كتب : محمود عزت
"يجب أن تظهر كلمة كرة القدم في القاموس دائمًا بجانب صورة لويس أراجونيس، له علامة كبيرة في تاريخ الكرة الإسبانية، كان يقول لي أنت مغرور بعض الشيء لقد جئت إلى هنا للتدرب بقوة وأنا لا أراها! أنا لا أحب الغرور". شابي هيرنانديز
الرجل الذي أنهى انتظار لاروخا الذي دام 44 عامًا للحصول على كأس بعد الفوز ببطولة أوروبا 2008 بأسلوب لعب رائع أبهر العالم حينها، رجل قشتالة القوي الحكيم استطاع تحقيق بطولة اليورو للمرة الثانية في تاريخ الإسبان بعد الانتصار على الاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن المنصرم.
وُلد أراجونيس بعد سنتين من الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) التي بدأت في حي هورتاليزا، حيث أن جماعة قشتالية ريفية صغيرة شمال شرق مدريد تمثل الجبهة القومية بقيادة مجموعة عسكرية يتزعمها فرانشيسكو فرانكو أمام القوات الجمهورية الموالية للجمهورية الإسبانية.
وكثيرا ما أطلق على هذه الحرب "بروفة" للحرب العالمية الثانية، وفي أواخر تلك الحرب أعلن فرانسيسكو فرانكو انتصاره وإقامة ديكتاتوريته التي دامت حتى وفاته في 20 نوفمبر 1975.
خلال سنوات ما بعد الحرب، بدأ أراجونيس الشاب اليافع ذو البنية القوية الذي يتمتع بمهارت جيدة، مسيرته مع خيتافي قبل الانضمام إلى ريال مدريد، حيث لم ينجح على نحو جيد، وانتقل إلى أتليتكو مدريد الجار اللدود بعد اللعب في عدة أندية، حيث لعب 10 سنوات في صفوف الفريق، تحصل خلالها على جائزة بيتشيتشي عام 1970، ووصل إلى نهائي كأس أوروبا في عام 1974 رفقة الروخي بلانكوس، قبل أن يخسر البطولة أمام بايرن ميونيخ برباعية.
جاء أراجونيس إلى منصب المدرب الإسباني بسجل حافل كأحد أشهر الأسماء في كرة القدم الإسبانية، حيث كان لاعبا ومدربًا للعديد من الأندية، منها برشلونة وأتليتكو مدريد، ورفض ريال مدريد عدة مرات.
أولئك الذين قدروا أراجونيس جاءوا لرؤيته على أنه "عقل كرة قدم" وأطلقوا عليه اسم (Sabio de Hortaleza)، أي الحكيم من هورتاليزا باللغة الإسبانية.
إلى الخلف قليلا.. رجل حكيم أم يعاني الاكتئاب
في مايو 1986، قاد أراجونيس أتلتيكو مدريد كمدرب إلى نهائي كأس الكؤوس الأوروبية حيث خسروا بثلاثية أمام دينامو كييف.
وفي المعسكر التدريبي التحضيري في يوليو من ذلك العام، كان قيد الفراش بأعراض تشبه أعراض الإنفلونزا ثم تغلبت عليه مشاعر الاكتئاب، أخبر لاعبيه أنه لن يكون قادرًا على التدريب بعد الآن.
وأخذ بنصيحة إنريكي إيبانيز طبيب النادي، بالابتعاد عن التدريب في محاولة للتغلب على المشكلة، وعاد بحلول منتصف الموسم، لكنه استقال مرة أخرى لأسباب تتعلق بكرة القدم.
وتولى تدريب برشلونة في سبتمبر 1987، لكن أصابته أحد نوبات الاكتئاب، وغاب عن التدريب لعدة أيام.
وكان الطبيب خوسيه بوزويلو الذي كان متخصصًا في الاكتئاب ونوبات القلق والاضطرابات ثنائية القطب، حيث احتشد عدد من الصحفيين وتحول الأمر إلى أشبه بمؤتمر صحفيً صريح بشكل غير عادي، عُقد في عيادة داخل مستشفى كيرون للحديث عن حالة المدرب، لكن المدرب صرح حينها أن أفضل علاج هو الفوز بالبطولات.
تمرد هيريديا
في عام 1988، أثناء تدريبه لنادي برشلونة، أظهر أراجونيس ضعفًا عندما واجه النادي تمردًا غير مسبوق للاعبين، حيث أجرى مفتشو الضرائب الإسبان تحقيقًا في الإجراءات المعقدة غير القانونية التي فعلها نادي برشلونة فيما يخص اللاعبين الأجانب.
