يفعل ما يحلو له، لم يكن في عصر يكترث كثيرا لمواقع التواصل الاجتماعي، جل ما كان يفكر به الاستمتاع بحياته سواء الشخصية أو الكروية، لا يهم إن كان مستهترا، دييجو هو دييجو.
لم أشاهد دييجو أرماندو مارادونا قط يلعب كرة القدم بشكل مباشر، معرفتي به مثل معرفة أبناء جيلي، ومقاطع الفيديو وهدفه الشهير ضد إنجلترا وهدف آخر جدلي لم ينته جدله إلى اليوم، لكن جل ما أعرفه إن كنت تبحث عن تعريف لكلمة متعة كرة القدم فعليك بدييجو مارادونا.
قد تكون الأسطر التالية نابعة من عاطفة الحزن والصدمة جراء خبر وفاته المفاجئ لكن بعضها تعريف لموهبته الكبيرة، وإنجازاته التي ربما تكون قليلة لكنها خلدت في تاريخ الأرجنتين أبد الدهر.
ذلك هو دييجو، لكي أتمكن من تعريفه، لم أجد أفضل من كلمات يورجن كلوب مدرب ليفربول الحالي.
"نحن بشر وفي بعض الأحيان نتقبل ما نحن عليه، هكذا يبدو الأمر وهكذا يكون، نفكر في تقديم أفضل شيء يمكن أن يُقال عن كرة القدم، ونقول أشياء غير منطقية، ونستيقظ في اليوم التالي ونتابع حياتنا".
"كرة القدم ليست مسألة حياة أو موت، لا ننقذ حيوات الناس هنا، كرة القدم لا يفترض بها أن تنشر البؤس والكراهية، يجب أن تكون حول الإلهام والفرحة خاصة للأطفال". - يورجن كلوب.
مارادونا لم يمتلك ما يكفي من المسؤولية لجعل مسيرته الأفضل في التاريخ، ربما يكون الأمتع لكنه لم يحصد ما يكفي من ألقاب أو يحقق العديد من الأشياء بالمقاييس الحديثة لكرة القدم.
دييجو، فضل الاستمتاع باللعبة وبحياته، عالما أنه سيضحي بأشياء عديدة، سيكون محور الاهتمام أينما حل، ومحور الجدل، لكن لا يهم.
ينتشر بين تارة وأخرى طيلة الأعوام الماضية ذلك المقطع الشهير له، وهو يتراقص قبل التدريبات، يقوم بتدريبات الاحماء بطريقة فريدة للغاية لم ولن يجربها أحد أو يمكنه أن يفعلها سوى دييجو، هكذا كان مارادونا حتى الممات.
قد لا تغفر الأرجنتين قط لأي رئيس أو سياسي الإخفاق لكنها اعتادت دوما أن تغفر لمارادونا كلما أخفق، لا يهم، ستظل الأيقونة المفضلة ما حييت وحتى بعد الممات.
في بداية الألفية أصدر سيرته الذاتية، وقتها كان قد أدرك أهميته كمؤثر لكنه لم يستعمل ذلك التأثير كما يجب، لكن دائما وأبدا الأرجنتين ستحتضن دييجو.
"أنا صوت من لا صوت له، أنا صوت عدد كبير من الناس الذين يشعرون أنني أمثلهم، لأنني دائما لدي ميكروفون أمامي، لكنهم لا يحصلون على فرصة أبدا ليعبروا عما بداخلهم". -دييجو مارادونا في سيرته الذاتية 2000.
الأمر مرتبط بالمتعة، لا يوجد فروض ولا إجبار في كرة القدم، قد تتعجب من أنه لم يحقق الكثير رغم موهبته، لكن لا تقس أبدا بمقاييس الزمن الحالي، عليك العودة للماضي لكي تدرك حجم موهبته وما حققه وما كان يمكنه تحقيقه، ربما هناك حسرة بسبب الاستهتار، لكن الأرجنتين ستغفر له دوما.
لكي نوضح أكثر "مقاييس زمن دييجو" في نابولي كان أوج مسيرته المحترفة كلاعب لفريق وليس منتخب، تولى شارة القيادة خلفا لجوسيبي بروسكولوتي بل وجعل فترته القصيرة مع الفريق هي الأنجح في تاريخ النادي، نابولي فاز بأول لقب دوري له على الإطلاق في 1986-1987 بوجود مارادونا.
الصحفي الشهير ديفيد جولدبلات كتب: "الاحتفالات كانت عارمة للغاية، سلسلة من الحفلات في الشوارع والمهرجانات اندلعت في المدينة على مدار الساعة".
لم يكن أمرا مألوفا أن يفوز فريق من الجنوب باللقب خاصة مع الفقر الكبير لهذه المنطقة.
انقلب العالم رأسا على عقب، البعض ظن أن إمبراطورية جديدة قد جاءت لإيطاليا لتزاحم ميلان ويوفنتوس لكن هيهات.
نابولي فاز بالدوري مجددا وكان وصيفا مرتين، وفاز بكأس إيطاليا والدوري الأوروبي والسوبر الإيطالية.
هذه الألقاب لا تقدر بثمن في ذلك الوقت، حاليا أصبح من الطبيعي أن يسجل اللاعب أكثر من 30 هدفا وأن تحصد الأندية ثلاثيات وأحيانا 6 ألقاب في الموسم، أرقام هذا الزمان لا تصلح لكي يتم تطبيقها، النموذجان مختلفان تماما.
مارادونا كان هداف الدوري الإيطالي في 1987-1988 بـ15 هدفا، كما أنه الهداف التاريخي لنابولي بـ115 هدفا طيلة مسيرته، رقم كسره ماريك هامشيك في 2017.
عبء قضية الإدمان طارد مارادونا طيلة حياته، وقد يتم ذكره من تارة لأخرى بعد مماته، لكنه إنسان بكل صفاته، ما بين الصواب والخطأ والإنجازات المتوقعة وغير المتوقعة، الأحلام البسيطة التي تتحول إلى تاريخ كبير وغيرها من الأشياء، والمتعة والحزن والغضب كان مارادونا كل ذلك وأكثر.
قرأت الكثير وشاهدت العديد من مقاطع الفيديو والأهداف، لكن لم تسنح لي الفرصة قط لمشاهدته في الملعب أو مقابلته أو حتى إجراء حوار معه.
كتب محمود درويش هذه الكلمات التالية في وصف مارادونا:
له وجه طفل، وجه ملاك
له جسد الكرة
له قلب أسد
له قدم غزال عملاق
وله هتافنا: مارادونا.. مارادونا، فنتصبب اسمه عرقا. ويقتلع الكرة كالقطة البلدية الماهرة، من أرجل البغل. يراوغ كالثعلب المزود بقوة ثور، ويقفز كالفهد على حارس المرمى الضخم المتحوّل إلى أرنب: جوووول!
إن هو لم يسدد ستموت الأرجنتين من البكاء. وإن هو لم يصوّب سترفع الأرجنتين نصبا لعارها في الفوكلاند. سيتوقف الشعور القومي عن الرقص، وستربح إنكلترا المغرورة الحرب مرتين.
---
محمود درويش الشاعر والمؤلف الفلسطيني لطالما تغزل في موهبة مارادونا وكتب الكثير عنه، لكن كالعادة في مثل هذه المواقف بعد الرحيل لن نجد أي كلمات تصف مشاعرنا.
إلى دييجو الذي لم ولن أره قط.. وداعا.