تقول الأسطورة إن جنيًا قد أسقط جوهرة على المحيط الهندي أشعلت نارًا وأطلقت بُركانًا، ومن رحمه خرجت جزر القُمر.
لو صدقت تلك الأسطورة، فلا بد أن هذا الجنيّ يُدعى أمير عبده.
الرجل المولود في مدينة مرسيليا الفرنسية، قاد دولة آبائه وأجداده إلى المجد القاري غير المسبوق، وصعد بـ جزر القُمر إلى نهائيات كأس الأمم الإفريقية لأول مرة في تاريخها.
تحقق ذلك مساء الخميس بعد التعادل أمام توجو، لتحجز جزر القُمر مقعدها في النهائيات قبل مصر حتى سيدة تلك البطولة.
𝐇𝐈𝐒𝐓𝐎𝐑𝐈𝐂 milestones deserve 𝐇𝐈𝐒𝐓𝐎𝐑𝐈𝐂 celebrations 🥳🇰🇲 #TotalAFCONQ2021 | #TotalAFCON2021 | @fedcomfootball pic.twitter.com/UTg85H2Eda https://t.co/9ltR5pP0l3
— CAF (@CAF_Online) March 25, 2021
دروس الجغرافيا الرتيبة أخبرتنا في طفولتنا أن جزر القُمر هي عضو في جامعة الدول العربية، دون أن تمدنا بأكثر من ذلك من معلومات عن الدولة الإفريقية الواقعة في شرق القارة.
لكن، وكما هي عادتها، ستتكفل كرة القدم بمهمة تثقيف الشعوب وفتح جسور المعرفة على الأمم التي جعلت من الرياضة صوتها المسموع.
وبينما تحل بعثة جزر القُمر ضيفة على مصر لمواجهة الفراعنة في ختام تصفيات أمم إفريقيا، استغل FilGoal.com الفرصة وقابل أمير عبده المدير الفني في مقر الإقامة.
وعندما دخل عبده الحجرة مصحوبا بـ حمزة المنسق الإعلامي لمنتخب جزر القُمر، تأكدنا بأعيننا أنه ليس جنيًا، بل إنسان طبيعي صنع معجزة لم يسبقه إليها أحد.
والمجد لا يحصّل في يومٍ وليلة، أو في عام أو حتى عامين، بل قد يستغرق 7 سنوات من العمل المتواصل، مثلما هو الحال مع عبده الذي تولى مهمة تدريب جزر القُمر في 2014، هل كان يتخيل حينها أن يحقق إنجاز الوصول لأمم إفريقيا يومًا ما؟
"لا، لا".. لم يتردد عبده في الإجابة سريعًا بالنفي، وواصل: "الأمر كان صعبا للغاية، كنت في حاجة إلى وضع أساسات البيت أولًا. عدد اللاعبين المحترفين كان قليلا، وبدأت وقتها في وضع فلسفتي وبناء مشروعي الخاص".
عبده (48 عاما) وُلد في فرنسة لعائلة مهاجرة من جزر القُمر، وحلمه بممارسة كرة القدم تحطم على يد قطعين خطيرين في الرباط الصليبي، ليتجه فورا إلى عالم التدريب في سن مبكر.
يقول عبده في حديثه لـ FilGoal.com: "بدأت عملي التدريبي مع المراحل العمرية الصغرى، هذا ساعدني على معرفة طريقة تفكير الشبان وكيفية التعامل معهم".
وفي 13 أكتوبر 2013، عاش عبده لحظة سحرية أولى في مسيرته التدريبية، أثناء قيادته فريق جولفيش سان بول الناشط وقتها في دوري الدرجة السادسة الفرنسي.
الفريق المغمور حقق مفاجأة مدوية في كأس فرنسا يومها، وأطاح بـ لوزيناك فريق القسم الثالث، ليجتاح الملعب 500 مشجع منتشي بانتصار لم يروه من قبل.
على الخط الجانبي للملعب، كان الجنيّ في طور التشكيل، وسيحقق معجزة أكبر في غضون 8 سنوات فقط من تلك الليلة السحرية.
بعد هذا الانتصار بفترة قصيرة، تلقى عبده من الاتحاد القُمري لكرة القدم، ليتواجد في الجهاز الفني لـ هنري ستامبولي الذي كان بصدد تولي مهمة تدريب منتخب جزر القُمر.
وعبده وافق بالطبع، فهي فرصة للاجتماع بجذوره، وكذلك العمل مع ستامبولي الذي سبق له تدريب غينيا ومالي وتوجو، بالإضافة إلى أوليمبيك مرسيليا، وسيون، وموناكو، وسيدان والعديد من الأندية الأخرى.