بعد مغادرة المدرب تيري فينابلز إلى توتنام، وتولي أراجونيس منصب المدير الفني في نوفمبر 1987، أظهرت نتائج التحقيق أن اللاعب الألماني بيرند شوستر قد وقع عقدين مع النادي الكتالوني، عقد خاص للاعب وعقد خاص بالضرائب، كما تمت وقائع مماثلة مع بعض اللاعبين.
هنا ظهر لاعبو البلوجرانا في الصورة بعد مطالبة النادي دفع الفرق للسطات الإسبانية، ودعوا إلى عقد مؤتمر صحفي في فندق هيريديا ببرشلونة، مشيرين إلى أن العقود المزدوجة قد تم إبرامها بموافقة النادي، وأصدر اللاعبون بيانًا مشتركًا يهاجمون خوسيه لويس نونيز رئيس النادي "لقد خدعنا نونيز كأفراد وأهاننا كمحترفين".
وخلال مشاركته في اجتماع مع اللاعبين، أجهش أراجونيس بالبكاء وتفاقمت الضغوط فوق رأسه أثناء إدارة أحد أكبر الأندية في العالم بسبب العلاقة المتوترة بين الفريق والرئيس، لاحقًا ضحى رئيس النادي به وعين يوان كرويف ليستمر حتى عام 1996.
تيري هنري "الزنجي اللعين"
كان أراجونيس أحد أقدم الشخصيات في كرة القدم الإسبانية الحديثة، لكن كان هناك جانب مظلم في حياته، إذ كان دائمًا يكافح مع ضعفه من أجل شرب الخمر والمقامرة، لكن حدث شيء آخر.
في أكتوبر 2004، تورط أراجونيس في عمل سيء أثناء تدريبه للمنتخب الإسباني، عندما صوره طاقم التليفزيون الإسباني وهو يدرب خوسيه أنطونيو رييس لاعب آرسنال حينها، حيث أشار أراجونيس إلى تييري هنري، وسُمع أراجونيس يقول وهو يصرخ "أخبر الزنجي اللعين ذلك المقرف الأسود أنك أفضل منه، لا تتراجع أخبره، عليك أن تؤمن بنفسك، أنت أفضل من ذلك الزنجي اللعين".
أثارت التعليقات موجة من الاحتجاج في وسائل الإعلام البريطانية، وعلى الرغم من أن رد فعل وسائل الإعلام داخل إسبانيا كان صامتًا بشكل عام.
لم يكن أراجونيس ليعتذر عن جريمة ادعى أنه لم يرتكبها، وأصر على أنه يتمتع بضمير مستريح للغاية، وقال حينها "أنا مضطر لتحفيز لاعبي فريقي للحصول على أفضل النتائج، كجزء من هذا العمل أستخدم لغة عامية، يمكننا من خلالها فهم بعضنا البعض في إطار عالم كرة القدم".
بعد شهر من تلك الحادثة، تعرض اللاعبان الإنجليزيان أشلي كول وشون رايت فيليبس لإساءات عنصرية من الجماهير في البرنابيو خلال مباراة ودية بين إنجلترا وإسبانيا. تم تغريم الاتحاد الإسباني لكرة القدم في البداية حوالي 45 ألف جنيه إسترليني.
كلا الحادثتين وضعا كرة القدم الإسبانية تجاه العرق تحت المراقبة الدولية، ووصف هنري نفسه عدم فعالية تلك الغرامة حيث أنها سخيفة قائلًا "عليك حقًا أن تنظر إلى السلطات الإسبانية حيث يجب عليهم إلقاء نظرة فاحصة على أنفسهم، من الواضح أنهم لا يهتمون بالعنصرية، إنه أمر مضحك إنهم لا يشعرون أنه ارتكب خطأ".
هنا دافع الحارس الإسباني مانويل ألمونيا عن المدرب وضرب مثلا بتواجد ماركوس سينا البرازيلي الأصل الإسباني الجنسية صاحب البشرة السمراء ضمن صفوف منتخب لاروخا، وأكد أن أراجونيس رجل جيد ولكنه ضحية، وكانت هناك مبالغة في رد الفعل وسوء الفهم، وأن هناك عبارات أخرى ضاعت في الترجمة تنصف المدرب.
لم تكن إسبانيا محصنة ضد العنصرية، بعد فترة طويلة من دكتاتورية فرانكو، ورغم التحول إلى الديمقراطية البرلمانية في إسبانيا، حيث أن هناك ترانيم وأغاني للقردة وغيرها من الإساءات العرقية باتجاه اللاعبين السود في الملاعب الإسبانية، في عام 2006 خرج صامويل إيتو لاعب برشلونة من الملعب بعد تعرضه لإساءات عنصرية متواصلة من مشجعي ريال سرقسطة.
وبعد 3 سنوات، ظهر مشجعو برشلونة مرارًا وتكرارًا يسيئون معاملة الكاميروني الدولي كارلوس كاميني حارس إسبانيول مع عدم اتخاذ إجراءات صارمة.
