هل التلفاز والراديو هما وسيلتك لمتابعة المباراة، أم غايتك لتحقيق الاستمتاع؟
سأتركك تفكر في إجابة لهذا السؤال، وسأعود لطرحه عليك في نهاية المقال.
وبينما تفكر في إجابة، دعني أقص عليك تجربتي الشخصية لعلها تتقاطع مع أفكارك.
منذ فترة بدأت في الاستماع إلى محطات الراديو الإسبانية لأسباب تعليمية في الأساس، ومع تقدُمي وتمكني أكثر من اللغة، تحوّل الأمر إلى هواية، أو لعله إدمان حتى.
بعدها اكتسبت عادة متابعة المباريات عبر محطات الإذاعة الإسبانية عندما أكون في مكان لا ولوج لي فيه إلى التلفاز، مثل الشارع أو المواصلات.
تدريجيًا، تحوّلت من الشخص الذي يشعر بغصة في صدره لتفويت مشاهدة أي مباراة، إلى شخص يجد عزاءه في الاستمتاع بمتابعة تلك المباراة على الراديو الإسباني.
لكني شعرت بالخطر وأضاءت في رأسي اللمبة الحمراء عندما اكتشفت مؤخرا حقيقة راوغتها محاولا عدم الاعتراف بها لفترة: أنا أستمتع بالاستماع للمباريات على الراديو الإسباني أكثر من مشاهدتها في التلفاز!
تحت أي ظرف، هذا الاستنتاج مخالف للمنطق، فأنا من الجيل الذي فتح عينه على الشاشة، ولذا فإن الراديو ليس نوستالجيا ترتبط في ذهني بذكريات سعيدة.
وفكرة الإذاعة في الأساس هي إيصالك إلى أقرب نقطة ممكنة من المُشاهِد، أقول أقرب نقطة لأنك لن تصل أبدا إلى تلك النقطة، فأنت لا ترى المباراة أمامك.
وليس منطقيًا أن تكون جالسًا في الملعب مثلا، وتبدأ في مشاهدة المباراة على تلفاز، الأمر يشبه ذلك تمامًا.
والتجربة البصرية في متابعة مباريات الدوري الإسباني ليست سيئة على الإطلاق، في الواقع، الدوري الإسباني يستعمل أحدث تقنيات الإخراج في عالم كرة القدم.
في أسوأ الأحوال، جودة البث وهيئة الملاعب ليست مُنفّرة إلى تلك الدرجة التي قد تجعلني أهرب إلى حاسة السمع دونًا عن النظر.
تساءلت كثيرا عن سبب تفضيلي للراديو، ولم أفطن السبب إلى عندما سألت السؤال الصحيح:
هل أستمع إلى الراديو لمتابعة المباراة، أم للاستماع إلى ناقلي المباراة؟
والإجابة كانت جلية بالنسبة لي: المباراة ليست محور اهتمامي، وإنما ما سيقوله الناقلون، كيف سيقاطع المُعلِق المحلليين، كيف سيتبارى المذيعون في إثبات وجهات نظرهم.
كيف سيتمازحون تارة، ويضفون طورا من الجدية المصطنعة في تارة أخرى، كيف سيتحاكون بالنوادر والمعلومات المثيرة، لكنهم في الوقت نفسه سينقلون المباراة بدقة شديدة كأني أراها أمامي.
وهنا تحوّل الراديو من أداة أتابع عليها المباراة بائسا يائسا في غياب التلفاز، إلى أداة أهرع إليها طلبا للاستمتاع وأذهب إليها طواعيةً.
وهذا ينقلنا إلى السؤال الأكثر شمولية: هل القنوات التي تتابعها لمشاهدة كرة القدم، هي اختيارك الحر أم إجبار لك مُكره عليه؟
وأنا أضع نفسي مكان المحطات التي تمتلك حقوق بث المباريات، وأتساءل: هل سأحظى بنسبة مشاهدة عالية عندما أصنع العجب؟ بالطبع. وهل سأحظى بنسبة مشاهدة عالية عندما أقدّم محتوى "تأدية واجب"؟ حسنًا، الإجابة أيضا بالإيجاب، نعم، ستحظى بنسبة عالية.
فأنت تملك السلعة التي يبحث عنها المشاهِد، وسواء كانت الوجبة شهية أم مقيتة، فإن الجوعان سيأكل وسيلتهم الطبق عن آخره، فما الداعي إذا في بذل مجهود واستثمار وقت واستنزاف الموارد والنتيجة واحدة؟
تفكير شيطاني، أليس كذلك؟
لنذهب إلى الراديو إذا، أنت متى تستمع إلى الراديو لمتابعة المباريات؟ وأنت في السيارة، أو حيث لا تمتلك ولوجًا إلى شبكة الإنترنت لتعوض غياب التلفاز بمشاهدة المباراة عبر رابط.
فأنت تذهّب إلى الراديو مُكرهًا، إنه زوجة الصالونات التي ارتضيت بها لتجاوز حب حياتك الضائع، تُقنِع نفسك ربما أنك متابع لما يحدث ثانية بثانية، ولكني أنا وأنت والجيران نعرف أن لحظة ظهور التلفاز، يغور الراديو.
ومسكين ذلك الذي يعمل في الراديو، فتخيل أنك جالس في استوديو حيث متابعك هو مغلوب على أمرهم، يحصي الدقائق ويطوي الأرض طيا ويركب الريح ليصل إلى المنزل ويغلق صوتك بعنف ويفتح التلفاز في ارتياح.
ماذا ستشعر لو كنت خيارا ثانيا دائما؟ في الحب أو في بث مباريات كرة القدم، لا يهم، فالشعور سيان، وقلة القيمة واحدة، وكسر الخاطر متشابه إلى حد كبير.
وهذا يعيدنا إلى بلدي الثاني العزيز إسبانيا، لماذا لا تزال محطات الراديو تحظى بقوة هائلة بعد 65 عامًا من بدء البث التلفازي واقتحامه المنازل القشتالية؟
هذا لأنهم في الراديو لم يرضوا بدور البديل، لم يغرقوا في غبار المجني عليه أو المنتهية صلاحيته، بل ناطحوا وقاوموا وصمدوا.
لو استمتعت إلى مباراة في إذاعة إسبانية، فإنك ستكون على موعد مع عرض ترفيهي مكتمل الأركان، دعك من المباراة، لا يهم طرفاها أو أحداثها، فهي عنصر ثانوي، وإنما الأبطال بحق هي الأصوات التي تتردد في أذنك.
يجعلونك واقفا على أطراف أصابعك من التوتر، أو غارقا في الضحك من نكاتهم، أو مشدودا لمناظراتهم التي تهب مشتعلة على حين غرة لمدة دقيقتين أثناء توقف المباراة –وما أكثر التوقفات في الدوري الإسباني-.
وأنا أحب كرة القدم، أتمنى لو شاهدت كل تلك المباريات من الملعب دون وسيط أو ناقل، لكني أيضا أحب جدا الاستماع إلى مباريات كرة القدم عبر الراديو (الإسباني).
لم أعد أرى تناقضا في ذلك باللحظة التي اكتشفت فيها أنها تجربة أخرى ذات أبعاد مختلفة تمامًا.
والآن، أخبرني، التلفاز الذي تشاهده والراديو الذي تسمعه، غاية أم وسيلة؟