كتب : إسلام أحمد
الثالث من نوفمبر 1989
الساعة 9:43 صباحا، أقلعت رحلة فاريج 254 على طريقها المعتاد بين ساو باولو - بيليم، مع خمس توقفات مختلفة في الطريق ومن المقرر أن تصل إلى وجهتها النهائية في وقت لاحق من المساء.
وفي مساء نفس اليوم في ولاية ريو دي جانيرو، على ملعب ماراكانا التقت البرازيل وتشيلي في الجولة الأخيرة من تصفيات كأس العالم 1990.
وفي الدقيقة 67 من عمر اللقاء سقط روبرتو روخاس حارس تشيلي ممسكا رأسه والدماء تسيل.. بدا أن جماهير البرازيل ستشهد كارثة أخرى على ملعب ماراكانا بعد خسارة كأس العالم 1950 في النهائي أمام أوروجواي على نفس الملعب لتعرف مجددا باسم "ماراكانزو".
وأثناء المباراة شهدت البرازيل سقوط الطائرة فاريج 254 في غابات الأمازون أودت بحياة 13 شخصا بعد تحطمها.. يوم كاد أن يكون كارثيا على أمة بأكملها لولا شخص واحد.
--
في مدينة مارابا بارا، على بعد حوالي 2000 كيلومتر من ريو دي جانيرو، يستعد طاقم رحلة فاريج 254 لمرحلته الأخيرة بعد المرور بسلاسة عبر المحطات الأربع السابقة.
كما تم الاستماع إلى القائد سيزار أوجوستو بادولا جارثيز والضابط الأول نيلسون دي سوزا زيل وهما يتناقشان حول تصفيات كأس العالم قبل انطلاقها مباشرة. مثل البلد بأكمله.
في الساعة 17:45، أقلعوا في رحلة مدتها ساعة تقريبا.
وقبل الانتقال إلى المباراة، عليك معرفة نظام تصفيات كأس العالم لقارة أمريكا الجنوبية لم يكن مثلما يقُام حاليا، بل تُقسم المنتخبات إلى 3 مجموعات، بطل المجموعة يتأهل مباشرة إلى كأس العالم بإيطاليا 1990.
المجموعة الثالثة ضمت البرازيل وتشيلي وفنزويلا، وكان سهلا إدراك أن فنزويلا الحلقة الأضعف وهو ما حدث بالفعل، فازت البرازيل وتشيلي على فنزويلا.
وفي 13 أغسطس التقت تشيلي والبرازيل في سانتياجو عاصمة الأولى في مباراة عنيفة للغاية انتهت بالتعادل 1-1 وإشهار 3 بطاقات حمراء منها واحدة لـ روماريو.
في اليوم التالي وسائل الإعلام التشيلية وصفت مباراة الذهاب: "لم تكن مباراة، لقد كانت حربا".
إلى ماراكانا مساء يوم المباراة، وبحضور 140 ألف متفرج انتهى الشوط الأول بالتعادل بدون أهداف، الفوز يعني التأهل للبرازيل ولا غيره، بينما تشيلي تريد إما الفوز أو التعادل.
روبرتو روخاس حارس تشيلي وفريق ساو باولو البرازيلي حينها تصدى بشكل رائع لأكثر من فرصة وبدأت تشيلي إهدار الوقت، لكن خطأ واحد من روخاس تقدمت به البرازيل عن طريق كاريكا في الدقيقة 49 من عمر اللقاء.
في الدقيقة 67 سقط روخاس على أرضية الملعب والدماء تسيل من وجهه ومن خلفه ألعاب نارية -شمروخ- مشتعلة مُلقاه، اندفع لاعبو تشيلي نحو حارسهم وطالبوا بتدخل الطاقم الطبي، ومن ثم توقفت المباراة.
كاميرات المباراة لم تلتقط روخاس وهو يسقط، لذلك تم إيقاف المباراة وبدأ الجميع يفكر في فوز تشيلي باللقاء وهو ما يعني غياب البرازيل عن كأس العالم لأول مرة في تاريخها.
ريكاردو جوميز قائد البرازيل في المباراة: "لقد أصبت بالرعب، فكرت على الفور في خسارة فرصة الذهاب إلى كأس العالم. لقد كان شيئا سيئا حقا".
لكن للقصة جانب آخر، باولو تيشيرا كان يعمل مصورا في ذلك اليوم من أرضية الملعب وقال لشبكة CNN: "على الرغم من أنه قد يبدو مذهلا، لم تلتقط أي كاميرا تلفزيونية اللحظة التي اندلعت فيها الشعلة ومن المفترض أنها اصطدمت بحارس المرمى".
وأضاف "نحن المصورون نجلس على طول الخط الجانبي ورأينا الشعلة تأتي. لقد اندهشت لرؤية روخاس يتدحرج وينزف من إحدى عينيه، حيث أصابت الشعلة الأرض على بعد متر واحد منه".
بالفعل لم تسقط الشعلة النارية على رأس روخاس بل كان حارس ساو باولو وتشيلي يحمل في فقازه شفرة حلاقة مخبأة ليُصيب نفسه في الرأس أثناء سقوطه أرضا.
تيشيرا يتذكر قائلا: "فاتتني اللقطة ومعظم المصورين كذلك، ثم سألت صديقي ريكاردو ألفيري، هل التقطت الشعلة؟ قال: بالطبع حوالي 4-5 لقطات".
نعود إلى الجو مرة أخرى، في الوقت نفسه واجهت فاريج 254 واجهت بعض الصعوبات: بعد 40 دقيقة من الرحلة، كان الطيارون مرتبكين بشأن مكان وجودهم.
