حمدي فتحي.. لقد عَبَرت خط المنتصف لكن لا تنخدع كثيرا بذلك

في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، الظلام حالك في أحد بقاع قاهرة المعز، هناك ضوء خافت ينبعث من الشموع المعلقة بسلاسل صدئة داخل أحد عربات بيع الكتب والتي تلقي بظلال عبر جدرانها المتهالكة ويقودها رجل مُسِن ذو لحية مبللة وعينان مصقولة بالهموم.

كتب : عمر مختار

الخميس، 05 أغسطس 2021 - 15:11
حمدي فتحي - الأهلي

في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، الظلام حالك في أحد بقاع قاهرة المعز، هناك ضوء خافت ينبعث من الشموع المعلقة بسلاسل صدئة داخل أحد عربات بيع الكتب والتي تلقي بظلال عبر جدرانها المتهالكة ويقودها رجل مُسِن ذو لحية مبللة وعينان مصقولة بالهموم.

بعيدا عنه بعدة أمتار قليلة، كان هناك مخلوقا غريبا وقبيحا، عيون غارقة، وشعر مُجعَّد، ووجه واسع، وغليان يتشبث بأنفه المعوج مع لحية مخيفة. لكنه لم يكن أسوأ مشهد يمكن رؤيته في ذلك الوقت.

لم يكن بطل حكايتنا من مواطني هذا الجزء من العالم. لم يتواجد في القاهرة منذ نعومة أظافره. كان يعرف أن الناس في هذا المكان مختلفين، وقد التقى بالقليل منهم من قبل. كانت الليالي أطول وأكثر قتامة لذلك أبقى رأسه منخفضًا وعقله في مراعي أكثر خضرة. كانت هذه خطته على الأقل حتي اللحظة التي جمعته بألمع الوجوه التي رآها منذ أسابيع. وأفظع الأشياء التي رآها في حياته والتي وصلت إلى عقدين من الزمان.

كانت ترتدي فستانا طويلا، كان لونه أبيض في السابق ولكنه الآن ملطخ ورمادي ؛ ممزق في أماكن ومُرقَّع في أماكن أخرى. كان شعرها أشقرا لامعا يبرز في الظلام الخافت. لقد حملت على وجهها الناعم والشاحب تعبيرا عن الألم، ونظرت عيناها الخضراء العميقة إليه بشكل كئيب، فتاة لا يمكن أن تكون قد تجاوزت الثانية عشر.

تلى ذلك صيحات مفاجئة اقتربت بشكل أبطأ وأبطأ في كل لحظة، لقد أصبح المكان صاخبًا. هناك شخص يتمايل يمينا ويسارا مطلقا ضحكات غير مفهومة وممسكًا بزجاجة كحول وقد قل منسوب السائل فيها بشكل واضح، لقد كان رجلا أشرق رأسه الأصلع من العرق وهو يحاول الفوز بجائزته وهي تركض بخوف إلى أن سقطت على الأرض. كانت الفتاة نصف طوله، وربما أصغر منه بأربعة أضعاف.

ولكن قبل أن يصل إليها، قبض الشاب على معصمه بإحكام شديد لدرجة أنه جفل من الألم وركض. نظر الشاب بجانبه إلى الرجل المخيف المُلقى على الأرض بينما كانت عيناه تسقطان على الفتاة الصغيرة. نزع سترته ثم مد يده للفتاة وأعطاها ربما أفضل قطعة ملابس قد رأتها يومًا ثم أخرج بعضًا من أمواله ووضعها في السترة. لقد كان مبلغا ضئيلا، لكنه منح الحياة مشهدا نبيلا ستتغنى به في وقت لاحق.

في بريق من السعادة، اختار الشاب أن يأخذ بعض الثواني لنفسه، ويتساءل عن دوره في وسط الملعب الذي منحه الأمل في لحظة أو اثنتين لا تقدر بثمن. كان هذا هو اليوم الذي ضرب على وتر حساس في تصور الشاب المبتدئ لمفهوم البطل الذي يأتي في جميع الأشكال والأحجام ويشوبه الغبار والعرق والدم في أعقاب معركة.

كان اسم هذا البطل هو حمدي فتحي، وقد جاءت تلك الرواية من نسج خيالي.

قادما من أرض بعيدة مع حقيبة مليئة بالآمال والأحلام، وصل حمدي البالغ من العمر 25 عاما آنذاك، بشعر ناعم طويل مُثبَّت في مكانه بطريقة جميلة، إلى منزل عملاق كرة القدم الأفريقية، النادي الأهلي.

الاعتراضات، التدخلات المثالية، الإدراك الموضعي والتمرير الصحيح. يمتلك حمدي جميع المهارات التي تجعله لاعب وسط مدافع مثالي، على الرغم من أنه لا يمتلك جسدا قويا بدرجة كافية. لكن مع ذلك، بالطريقة التي يلعب بها، لم يكن ذلك مهما حقا.

يُعتبر حمدي من النوع الذي يمتلك مهارات فريدة في مساحات الضغط، بدلا من الضغط المباشر على منافسه فإنه يقوم بالاعتراضات وقراءة أفكار خصومه قبل أن تتاح لهم الفرصة لإكمالها.

إن إدراكه لما يدور حوله في المرحلة الهجومية والدفاعية لا مثيل له. كانت إحدى السمات الملحوظة للغاية له على أرض الملعب هي ميله إلى مراقبة محيطه المباشر باستمرار حتى عندما يمتلك فريقه الكرة. إن معرفة مكان تواجد جميع زملائه في الفريق في جميع الأوقات أمرا ضروريا لكيفية تصرفه على أرض الملعب.

