نحن جميعا نحب القصص في الرياضة. لا يقتصر الأمر على مشاهدة اللاعب الأفضل أو الفريق الذي يصنع تحفته الفنية على أرض الملعب. الرياضة هي صورة مصغرة للمجتمع والحياة، مرآة ساحرة لها أبطالها وأشرارها، فيلم درامي يتم عرضه أمام أعيننا.
كيليان مبابي
النادي : ريال مدريد
"إنه أمر صعب للغاية، لأن اللاعبين الكبار لا يريدون منحك مكانهم. هذا ما يجعلهم لاعبين رائعين. إنهم لا يريدون منحك مكانهم خاصة إذا كنت تحمل مُسمى لاعب عظيم ينتظره المستقبل".
بعد مرور ثلاث سنوات على كأس العالم الأخير، يجلس كيليان مبابي في إحدى غرف منزله الموجود في شوارع نويلي المُزينة بالأشجار القديمة. منزل قام بشرائه لإيواء مؤسسته، والتي تقدم أنشطة بعد المدرسة للأطفال الأغنياء والفقراء على حد سواء، وأثناء ذلك يتذكَّر حينما دخل إلى غرفة تغيير الملابس في المنتخب الفرنسي وهو يبلغ من العمر فقط 18 عاما.
يُشبه مبابي مُقدمي البرامج التلفزيونية المخضرمين أكثر من كونه لاعب كرة قدم شاب، يُلقي خطابات قصيرة في جُمل جميلة، يجلس مستقيما كما يركض في الميدان، ويستمر وجهه المعبّر في الابتسام. إنه يحب الكلام، ولا يُشعر بخوف لاعبي كرة القدم المعتاد من قول الشيء الخطأ.
عند لقائه لأول مرة، ستفهم كيف وصل لهذا النجاح في كرة القدم مبكرا وهو لا يزال في الثانية والعشرين من عمره. لقد حقق أكثر مما حققه معظم اللاعبين الكبار في هذا السن، لكن هل يمكنه اتخاذ خطوة أخرى ليصبح أفضل لاعب كرة قدم في العالم؟
لقد بدأت قصته على بعد 10 أميال من ذلك المنزل، في مسقط رأسه، بوندي، وهي ضاحية متعددة الثقافات تقع في شمال شرق باريس بها كنيسة قديمة محاطة بمجمعات سكنية متلاشية تعود إلى الستينيات، تتزين إحداها الآن بجدار عملاق يحمل صورة لبطلهم مبابي. نشأ والداه في بوندي، الوالد ويلفريد وهو من أصل كاميروني، والوالدة فايزة من أصل جزائري.
إذا كان يحق للاعب كرة قدم صغير اختيار المكان المثالي لينمو فيه، فقد يكون منزل مبابي في بوندي هو الخيار المثالي لتحقيق ذلك.
كان والده وعمه مدربين لكرة القدم بينما كانت والدته تدير أنشطة بعد المدرسة وقد لعبت كرة اليد في دوري الدرجة الأولى الفرنسي.
نشأ مبابي داخل نادي كرة القدم المحلي في بوندي وتصادف أن نافذته كانت تطل مباشرة على ملعب رياضي. توجد ملاعب لكرة قدم في جميع أنحاء الضواحي الباريسية، يعيش الناس هناك من أجل كرة القدم، لا عجب في أن ضواحي باريس ربما تكون أفضل تجمُّع للمواهب في كرة القدم العالمية، حيث انتجت لاعبين أمثال نجولو كانتي، بول بوجبا ورياض محرز.
لقد اهتم والده كثيرا بالدراسة وجعله يأخذ الأمر على محمل الجد، لكن كرة القدم جاءت في المرتبة الأولى. كان والده مدربا له لمدة 10 سنوات وقد ساعده في بناء أسلوب اللاعب الذي أراده دائما، لم يقم أبدا بالضغط عليه لكن منحه شغفا باللعبة.
نتيجة لذلك فقد أصبح مبابي لاعب كرة قدم يفكر كمدرب، كان دائما في غرف تغيير الملابس، يستمع إلى المحادثات التكتيكية ووجهات النظر المختلفة. لقد تعلم أن يتحلى بالتسامح، وقد ساعده ذلك لأن كونك مدربا يجعلك تضع نفسك في مكان شخص آخر. إن هذا الأمر يساعد في كرة القدم، لأنك إذا كنت لاعبا، فإنك تفكر بشكل عام في نفسك، لكن على عكس ذلك لو كنت مدربا.
يُمثِّل مبابي ذلك المزيج الرياضي المثالي، يستوعب النصيحة بسرعة، تطلب منه شيئا مرة، وفي المرة الثانية يفعل ذلك. حتى عندما كان طفلا، كان مبابي لاعب كرة قدم فعالا، كان حاسما وليس مجرد منفِّذ.