على الرغم من أنهم حصلوا على تصريح للهبوط من مراقبة حركة بيليم الجوية، إلا أنهم لم يتمكنوا من رؤية المدينة في الأفق. في محاولة مرتجلة لمعرفة موقعهم، قام الطيارون بضبط محطات الراديو المحلية والتي كانت جميعها تبث المباراة. مع استمرارهم في التنقل عبر الأمازون، بدأ وقود الطائرة ينفد.
لم تستطع رحلة فاريج 254 أن تجد طريقها ونفد الوقود.
في الساعة 21:06، توقف تشغيل كلا المحركين، وتحطمت الطائرة في عمق غابات الأمازون - على بعد 1400 كم من بيليم. من بين 54 راكبا وطاقم الطائرة، كل ذلك أثناء اللقاء.
توفي 13، وأصيب الكثير منهم بجروح خطيرة. تم انقاذ الناجين بعد يومين.
إلى الأرض مرة أخرى، بعدما توقفت المباراة جرأة تيشيرا جعلته يحاول إظهار الحقيقة للجميع رفقة ريكاردو أفيري الذي التقط الصور لكن هناك مشكلة.
تيشيرا واصل "كان ريكاردو يعاني من مشكلة. كان في مهمة لمجلة يابانية وكان عليه أن يرسل الأفلام إلى طوكيو -غير مُجهزة- في صباح اليوم التالي، ولن يثق اليابانيون إلا في مختبرهم".
"قلت لريكاردو: اسمع، أنت الوحيد الذي لديه دليل على أن روخاس يكذب ويخدع. لن أدعك تخرج من بلدي بهذه الأفلام غير المصنعة".
"لذلك وجدت مراسل الراديو وأخبرته أن ريكاردو لديه اللقطات. تحدث ريكاردو على الهواء مباشرة وتغير الوضع كله".
بعد 10 دقائق دخل رئيس الاتحاد البرازيلي غرفة الملابس غاضبا حيث تواجد تيشيرا وريكاردو وسأل على الأفلام، فأكمل تيشيرا "استغرق الأمر أربع ساعات لتحضير المختبر لتحميض الصور. كانت سيدة المختبر غاضبة بعد أن ذهبت يوم الأحد من منزلها للعمل ليلا".
في نفس الوقت وافقت شبكة Globo البرازيلية الشهيرة على شراء الصور مقابل 5 آلاف دولار.
وقال تيشيرا "عندما ظهرت الصور، كانت هناك أربع لقطات واضحة، تبدأ بالشعلة وهي تطير ثم تهبط على بعد متر واحد من روخاس".
مساء اليوم التالي عرضت شبكة Globo الصورة التي تثبت إدعاء روخاس الكاذب في برنامج بعنوان "Jornal Nacional"، وأرسل رئيس الاتحاد البرازيلي إلى نظيره الدولي الصور للتأكد من الأمر.
ريكاردو جوميز قائد البرازيل استعاد ذكريات المباراة قائلا: "كان لدى تشيلي خطة أعدوها وكانت لا تصدق، ولا تصدق حقا، أغرب شيء هو أنهم كان لديهم فريق جيد".
في نفس التوقيت تقريبا، وفي غابات الأمازون كلا الطيارين نجا من الحادث. وتم التعرف لاحقا أن الكابتن جارثيز قد دخل في اتجاه خاطئ لخطة الرحلة الطيران غربا بدلا من الشمال. وفشل الضابط الأول زيل في ملاحظة المشكلة وتصحيحها.
وبحسب التقارير، نبه بعض الركاب طاقم الطائرة إلى أن الطائرة تحلق في الاتجاه الخاطئ، لكن دون جدوى.
إلى جانب الخطأ الملاحي الكبير من قبل كلا الطيارين، كان عنادهم أيضا الاعتراف بخطئهم أثناء الرحلة وطلب المساعدة، مما أدى في النهاية إلى تحطم الطائرة. أدى قرارهم بالاستماع إلى محطات الراديو المحلية، التي بثت المباراة، إلى مزيد من الارتباك فيما يتعلق بموقع الطائرة.
وأفيد أن مراقب الحركة الجوية في بيليم قد تشتت انتباهه بسبب المواجهة بين البرازيل وتشيلي أيضا، وكان بطيئا في إصدار إنذار بشأن حالة الطائرة، وهي حقيقة كان ينبغي أن يلاحظها. قيل إنه كان لديه "أذن تسمع البث وأخرى على اتصال الرحلة".
--
بعد أيام من المباراة أصدر فيفا حُكما نهائيا بإيقاف تشيلي واستبعادها من تصفيات كأس العالم 1994 وقرارا بإيقاف روخاس مدى الحياة عن ممارسة كرة القدم وحظر مدرب وطبيب تشيلي.
عام 1993 أي بعد المباراة بـ 4 سنوات سافر تيلي سانتانا مدرب ساو باولو ورئيس النادي سافرا إلى العاصمة التشيلية سانتياجو ليطلبوا من روبرتو العمل في النادي كمدرب حراس المرمى.
روخاس كان سببا في بزوغ نجم رورجيريو سيني والذي أصبح أكثر حارس مرمى تسجيلا للأهداف في التاريخ فقالت فيفيان زوجة روخاس عبر CNN: "أظهر قوة شخصيته من خلال عمله ودرب روجيريو سيني ليكون من الأفضل".
سيني نفسه قال عن تأثير روخاس عليه: "لقد أصر دائما على أنني يجب أن أعمل كثيرا بقدمي".
وحتى الآن لا يزال الكثير من الناس يعتقدون أن الطيارين قد تشتت انتباههم بسبب المباراة الدرامية، لكن ارتباطها الدقيق بالتحطم لن يكون معروفا على الإطلاق.