لاروخا أم عودة إلى الديكتاتور فرانكو
ولمزيد من كسب القلوب والعقول، أطلق أراجونيس اسم “لاروخا” أي الأحمر على المنتخب الإسباني، وعاد الإسبان يتذكرون سنوات الديكتاتور فرانكو الذي كان يطلق على الفريق اسم "La Seleccion Nacional" أي المنتخب الوطني، لكن تعريف القومية أو الوطنية أصبح شيء معقد في إسبانيا بعد فترة فرانكو، إذ أن عدة مناطق تطلب الاستقلال عن إسبانيا أبرزها كتالونيا.
وحينها اعترضت أقلية فقط من المشجعين الإسبان الذين ينتمون إلى اليمين المتطرف على اللون الأحمر الذي يمثل الغضب ويستحضر ذكريات الشيوعيين في الحرب الاهلية.
من جانبه، قلل أراجونيس من أهمية أي إشارة سياسية وراء استخدام لاروخا، كانت الحقيقة أن الفريق الإسباني يلعب بقميص أحمر حتى خلال السنوات الأخيرة من نظام فرانكو، وكانت إسبانيا الآن تتبع خطوات دول كرة القدم الناجحة في صناعة علامة تجارية لألوان قمصانها، على سبيل المثال إيطاليا (azzurri) أي الأزرق السماوي، وهناك فرنسا (Les Bleus) أي الأزرق، وأخيرا هولندا (oranje) أي البرتقالي.
إرسال زيدان خارج كأس العالم 2006
تولى أرجوانيس تدريب منتخب إسبانيا في 2004، وقاد لاروخا في كأس العالم 2006 بألمانيا، حقق الفريق الانتصار على أوكرانيا برباعية نظيفة في افتتاح دور المجموعات، أعقبه انتصار آخر على تونس بثلاثية مقابل هدف، ومن ثم فوز أخير في دور المجموعات على السعودية بهدف نظيف بالفريق الاحتياطي بعد ضمان التأهل إلى دور الستة عشر.
تنبأت وسائل الإعلام الإسبانية بأن لاروخا التي لم تهزم من 25 مباراة، ستستمر في البطولة وتتنصر على فرنسا في ثمن النهائي.
وقالت صحيفة ماركا الإسبانية "نحن بصدد إرسال زيدان إلى خارج كأس العالم!"، ورغم التقدم في النتيجة عن طريق ديفيد فيا في الدقيقة 28، لكن فرنسا سجلت ثلاثة أهداف متتالية بأقدام ريبيري وباتريك فييرا وأخيرا زيدان.
واجهت إسبانيا تحت قيادة أراجونيس تقلبات في تصفيات يورو 2008، حيث خسرت أمام أيرلندا الشمالية والسويد، مما جعل التأهل على ما يبدو صعبًا لبطولة أوروبا 2008، وكافح أراجونيس للتشبث بمكانه، وطالبت وسائل الإعلام الإسبانية بإقالة المدرب، مما دفع أنجيلا ماريا فيلار رئيس الاتحاد الإسباني للدفاع عن المدرب.
ووراء الكواليس فاوض ماريا فيلار المدرب ميجيل أنجيل لوتينا، لكن تم تأجيل الخطوة بعد فوز إسبانيا على الأرجنتين وديا بهدفين مقابل هدف، واتحد اللاعبون خلف أراجونيس.
وصرح بويول "عندما يخسر المرء، كل شيء يكون كارثة هناك الكثير من الانتقادات، ومعظمها في المدرب، هذا غير عادل وهذا ما رأيناه جميعًا، إننا أصبحنا أقوى وأكثر اتحادًا حوله".
لم تكن وسائل الإعلام الإسبانية وحدها هي التي هاجمت أراجونيس، فجاء في صحيفة الجارديان البريطانية إنه المدرب الذي قاد إسبانيا إلى الخروج التقليدي من ربع النهائي في كأس العالم، وكان يقول إنه سيرحل، لم تتواجد إسبانيا في الدور نصف النهائي من كأس العالم، فقد أصبح سجين كلماته!
واستمر هجوم الصحيفة البريطانية واسعة الانتشار، إن مسيرة أراجونيس لمدة 25 عامًا في التدريب متوسطة للغاية.
رجل حكيم يأتي من بعيد
أرسى أراجونيس الحكيم أسس مشروع ديناميكي يعتمد على الشباب على الأغلب ويستحق مزيد من الوقت حتى ينضج، حيث بدأ قبل كأس العالم وحصد نتائجه في يورو 2008، انتقل أراجونيس من كونه شيخ غريب الأطوار إلى الارتقاء لدرجة حكيم في تاريخ الكرة الإسبانية.
