استثنائياً ويسجل 11 هدفًا في 27 مباراة، يلعب في الدوريات الثلاثة الكبرى الإسباني والإيطالي والإنجليزي، يسجل في ريال مدريد وليفربول ويحرز هدفًا يحول مسار الدوري الإسباني إلى العاصمة مدريد، لكن الجانب الآخر من ميدو كان عدد من الأزمات مع مدربيه، مشكلات مع الأندية، عودة لمصر، ثم الاعتزال صغيرا.

ربما رأى مشجعو مصر حينها أننا قد وصلنا إلى قمة المجد.. لكن القمة لم تأتِي بعد لأن صلاح لم يكن قد بدأ بعد..

(3)

صيف 2012.. الذهاب مضطرا إلى بازل

يتوهج الشاب صلاح الذي أكمل لتوه عامه العشرين، تتجه أحلامه نحو ناديي القمة في مصر الأهلي والزمالك، يدخل ناديي القمة في مفاوضات مع اللاعب، يبدو الزمالك أقرب كثيرا، يوافق اللاعب ويتم الاتفاق على كل شئ، لكن رئيس نادي الزمالك يوقف المفاوضات لاحتياج صلاح إلى الخبرة، يبدو صلاح حزيناً، حزنه الذي لم يستطع إخفاءه في مقابلة قال فيها إن "حلمي كان مثل أي لاعب؛ اللعب في الأهلي أو الزمالك، وبالفعل كنت سأنتقل لنادي الزمالك، لكنهم في الزمالك قالوا لأ، ما زال أمامك بعض الوقت لتلعب في الزمالك، الله أكرمني في هذه الفترة واضطررت للذهاب لبازل السويسري، لم يكن في بالي الاحتراف، لكني الآن أتمنى أن أكمل هناك، لا أرغب في العودة، أتمنى أن أكسر القاعدة وأذهب إلى نادي من كبار أوروبا".

فشل حلم صلاح الأول في الذهاب لناديي القمة، لكنه اختار الزاوية الضيقة للمجد، يذهب إلى سويسرا من أجل حلم جديد وهو البقاء في أوروبا، كسر القاعدة المصرية في العودة سريعا لمصر، وقاوم كل صخب القاهرة ولياليها، وصمم على الذهاب إلى أحد كبار أوروبا.

(4)

زكي المتوهج

يخرج عمرو زكي إلى أوروبا مرة أخرى بعد تجربة لم تنجح في لوكوموتيف موسكو الروسي؛ الشاب الذي توهج لتوّه في كأس الأمم الإفريقية في 2008 أصبح الآن لاعبًا في ويجان تحت قيادة أحد أساطير مانشستر يونايتد ستيف بروس، يأكل عمرو زكي اليابسة والخضر، يسجل في نصف موسم 10 أهداف، تقذف سهامه مرمى ليفربول وتوتنهام وغيرهم، يرتفع نجم زكي، وتفاوضه الأندية الكبيرة في أوروبا، أصبح تحقيق الحلم سهلاً، لكن كان لزكي رأياً آخر، لا يعود زكي إلى لندن من القاهرة في الموعد المحدد بعد مباراة المنتخب مع زامبيا في تصفيات المونديال، تتوتر علاقته بالمدرب، يصفه بروس بأنه أسوأ مدافع تعامل معه، تنتهي قصة زكي سريعا، ويعود من حيث أتى، إلى الدوري المصري.

حلمت الجماهير المصرية بحلم زكي وتجمعت حوله، رأت مستقبله في أكبر أندية أوروبا، لكنه قرر ألا يكمل الطريق، وبعد نحو 5 سنوات، يأتي مصريُّ آخر إلى الدوري الأهم في كرة القدم، لكن الأثر قد اختلف كثيرا.

(5)

يدخل صلاح أول بوابات المجد، أدرك حينها أن بين قدمه اليسرى وعقله كنزاً يجب أن يعيش لأجله، يصبح أفضل لاعب في سويسرا، ويظفر مع فريقه ببطولة الدوري، يتوهج أمام توتنهام في الدوري الأوروبي وتشيلسي في دوري الأبطال، تخطفه عيون تشيلسي وهو لم يكمل الـ 22 من عمره بعده ويطلب الرتغالي جوزيه مورينيو التعاقد معه..

كل أبواب النجاح فتحت على مصراعيها، محمد صلاح لاعبا في تشيلسي أحد أهم فرق الدولة الأم لكرة القدم. لكن صلاح ظهر على استحياء، وسجل ظهورا خافتا، تبدو مهمة صلاح أصعب مع النادي المتوج بالدوري الإنجليزي، ليقرر الخروج سريعا باحثا عن العودة من الزاوية الضيقة.

كان صلاح عازما على الوصول حتى وإن كلفه ذلك الذهاب إلى الزواية الضيقة التي أحبها دوما، يذهب إلى فيورنتينا معارا، ثم متوهجا في روما، ثم عائدا كالملك إلى مدينة كرة القدم ليفربول، كأغلى لاعبي مصر وإفريقيا في تاريخها، وتفتح أبواب المجد على مصراعيها..