شعر مبابي دائما بأنه مقبول كفرنسي رغم لون بشرته، لقد جعل حياته كلها في فرنسا ولم يشعر في أي لحظة بأنه غير مرحب به هناك، لقد أحب فرنسا لأنها منحته ذلك الحب ويحاول دائما رد الجميل لها.
في سن المراهقة، كانت الأندية الأوروبية الكبرى تتودد إليه، لقد زار تشيلسي، واحتفل بعيد ميلاده الرابع عشر في مدريد، وقد التقى به مساعد مدرب النادي آنذاك زين الدين زيدان، أعظم لاعب كرة قدم فرنسي، عندما عرض زيدان على مبابي مقعدا في سيارته الرائعة، عرض الطفل أن يخلع حذائه أولا.
كان مبابي سعيدا بالتأكيد بالعروض التي لا تعد ولا تحصى وقد اختار موناكو في النهاية، حيث بدا الطريق إلى الفريق الأول أقصر. في فريق موناكو الأول، وجد مبابي المهاجم الكولومبي المخضرم راداميل فالكاو، الذي عاد حديثا في ذلك الوقت من فترات إعارة غير سعيدة في مانشستر يونايتد وتشيلسي.
"إنه شخص يريد دائما التسجيل. لقد كان مثل المعلم بالنسبة لي، لكنه ترك لي مساحة للتعبير عن نفسي. إنه رائع جدا أمام المرمى، وهادئا في أدائه، وقد نقل لي هذا الهدوء الذي لم يكن لدي، لأنني كنت صغيرا، ومتحمسا وأردت الركض بسرعة ألفين كيلومتر في الساعة. لقد كان نجما".
سجل الطفل الذي لم يكن لديه رخصة قيادة حتى ذلك الوقت 15 هدفا في الدوري في أول موسم احترافي له ليساعد موناكو على الفوز بالدوري الفرنسي في عام 2017. وأضاف ستة أهداف أخرى في دور خروج المغلوب بدوري أبطال أوروبا. كما أنه اجتاز البكالوريا في ذلك الوقت، وهي تعادل المستوى الأول في فرنسا.
تعجب مبابي من التوتر الذي أصاب وجوه المحترفين الآخرين، لأنه لم يشعر بذلك أبدا. لقد سار كل شيء معه بسهولة، دون تضحية كبيرة. لم يفاجئه صعوده السريع، صحيح أن ذلك حدث بشكل أسرع قليلا مما كان يتوقعه. لكن المعظم ذُهل. لقد رأوا شيئا جديدا، مهاجم يبلغ من العمر 18 عاما، يركض مثل عداء أوليمبي في وضع مستقيم، يستطيع النظر حوله وبإمكانه التمرير والمراوغة والتسديد.
في مارس 2017، أصبح مبابي أصغر لاعب منذ 62 عاما يشارك مع منتخب فرنسا، بعد خمسة أشهر، وافق نادي مسقط رأسه باريس سان جيرمان على التعاقد معه مقابل 166 مليون جنيه إسترليني، وقد ساعدته لغته الإنجليزية والإسبانية الجيدة في التعامل مع زملائه الأجانب.
وبحلول صيف 2018، تم اختياره للمشاركة في كأس العالم المقام في روسيا، كان مبابي سعيدا للحصول على القميص رقم عشرة الذي كان يرتديه سابقا ميشيل بلاتيني وزيدان وقال علنا إنه كان يسعى للحصول على الكأس.
في دور الـ 16 لكأس العالم، وصلت سرعته إلى 37 كيلومتر في الساعة وقد ساهم هدفاه في مرمي الأرجنتين بجعل اسمه عالميا.
في الليلة التي سبقت المباراة النهائية أمام كرواتيا، اعترف مبابي بأنه كان متوترا بعض الشيء، ولم يتمكن من النوم كثيرا لكن كلما اقتربت المباراة، قل توتره. لقد خاض المباراة النهائية وكأنها مباراة بين باريس سان جيرمان وديجون.
تجمع سكان بوندي أمام شاشة عملاقة للتعبير عن فرحتهم بكيليان العالمي بعد المباراة أمام الأرجنتين، بدا أنه وصل إلى ذروة مسيرته وهو في سن التاسعة عشر. لكنه لم يكن يرى الأمر على هذا النحو. في مقابلة ليلة النهائي، وصف الفوز بكأس العالم بأنه "جيد بالفعل" لكنه مجرد بداية.
لا يفكر مبابي في هذا الكأس على الإطلاق الآن، حتى أنه لا ينظر إلى صور كأس العالم قبل أن ينام. لقد فهم أن وصوله للقمة مبكرا قد أزعج التسلسلات الهرمية المهمة في كرة القدم.
لقد كان سلوك مبابي عقب عودته من روسيا مثاليا. لقد طمأن زميله نيمار دا سيلفا على الفور وحدثه بأنه لا يرى نفسه أفضل منه وأنه سيكون مرشحا لجائزة الكرة الذهبية خلال ذلك العام لأن نيمار لن يكون هناك ليس إلا، كما وعده بأنه لا يريد أن يحل محله.