في يورو 2008، قاد إسبانيا للحصول على أول لقب دولي كبير لها بعيدًا عن ذهبية الأولمبياد منذ 44 عامًا، بعد هدف توريس ضد ألمانيا في نهائي البطولة.
وعلق بول دويل الصحفي الأيرلندي في صحيفة جارديان البريطانية قائلا "مع لاعبين مثل إنييستا وتشافي وسيسك فابريجاس وراموس وتوريس وفيلا وديفيد سيلفا وإيكر كاسياس، كانت لديهم منظومة مفعمة بالحيوية، كل عنصر يمتاز بالمغامرة والذكاء، حركتهم وسرعتهم الهجومية تجعلهم مدمرين".
وأضاف "إذن ما الذي أدى إلى هذا الاندماج التحولي؟ تكمن الإجابة جزئيًا في براجماتية أراجونيس وجزئيًا في طبيعة اللاعبين أنفسهم".
وأضاف "ربما كانت أكثر اللحظات صعوبة للمدرب هي عندما قرر استبعاد راؤول جونزاليس، أحد النجوم الأسطوريين في ريال مدريد، بعد أن قل مستواه، وكان عنصرًا مزعزعًا للاستقرار في كل من غرفة تغيير الملابس وفي الملعب".
"وهكذا أثبت أراجونيس أنه على حق، حيث لعبت إسبانيا بشكل أفضل بدون راؤول، بالاعتماد على إرث كرويف، وتبنى أراجونيس أخيرًا أسلوب تيكي تاكا، الأسلوب الذي أعطى الأولوية للتمرير والصبر والاستحواذ قبل أي شيء آخر".
وأتم "حاول الإسبان تبرير فشل بلادهم بالحديث عن سوء الحظ، دون أن يعترفوا أبدًا بأن المنتخب لم يكن لديه لاعبين محليين قادرين على تحقيق تلك النجاحات التي حققوها على مستوى الأندية، لكن الحديث عن مجموعة مواهب مثيرة غير مسبوقة في تاريخ إسبانيا اندمجت للعب كرة القدم بطريقة جميلة وفعالة في نفس الوقت".
الآن ابتسمت السماء للفريق الذي استحق الفوز، وقبل دقائق من بدء المباراة النهائية، اصطحب المدرب الإسباني لويس أراجونيس مهاجمه فيرناندو توريس إلى غرفة الملابس وكرر إحدى الطقوس التي كان يؤديها، وقال له ستسجل هدفين، لكن توريس سجل هدفا وحيدا في الدقيقة الـ33 من عمر المباراة.
رأى توريس نجمه يسطع كأسطورة قادمة في كرة القدم الإسبانية، فيما رأى راؤول سقوطه على يد أرجوانيس، مما أثار غضب جمهور ريال مدريد.
وأشاد رئيس الاتحاد الإسباني بالمدرب الذي رفض استقالته مرتين بعد فوز الإسبان بالبطولة، قائلا "لقد تابعت لويس لسنوات عديدة وكان المدرب الذي أعجب به كثيرًا، كانت لديه هذه الحكمة العظيمة وسنوات وسنوات من الخبرة ومعرفة متعمقة باللعبة".
وأضاف "كان الرجل الذي يفهم لاعبي كرة القدم من الداخل الى الخارج، كانت لدينا فترة صعبة عندما خسرنا أمام أيرلندا الشمالية ثم السويد ورومانيا، لكننا بدأنا الفوز بعد ذلك".
وأتم "شخص رائع، كان كذلك دائما طموح ولديه العزيمة، أخبرني خلال التصفيات أننا سنكون أبطال أوروبا، وكان على حق".
الغضب الأحمر (فلسفة فيريا)
بالعودة عشر سنوات إلى الخلف، تحديدًا في عام 1998 عندما رفض أراجونيس تولي منتخب إسبانيا بعد رفض الاتحاد الإسباني تعيين مساعدين له.
لكنه أطلق تصريحات حددت مشكلة الكرة الإسبانية بشكل عام، حيث قال "كل بلد لديه طريقته في لعب كرة القدم، فازت إيطاليا 4 مرات بكأس العالم مع طريقة كاتيناتشيو، ولم يتردد الأرجنتينيون والبرازيليون أبدًا في لعب كرة القدم الخاصة بهما، لم تكن كرة القدم الإسبانية رائعة من قبل، يحتاج المنتخب الوطني إلى فلسفة خاصة".
كان أراجونيس معجب بمصطلح بـ La furia أي الغضب مزيج من (الشدة والعاطفة والشراسة) مع أسلوب لعب مهووس بالاستحواذ وسريع التمرير، جعل إسبانيا عظيمة بينما كان لا يزال مخلصًا تمامًا لفلسفة فيريا قديمة الطراز.