وفي تحوُل مفاجئ للأحداث، اعتذر ستامبولي في آخر لحظة مفضّلًا العمل في نادي مونبلييه، ليجد عبده نفسه أمام مهمة الرجل الأول التي كانت مُقدّرة له، ومن هناك بدأ التاريخ.
يقول عبده عن تلك المغامرة الطويلة: "احتفظت بالعمود الفقري للمنتخب منذ بدايتي، اللاعبون بدأوا معي صغارا والآن باتوا ناضجين، ومع تدعيم المنتخب بشبان آخرين صرنا أكثر تماسكا".
الرجل الذي لم يخف إعجابه في السابق بـ دييجو سيميوني وكارلو أنشيلوتي على اختلاف أساليبهما التدريبية، شدد على كونه مدربًا مرنًا.
"دائما ما أتأقلم".. أوضح عبده عند سؤاله عما إذا كان مدربًا دفاعيًا أم هجوميًا، وتابع: "أكيّف نفسي مع المتاح من اللاعبين، كما أحاول دائما خلق توازن بين الدفاع والهجوم".
...
مواجهة اليوم الإثنين بين مصر وجزر القُمر، ستعيد إلى الأذهان صدام نوفمبر 2019 عندما عجز أبطال إفريقيا 7 مرات عن هز شباك جزر القُمر، لتنتهي المواجهة دون أهداف.
يتذكر عبده ذلك اليوم التاريخي: "كانت مباراة جميلة، حاولنا الفوز بها لكن محمد الشناوي وقف سدا أمامنا".
ولكنه استدرك: "لم نتأهل بسبب نتيجة تلك المباراة فقط، بل إنه عمل متكامل طوال المشوار، فزنا أيضا على توجو قبلها".
تلك المباراة عرفت غياب محمد صلاح، فهل يتمنى عبده تكرار ذلك في الإياب على استاد القاهرة؟
يجيب عبده: "لا، اللعب أمام صلاح دائمًا ممتع".
ويرى عبده أن مصر منتخب "متكامل ومتجانس في كافة الخطوط، كما يمتلك لاعبين مميزين مثل صلاح وتريزيجيه ومصطفى محمد".
بعدها توقّف عبده وحاول تذكُر اسم لاعب آخر، ونجحنا في مساعدته: "أفشة في خط الوسط، كما تمتلك مصر دفاعا قويا وحارسا من بين الأفضل في إفريقيا، أستمتع بمشاهدة الشناوي كثيرا".
ولا ينتظر عبده مباراة سهلة خصوصا أن "مصر تريد الانتقام بعد أن عجزت عن الانتصار في الذهاب".
لكنه يشدد: "المميز في المباراة أنها ستُلعَب دون ضغوط بعد أن تأهل المنتخبان بالفعل إلى النهائيات".
الرحلة إلى مصر سبقتها زيارة إلى مقر إقامة غزالي عثمان رئيس جزر القُمر الذي دعا كل أفراد منتخب بلاده لتهنئتهم على الإنجاز التاريخي.
Les @_coelacanthes et les membres du staff ont eu l’honneur d’être invités ce jour par SEM @Azali_officiel qui tenait à les féliciter pour cette qualification qui marque l’histoire des Comores 🇰🇲 pic.twitter.com/JP02GfHh31
— FFC 🇰🇲 (@fedcomfootball) March 26, 2021
ويخوض عبده تحديا شخصيا من نوع آخر، إذ يشرف على تدريب نواذيبو الموريتاني منذ نوفمبر الماضي.
ذلك الفريق الذي كان عنوانًا للصحف في ديسمبر عندما تم اعتباره منسحبًا من كأس الكونفدرالية أمام أشانتي كوتوكو، بسبب تفشي فيروس كورونا بين أفراده وعدم قدرته على توفير الحد الأدنى من اللاعبين لخوض اللقاء.
إقصاء اعتباري مرير لأنه حدث بعد أن تعادل الفريقان في الذهاب بهدف لكل طرف، لكنه دون شك لن يكون عائقا أمام تحقيق عبده لأهدافه مع نواذيبو.
وتجربة تدريب منتخب ونادٍ في نفس الوقت ليست بالسهلة، مر بها سابقا فلوريان إبينجي وقتما أشرف لعدة سنوات على تدريب بلاده الكونغو الديمقراطية ونادي فيتا كلوب، تحدٍ وصفه بأنه "سيصيبه بأزمة قلبية يوما ما" نتيجة الضغط الهائل الذي يعيشه طوال الوقت.
