كتب : أحمد أباظة
أخيرا أتت صافرة بداية العرض، معلنة عن انطلاق فترة الصراع الجماهيري السنوي بشأن هوية الفائز بالكرة الذهبية لما يطلق عليه "أفضل لاعب في العالم".
هذا هو الموعد الرسمي لأكبر تضارب كروي جماعي في المعايير، حين لا يجد العديد الحد الأدنى من الغضاضة في إخبارك بالنقيض التام لما أخبروك به في العام الماضي.
هذا لم يعد سرا، سواء كانت جائزة الكرة الذهبية، أو جائزة فيفا "ذا بست"، أو حتى في فترة الدمج الشهيرة بينهما.. القاسم المشترك دائما أبدا أن ما يطلق عليه "المعايير" ليس سوى كيان هلامي يصاغ تبعا لما يقتضيه المشهد.
في أيام الجدل الدائر عن الفارق بين أهمية وصعوبة الدوري كماراثون طويل المدى ودوري أبطال أوروبا كبطولة إقصائية، كان هناك تصريح دخيل على لسان جوزيه مورينيو يلخص هذه الحالة..
"إذا فزت بالدوري سأخبرك أنه الأهم، وإذا فزت بدوري الأبطال سأخبرك أنه الأهم، ما يهم حقا هو ما أفوز به".
لم يقل مورينيو شيئا كهذا علنا ولكن لا يمكننا استبعاد احتمالية قوله لشيء كهذا في العموم، فهو واحد من أكثر رجال كرة القدم براجماتية بنزعة ميكافيلية واضحة. في نهاية المطاف، هذا تحديدا ما يحدث بعد كل تتويج بجائزة فردية في كرة القدم.
إذا فاز بها الأكثر تسجيلا سنقول أن الأرقام الفردية هي الأهم، وإذا فاز بها الأكثر تتويجا سنقول أن الألقاب هي الأهم، وإذا فاز بها من لا يملك هذا ولا ذاك سنقول أن التأثير هو الأهم، وأن الوقت قد حان أخيرا للتخلص من هوس الأرقام والألقاب، وهكذا يتم خدمة القصة المراد بيعها سنويا أيا كانت الطريقة.
إنجلترا على سبيل المثال تتبع هذا الأسلوب بنجاح ساحق في تسويق البريميرليج، فوجود منافسة قوية دليل على قوة الدوري، وغيابها دليل على قوته لامتلاكه فريق بهذه القوة. فوز فريق قوي باللقب يدل على قوة الدوري، بينما فوز فريق ضعيف بنفس اللقب على حساب أقويائه.. يدل قطعا على قوة الدوري.
للأمانة خيارات الكرة الذهبية هذا العام مثيرة للاهتمام على صعيد التنوع أكثر من أي عام مضى، فالصراع الذي خرج أخيرا من تحت القبضة الاحتكارية الأشهر في تاريخ اللعبة "ميسي – رونالدو" بات يملك عددا كبيرا من المرشحين الذين لن يدهشك اعتلاء أي منهم المنصة للإمساك بكرة الذهب.
الأفضلية القطعية للألقاب تغيب غيابا واضحا عن منافسة هذا العام، فبطل البريميرليج هو وصيف دوري الأبطال، وبطل الليجا لا يملك سوى هذا المرشح الوحيد الذي لم يضع يده على الجائزة في ذروة انفجاره لأنه لا يعلم أين يضع أسنانه، وبالتأكيد لن يضعها الآن، لا يده ولا أسنانه.
هناك أيضا نصيب المسابقات الدولية من الكعكة، فعلى صعيد الألقاب لا يأتي ميسي بكأس الملك بل بكوبا أمريكا الغائبة عن بلاده منذ تسعينات القرن الماضي، بينما البقية من تعساء الحظ لم تسعفهم منتخباتهم، سواء بالفطرة مثل ليفاندوفسكي البولندي، أو بالنتائج الصادمة مثل كانتي الفرنسي.
اسم كانتي تردد بقوة بعد أداء كاسح في الأمتار الأخيرة لدوري أبطال أوروبا، وإن كان هذا يرشحه عن هذه الفترة تحديدا إلا أننا نتحدث عن عام بأكمله، وبينما أطاح خروج فرنسا المبكر على يد سويسرا بأسهمه، كان لزميل يجاوره كل الحظ السعيد في تتويج إيطاليا بلقب اليورو.