في موسم 2019-2020، كانت أرقام حمدي في دوري أبطال أفريقيا جيدة جدا. قام بـ 3 تدخلات و0.7 اعتراض لكل مباراة، وفاز بـ 6.3 صراعات مشتركة منها 5 صراعات أرضية (65%) و1.3 صراع هوائي (80%). بينما في الشق الهجومي وصلت دقة تمريراته إلى 20.3 ((86% لكل مباراة منها 11 تمريرة في نصف ملعب فريقه (89%) و9.3 تمريرة في نصف ملعب خصمه (82%)، في الوقت الذي لم ترتق تمريراته الطويلة حينها إلى المطلوب، 0.7 تمريرة لكل مباراة (50%).

"إذا تمكنت من الحصول على الكرة وبدأت تساعد فريقك في العملية الهجومية، فاستغل ذلك ولكن كُن على دراية بمكان الخطر إذا تعطلت الهجمة".

هذا ما يميز حمدي بشدة عن الآخرين لأنه إذا فشلت في الحفاظ على نظافة شباكك أو نجح الخصم في تجاوز خط الوسط، فمن المحتمل ألا يكون هذا خطأك، على الرغم مما قد تقوله الإحصائيات. كان من الممكن أن تحظى بمباراة جيدة، ولكن بالنسبة لأي شخص ينظر فقط إلى إحصائيات ما بعد المباراة، فإن تصورهم قد لا يعكس ذلك.

إذا كنت مهاجما وسجلت هدف الفوز، لكنك خضت مباراة سيئة، فإن التصور سيكون عكس ذلك تماما.

لأن الأمر لا يتعلق دائما بالسيف، ولكن أيضا بالدرع الذي غالبا ما يتم إغفاله، لأنه لا يوجد جهد بدون خطأ وتقصير؛ من الذي يجتهد على أرضية الميدان؛ يتسم بالحماسة الكبيرة، الولاءات العظيمة؛ ويتكلف بقضية نبيلة.

في نوفمبر 2019، أي بعد 10 شهور فقط من انضمامه للنادي الأهلي، سقط حمدي على الأرض، غير قادر على الاستيقاظ على الإطلاق في ليلة مؤسفة خلال مران المنتخب في استاد برج العرب استعدادا لمواجهتي كينيا وجزر القمر في تصفيات أمم إفريقيا 2021.

على الرغم من كل قوته وثباته، فإن المحارب الشجاع تلوى في عذاب نتيجة إصابة قوية بقطع في غضروف الركبة، لكنه لم يتوقف عن التأصيل من أجل تحقيق حلمه، تعلم درسًا في ذلك اليوم، تأتي العقبات في جميع الأشكال والأحجام أيضًا.

بعد غياب لأكثر من 300 يوم، تغلب حمدي على إجهاده الجسدي، وعاد للمشاركة في المباريات. تغلب على الشياطين الداخلية، شكوكه حول ما إذا كان بإمكانه ارتداء درعه القتالي من أجل شعبه مرة أخرى، وطأ قدمه على أرض الجزيرة، في وقت مختلف، ولكن بنفس الحماس والشعف كما كان من قبل. ربما ليس مع نفس التباهي الذي اعتاد عليه. ومع ذلك، لم يفقد الأمل أبدا.

شهدت أرقامه في موسم 2020-2021 ارتفاعا ملحوظا، قام بتدخلين و1.2 اعتراض، 1.8 تشتيت لكل مباراة، في حين كانت أرقامه في الصراعات المشتركة قريبة من موسم 2019-20، حيث فاز بـ4 كرات مشتركة منها 2.8 صراع أرضي (47%) و1.2 صراع هوائي (86%). بينما في الشق الهجومي وصلت دقة تمريراته إلى 47.6 ((93% لكل مباراة منها 28.6 تمريرة في نصف ملعب فريقه (99%) و19 تمريرة في نصف ملعب خصمه (86%) بالإضافة إلى تطور دقة تمريراته الطويلة والتي وصلت إلى 3.2 تمريرة لكل مباراة (73%).

لأن ذلك هو ما يأتي خلف كل ندوب المعارك، حمدي هو رجل إنساني يمكنه تهدئة الأجواء الملحمية بتفاؤله المعدي. بصفته شخصًا يعرف كيف يشعر شاب طموح في أرض غريبة، فقد أخذ على عاتقه مسئولية جعل المجندين الجدد يشعرون بأنهم في وطنهم بنفس البريق الذي كان في عينيه، في كل مرة كان يحمي فيها هجومًا أو يتلقى ضربة من أجل حماية شعبه ووطنه.

إذا لم يكن هذا هو ما يدفع المتعصبين إلى إضفاء الطابع الرومانسي على الرياضة مرة أخرى، فما الشيء الذي بإمكانه فعل ذلك؟ يُجسد حمدي فتحي العزيمة والتصميم والتواضع المطلوب للنجاح في الحياة.

الحياة ليست قصة خيالية، لا فرسان شجعان ولا عمالقة ودودون. حكاية الفتى من شوارع الدلنجات بالبحيرة، الذي نال مكانة عظيمة وشعبية كبيرة يتردد صداها في قلوب الكثيرين، لأنها حكاية رجل بسيط. رجل هادئ لديه طموحات بسيطة.

"مرحبًا، اسمي حمدي فتحي. لقد عبرتُ خط المنتصف لكن لا تنخدع كثيرا بذلك". كيف يمكن تفويت تجربته التي لا تقدر بثمن وحكايته التي سيتم روايتها لأحفاده.

حتى لا يكون مكانه أبدا مع النفوس الباردة والخجولة التي لا تعرف النصر ولا الهزيمة. كان معكم حمدي فتحي، لغزو مزيدا من الساحات تحت سماء ذهبية حتي لو كان التاريخ يُشير إلى منتصف أغسطس في حر الصيف.

مصدر الأرقام: SofaScore