عبده من جانبه، يعترف أن شغل منصبين هو "صعب جدا جدا ومعقد جدا جدا".
ويستفيض عبده: "خصوصًا مع فيروس كورونا وتأثيره وتأجيل نهائيات أمم إفريقيا لمدة عام".
ويتابع: "الموازنة بين المهمتين صعبة للغاية، أعمل بشكل يومي مع نواذيبو ثم أتفرغ في التوقفات الدولية للعمل مع جزر القُمر، لكن ذلك صعب وليس سهلًا".
...
بالنظر إلى قائمة جزر القُمر للتوقف الدولي الحالي، نجدها خالية من أي لاعب محلي، إذ يعتمد عبده بشكل كبير على المحترفين في فرنسا من أبناء المهاجرين، فما السبب؟
يجيب عبده: "الدوري المحلي لا يزال في مرحلة التكوين، لا يفرز لاعبين أقوياء، وبالتالي من الصعب عليهم أن ينافسوا المحترفين في أوروبا. ضمن القائمة الحالية هناك لاعبان كانا يلعبان في الدوري المحلي وانتقلا إلى نواذيبو مؤخرا، قمت بضمهما للمنتخب حتى ينسجما مع المجموعة".
القائمة تضم أسماءً مألوفة لمتابعي الكرة الفرنسية، على رأسها دون شك علي أحمدا (29 عاما) حارس مرمى تولوز وقيصري سبور السابق، الذي واصل عبده الاعتماد عليه رغم عدم ارتباطه بأي نادٍ منذ عدة أشهر.
لكن النجم الأهم والأشهر لـ جزر القُمر، يظل الفردو بن نبوهان جناح ريد ستار بيلجراد الصربي.
لاعب أولمبياكوس السابق هو الهداف التاريخي لـ جزر القُمر برصيد 10 أهداف، وهز شباك ميلان قبل شهر تقريبا ضمن منافسات الدوري الأوروبي، كما سجّل سابقا في شباك نابولي وساهم في انتصار تاريخي على ليفربول بدوري أبطال أوروبا قبل موسمين.
فهل ذلك كافيًا لوصف الفردو بـ "صلاح جزر القُمر"؟ عبده لا يعتقد ذلك: "الفردو من أكبر لاعبي جزر القُمر، ولكن لا أستطيع تشبيهه بـ صلاح، لأن منتخب مصر يضم العديد من اللاعبين الكبار وهذا يساعد النجم على الظهور، أمّا نحن فنميل للجماعية أكثر".
قبل أن يكشف: "الفردو لم يأت معنا إلى مصر، سافر بعد مواجهة توجو إلى صربيا للالتحاق بفريقه لأن أمامهم مباريات مهمة يستعدون لها".
وبعيدا عن الفردو، فـ جزر القُمر تملك مزيدا من المواهب المولودة في فرنسا والتي لم تحسم موقفها من اللعب الدولي حتى الآن.
زايدو يوسف (21 عاما) لاعب وسط سانت إيتيان، وميزياني ماوليدا (22 عاما) مهاجم نيس، وويلزي سعيد (25 عاما) جناح تولوز، جميعهم مثّلوا منتخبات شباب فرنسا، ويحق لهم اللعب لـ جزر القُمر.
فهل سيكون التأهل إلى نهائيات أمم إفريقيا بداية الطريق نحو إقناعهم؟ يوضح عبده: "لا أستطيع إجبارهم، الله أعلم، فكثير من اللاعبين يكون لديهم أمل اللعب لمنتخب فرنسا".
يواصل عبده: "هذا قرار شخصي للاعب، لا أستطيع أن أضع السكين على رقابهم، لكن في الوقت نفسه لو قرروا تمثيل جزر القُمر فأذرعتنا ستكون مفتوحة لهم، هذه بلدهم وبلد آبائهم وأجدادهم".
ويضيف: "تكلّمت مع بعضهم، ولا زلت في انتظار قرارهم".
في النهاية، كان إلزاميًا أن نسأل عن المستقبل: هل تحقق جزر القُمر مفاجأة مدوية مثلما فعلت جارتها مدغشقر في صيف 2019 بوصولها لربع النهائي في مشاركتها الأولى؟
"لا أملك كرة سحرية".. يجيب عبده والابتسامة على وجهه، "سنواصل عملنا الدؤوب ونرى أين سنتهي طريقنا".
المؤكد، أن هذا الجيل من لاعبي جزر القُمر، قد وصل بالفعل إلى بقعة لم يسبقهم إليها أحد من أسلافهم.