(6)

ذهب بيبو

لمع الذهب في أيدي محمود الخطيب، أحد أفضل لاعبي كرة القدم في التاريخ المصري، يظفر الخطيب بجائزة أفضل لاعب إفريقي لعام 1983، ويبقى الذهب عصيا على كل من مروا على كرة القدم في مصر لنحو 34 عاما، تعصى الجائزة على ميدو فيصبح ثالثًا في عام 2002، وتعصى بقوة على محمد أبو تريكة في 2008 فيأتي ثانيًا خلف التوجولي إيمانويل أديبايور، لكن مصر تأتي بآخر مبدعيها ليظفر بكل شئ ممكن في الكرة الإفريقية، يتوج صلاح بالكرة الذهبية بعد غياب مصري طويل عن منصات التتويج، ويفوز بها لعامين متتاليين كأعظم إنجاز فردي مصري تحقق في كرة القدم.

(٦)

سبتمبر 2018

بضع ساعات تتبقى على حفل الأعظم في العالم.. يأخذ صلاح مقعده في طائرة خاصة ستغادر أراضيها خصيصا لأجله، ينظر إلى العالم أمامه ويقفز في مخيلته قطار القاهرة - طنطا حيث ذلك الشاب الهزيل الذي قتله الزحام والتعب من أجل أن يكون لاعبا في المقاولون العرب.. يتذكر العالم من شباك قطار متهالك كانت أمانيه فيه أن يجد مقعدا خاليًا إلى وجهته، ثم تمر السنوات ولا يجد للحلم ناصية سوى ناد في سويسرا انتقل إليه ولا يخفي حزنه بأن أحد ناديي القمة رفض انضمامه إليه لأنه لم يصل بعد للمستوى المطلوب.

يقسم بأنه لن يعود.. لن يكون رقمًا سهلًا يضعف أمام الشهرة والحياة المزدهرة في مصر.. يعلم أن الطائرة قاربت على الوصول وما زال صغير "نجريج" يقلّب أوراقه.. كيف أنهى مورينهو حلمه في أن يكون في النادي الأفضل ولم يتم عامه الـ٢٢.. وكيف عاد وكيف قهر اليأس والحزن.. ليعود إلى إنجلترا بطلًا.. يعود إلى إنجلترا ملكًا عليها.. ظافرًا بكل ألقابها.. متحديًا الجميع بلا رجعة.. معشوقا لجماهير مصر وبطلها الأول.. وحبيب الجميع في إنجلترا وأوروبا.. عائدًا ببلاده إلى المونديال بعد جفاءٍ دام 28 خريفًا.. تهبط طائرته وسط حفاوة بالغة.. السيد محمد صلاح مرحبًا بك في ليلة أنت فيها ضمن أفضل ٣ لاعبين عرفتهم البشرية بين عامي 2017 و2018..

(7)

يوليو ٢٠٠٤

ينتقل الفيل الإيفواري ديديه دروجبا إلى نادي تشيلسي ضمن سعي النادي اللندني لإحكام سيطرته على الملاعب الإنجليزية، يتألق دروجبا ويقود فريقه نحو بطولة الدوري للمرة الأولى منذ 50 عاما، يسجل إجمالاً مع البلوز 104 أهداف في البطولة الأقوى في العالم، يصبح أكثر الأفارقة تسجيلا للأهداف في الدوري الإنجليزي تاريخياً، كان كل شئٍ على ما يرام حتى يوم 24 أكتوبر 2021.

(٨)

24 أكتوبر 2021

تشتد نيران مانشستر سيتي صوب ليفربول في معقل أنفيلد، يعود بتعادل مثير لنجمه الأول دي بروينه، ويبدو أنه قد يُحكم زمام المباراة، ومع اشتداد الرياح صوب مرمى أليسون بيكر حارس ليفربول، يستلم محمد صلاح الكرة في منطقة لا بوادر فيها للخطورة، لكن كعادة صلاح؛ يصنع مجده بالطرق الأصعب، يتصاعد الطموح لدى الرجل الذي يحقق كل شئ، حتى لو كانت مراوغة مصرية خالصة، مر منها من الزوايا الضيقة لمدافعي مانشستر سيتي ويودعها في الزاوية الصعبة، لا تُرد في مرمى وُضعت بداخله أجود أهداف الدوري الإنجليزي على مدار ٤ سنوات متتالية وواضعها هو الأول في كل شئ.. محمد صلاح

يتوهج النجم الإفريقي الأول في تاريخ الدوري الإنجليزي الممتاز، لا يكتفي فقط بمعادلة رقم ديديه دروجبا، بل يذهب بعيدا، ينفرد صلاح ليس فقط بمرمى دي خيا حارس مانشستر يونايتد محرزا هاتريك، لكن ينفرد بصدارة الهدافين الأفارقة في البريميرليج، مع عدة أرقام تبدو كالمعجزة.

يبدأ صلاح كل صعبٍ وينهيه بسهولة، يمرُّ من كل الزوايا الضيقة إلى براحٍ لم نرى مثيله، مُنهكًا في قطارِ القاهرة ليصبح لاعبًا للكرة في المقاولون، يبدأ طريقًا صعباً في أوروبا ويصمم ألا يعود، يخرج من الباب الخلفي لتشيلسي، ليفتح بوابات الإبداع لليفربول العريق، يأتي بالدوري الإنجليزي بعد 30 عاما، ودوري الأبطال بعد 15 عاما، يسدد في الزوايا المفتوحة كالمتعاد، وفي الزواية الضيقة كما يهوى دائما أن يستمتع بالمجد.