فجأة بات اسم جورجينيو يتردد بقوة، وخصوصا مع فوزه بجائزة أفضل لاعب في أوروبا، فهو القاسم المشترك الأوحد بين دوري الأبطال واليورو، ولكن لعبة الأرقام كالعادة لا تقف في صالحه، فهل يملك هذا الرجل ما يكفي من الشعبية ليلقى نفس معاملة الرجل الذي اعتلى المنصة ذاتها بدوري الأبطال ووصافة كأس العالم دون أرقام تذكر؟
على ذكر الأرقام، دائما أبدا يجب أن نشاهد كريستيانو رونالدو في الترشيحات، حتى وإن غادر منتخب بلاده دور الـ16 لليورو، وغادر فريقه دور الـ16 لدوري أبطال أوروبا، واحتل المركز الرابع في الدوري الإيطالي أو بالأحرى احتل أي مركز غير الصدارة للمرة الأولى في عقد كامل من الزمان، ولكنه لا يزال هداف الدوري الإيطالي في هذا العمر، والأهم أنه لا يزال كريستيانو رونالدو.
الأرقام التهديفية تقف بصورة واضحة في صف روبرت ليفاندوفسكي ولكنه لا يملك سوى الدوري الألماني، ولمثل هذه الأشياء خلق الحذاء الذهبي. كريم بنزيمة لا يعوزه عامل من عوامل الأداء الفردي بعد موسم رائع مع ريال مدريد، ولكن هذا ينطبق على موسم بنزيمة، وليس موسم ريال مدريد.
محمد صلاح على سبيل المثال هو أفضل لاعب في الموسم الجديد للبريميرليج بوضوح، وقدم حصيلة رقمية لا بأس بها في الموسم الماضي، ولكن فريقه لم يفز بأي شيء، وهل يصنع النصف الثاني من العام (النصف الأول من الموسم الجديد) فارقا في الاختيار من الأصل؟
كالعادة، الكل له وعليه، والأمر كالعادة متروك في يد 180 صحفي حول العالم انتقتهم "فرانس فوتبول" لتحديد هوية "أفضل لاعب في العالم"، ولكن هل يعني ذلك أن الفائز سيكون "أفضل لاعب في العالم"؟ إطلاقا.. الفائز سيكون "حامل الكرة الذهبية" فقط.
الجدل سيظل قائما لسنوات بعد إعلان الفائز، فإن أخذت عينة عشوائية من التغريدات التي تعلق على "قواعد الاختيار" ستجد الكل يحاول تسويق مرشحه بالفعل، وللأمانة، ستجد أن لكل منهم جانب من الحق بصورة أو بأخرى، ولكن آلية الاختيار ليست "أكاديمية" أو ما شابه، بل "ديمقراطية منتقاة" إن جاز التعبير، وإن أردت أن تعرف الوجه الآخر للديمقراطية سواء كانت منتقاة أو مفتوحة للعوام، فقد قادت دونالد ترامب إلى رئاسة أقوى دول العالم في يوم ما.
مهما كانت عبثية هذا المشهد للمتابع الخارجي، لا بد وأن الغالبية العظمى من المشاركين في اختيار كهذا كانوا على قناعة تامة بما فعلوه. لا يمكن أن يكون 10% مثلا ممن صوتوا لصالح ترامب قد أدلوا بأصواتهم وهم يعتقدون أن ما يتخذونه هو القرار الخاطئ، ولكن هذا هو الخلط الشائع بين "الجدارة" و"الواقع".
بكلمات أخرى.. نتيجة أي انتخابات كفيلة بإقناعك أن فلان صار يتولى منصبا معينا، لأنه أمر واقع، ولكنها وحدها لا تكفي لإقناعك بكونه الأجدر.. تماما كما ستصبح نتيجة الكرة الذهبية كافية لإقناعك بأن فلان هو حامل الكرة الذهبية، ولكن الأفضل في العالم؟ هذه الأمور لا تحسم بتلك البساطة.