بعد فترة وجيزة، أخذ كأس العالم إلى بوندي، حيث خرج الآلاف للترحيب به. لقد أراد أن يشكرهم بعد الحصول على أول لقب دولي له ولم ينس أبدا أي شيء تعلمه أو فعله هناك.
الجميع يتذكر ما حدث بعد كأس العالم 1998، لقد وقع اللاعبون في حالة من اللامبالاة الجسدية والمعنوية، لكن هل عانى مبابي من صداع ما بعد الإنجاز؟ حسنا.. لقد فاز مع فريقه بالدوري وحصل على جوائز أفضل لاعب في الدوري، أفضل هداف، أفضل لاعب شاب، وقد تم اختياره في فريق الموسم.
لقد جعله الفوز بكأس العالم بطلا قوميا. وقد أصبح بالفعل نجما. كان وجهه في كل مكان في المدينة، في كل مكان في العالم، لكنه يرى أن ذلك لا يجعله شخصا أفضل من الآخرين.
يحب المشجعون الفرنسيون نجومهم المتواضعة، لذلك قام مبابي بشرح "العقلية الفرنسية" لنيمار، الذي يفضل أسلوب حياة الحفلات كما يفعلون هناك في البرازيل، لكن الجمهور في فرنسا أكثر جدية، لذلك ليس من الجيد إظهار شغفك.
"سيعتقد الناس أنه يهمل باريس سان جيرمان لأنه يحتفل كثيرا، لكن أعتقد أنه بدأ يفهم ذلك. في البداية كان الأمر صعبا عليه لأنه اعتبر ذلك إهانة. عندما وصل، وضعوا وجهه على برج إيفل، وبعد ستة أشهر سألوه لماذا يسهر كثيرا. في فرنسا، يعرف الناس ما لديك لكنهم لا يريدون رؤيته، هم يريدون فقط رؤيتك تلعب كرة القدم وتبتسم".
لكن على الرغم من ذلك، يرى مبابي أن التواضع ليس كافيا. يعتقد أن لاعبي كرة القدم العظماء يحتاجون إلى غرور كبير لأنه يرى أن في كرة القدم عالية المستوى، لن يقوم أحد بتوفير مكان لك أو يخبرك أنك قادر على فعل الأشياء. الأمر متروك لك لإقناع نفسك بأنك كذلك. الأنا، حب الذات، ليس مجرد صفة. إنها أيضا الرغبة في التفوق على نفسك، لتقديم أفضل ما لديك. في كل مرة يمشي فيها اللاعب إلى الميدان، يقول لنفسه: "أنا الأفضل".
في الواقع، هو يعلم أنه ليس الأفضل وأن هناك ميسي ورونالدو في هذا العالم وهو يؤكد أنهم الأفضل، لكنه يرى أنك إذا أخبرت نفسك أنك ستفعل أفضل منهم، فهذا يتجاوز الأنا أو التصميم. يشاهد مبابي مباريات للاعبين آخرين ليرى ما يفعلونه لأنه يعتقد أن هذا يدفع اللاعبين إلى رفع مستوى أدائهم، تماما كما كان ميسي جيدا لرونالدو ورونالدو كان جيدا لميسي.
من المؤكد أن مبابي الآن أصبح لاعبا كبيرا بالنسبة للدوري الفرنسي، وعلى الرغم من أنه يتفق على أن الدوري الفرنسي ليس أفضل بطولة في العالم، لكنه يرى أن مسئوليته كلاعب معروف هي مساعدة الدوري على النمو. كلما أصبحت شخصية مهمة، زادت واجباتك، هو لم يعد ذلك الطفل الصغير، إنه الآن كيليان مبابي.
عادة ما يصل المهاجمون السريعون إلى ذروتهم بين سن الـ 20 و 25 عام. قد يكون كأس العالم بعد أقل من 14 شهرا فرصة لمبابي لصناعة التاريخ في كرة القدم، خصوصا بعد أن فشل المنتخب الفرنسي في تخطي دور الـ 16 لكأس الأمم الأوروبية، إذن ما هي طموحاته المستقبلية؟
تلك الابتسامة مرة أخرى "للفوز بكل شيء".
المصادر
https://www.chicagotribune.com/sports/soccer/ct-spt-mbappe-france-world-cup-20180715-story.html
https://psgtalk.com/2021/04/he-explained-to-me-the-french-mentality-neymar-discusses-how-kylian-mbappe-helped-him-acclimate-to-the-culture-in-france/
https://www.mirror.co.uk/sport/football/news/kylian-mbappe-says-world-cup-12930979
https://psgtalk.com/2021/06/he-was-like-a-teacher-to-me-kylian-mbappe-discusses-learning-from-radamel-falcao-while-at-monaco/
https://www.irishexaminer.com/sport/soccer/arid-40304510.html