كتب : مصطفى حمدي
شاهدت يد الله مرتين، سأحكي عنهما يوما ما، حتى لو لم تعن لك القصتين شيئا، هذا لو قارنتهما بيد الله التي امتدت لمارادونا بشيء من المجد في مونديال المكسيك 86، على فكرة يد الله قابلت ماردونا مرتين أيضا، كنت ككثيرون أعرف قصة واحدة فقط والثانية اكتشفتها بالصدفة بعد سنوات طويلة.
أحب مارادونا مهما فعل، قل أحب هؤلاء الذين يشبهون مارادونا، المجانين، المتمردون، الغاضبون، البشر الحقيقيون لا هم ملائكة ولا شياطين، يقارنون دائما بين ميسي ودييجو.. ما هذه السخافة؟ كيف تقارنون هذا الدمية البلاستيك بـ"دييجو الشعب"، بالطبع لن يعجب هذا الرأي صُناع الأساطير في منصات السوشيال ميديا.
إذن دعنا نتفق، ميسي موهبة عظيمة، بل موهبة جبارة "عن ماحد حوش ياسيدي"، ولكنه أشبه بروبوت فائق الذكاء، موهبة تشبه هذا العصر بإيقاعه وحداثته، أما دييجو فهو قصة أخرى، الفرق بينهما كالفرق بين الاحتفال بهدف في المدرجات والاحتفال به بلايك وشير على حائط التايم لاين.
تسألني لماذا كل هذا الانحياز لمارادونا ؟ اسمع مني:
صيف 1986 وتحديدا يوم 22 يونيو احتشد 114 ألف متفرج في ستاد "أزتيك" بالعاصمة المكسيكية "مكسيكو سيتي"، لا أعرف حتى الأن اصرار "الفيفا" على إقامة مباريات هذه البطولة في عز الظهيرة، ولكن أغلب الظن أنها أمور تتعلق ببث البطولة على الهواء ومراعاة فروق التوقيت مع القارات الأخرى، المهم أن الشمس في كبد السماء تحرق الرؤوس ولا موطيء لظل في أرض الملعب كما هو الحال لقدم في المدرجات، والمباراة بين انجلترا والأرجنتين تحترق على صفيح السياسة الساخن قبل انطلاقها .
التقى الفريقان مرتان من قبل في كأس العالم عامي 62 و 66، فازت فيهما انجلترا وكان من الواجب على الأرجنتين أن تثأر لكرامتها الكروية بل وربما كرامتها السياسية التي كان عنوانها "حرب جزيرة فوكلاند" التي بغت ذروتها عام 1982، سماها الإعلام وقتها بحرب الأسابيع العشرة حيث سعت انجلترا لبسط سيطرتها على جزر تحت سادتها، بينما تقع هذه الجزر بالقرب من شواطيء الأرجنتين.
ماعلاقة دييجو مارادونا بكل هذا؟
تصنع الأحداث الكبيرة رجالها، ونفس الحال في كرة القدم، المباريات الكبرى تصنع النجوم الكبار، فما بالك بمباراة كروية على خلفية حرب كادت تدفع انجلترا للانسحاب من مونديال 1982 الذي أقيم في اسبانيا قبل أربع سنوات!
المهم أن الحرب انتهت بهزيمة الأرجنتين عام 82 وسقط المجلس العسكري الحاكم للبلاد على إثر هذه الهزيمة بعدها بعام، وظلت المرارة عالقة في حلوق الأرجنتينيين حتى جاءت يد الله لتهديهم مارادونا.
يحكي تيري فينويك مدافع انجلترا في فيلم وثائقي عن هذه المباراة: "كانت المباراة حساسة للغاية، كان من الصعب جدا على اللاعبين أن يتجردوا من قضية النزاع والحرب. قبل المباراة اجتمع بنا وزير الرياضة الإنجليزي وقال لنا بأنه من غير الحكمة أن نقوم بتصريحات سياسية أو ما شابه، كان علينا أن نتحول لآذان صماء".
نفس حالة الحذر والقلق حضرت في تصريحات دييجو مارادونا: "لقد قلنا جميعا مسبقا إنه ينبغي علينا ألا نخلط بين الأمرين، ولكن كان ذلك كذبة كبيرة. لم نفكر بأي شيء، إلا خسارة الحرب".
سيتم دييجو ارماندو مارادونا عامه الرابع والعشرين بعد ثلاثة أشهر من المونديال، ولكن النجم الشاب لم يجد التشجيع الكافي من الإعلام قبل مونديال المكسيك 86، هاجمته الصحافة الأرجنتينية قائلة: "لايمكن للفتى الطائش أن يكون قائدا للمنتخب!".
يحكي ماردونا في سيرته الذاتية: " كانت التصفيات صعبة للغاية، تعرضت لإصابة في مباراة فنزويلا، صعدنا للمونديال ولكن الكثيرون شككوا في إمكانية شفائي بشكل كامل، كان بيلاردو قد تولى تدريب المنتخب خلفا لمينوتي".
"فاجأني بزيارته لي بأحد شواطيء برشلونة، قلت له إنني ذاهب للجري، فقال إنه سيركض معي ثم سأـلني إذا كنت أريد ترضية مالية من أجل الانضمام للمنتخب حين يطلب مني".
قلت له : "تعرض عليّ المال لألعب للمنتخب؟ أنت لا تعرفني.. سأدافع عن قميص بلدي في أي وقت ودون مقابل".
"الأزمة الأكبر أن الحكومة الأرجنتينة قررت إقالة بيلاردو قبل المونديال بعد هزيمتنا في مباراة ودية أمام النرويج، رفض اللاعبون الأمر وهددت بالاعتزال في حالة رحيل بيلاردو، وبقى الرجل وذهبنا إلى المكسيك وهناك أخبرني أنني سأحمل شارة القيادة.. بكيت وقلت لن أعود لبلدي بدون الكأس".
نعود إلى ستاد "أزتيك"، انتهى الشوط الأول بالتعادل السلبي بين الفريقين، بعد ستة دقائق من انطلاق الشوط الثاني وبعد تمريرة عكسية للكرة من قبل اللاعب الإنجليزي ستيف هودج، ظن أن حارسه سيمسك الكرة وهي في الهواء، إلا أن مارادونا قفز ودفع الكرة بيده نحو الشبكة بخفة ساحر، و لم يتمكن الحكم التونسي علي بن ناصر ومساعده البلغاري بوجدان دوتشيف من رؤية ما حدث بالظبط، هل سددها دييجو برأسه أم يده؟
يفسر علي بن ناصر قراره في هذه الكرة: "قبل البطولة شدد الفيفا على الحكام بأن الأولوية لقرارات المساعد في الكرات الأقرب له خاصة إن كان موقعه أفضل، بعد دخول الهدف نظرت إلى حكم الراية بينما كنت أعود إلى منتصف الملعب لإعلان الهدف، كنت أنظر إليه وانتظرت أن يشير لي بأن الهدف غير صحيح ولكنه لم يفعل وكان عندي شك كبير ولكنني اتبعت التعليمات، ولم أعرف أن هذا الموقف سيصبح حدثا تاريخيا".
المفارقة أن مارادونا تحدث كثيرا خلال البطولة عن ظلم التحكيم حتى أنه وجه في مذكراته اتهاما للفيفا بأنه لم يكن يريد فوز الأرجنتين بالبطولة بسبب كراهية رئيسه البرازيلي "جواو هافيلانج" وقتها لمنتخب بلاده، ولكن هذه التصريحات لم تكن أغرب من تفسير مارادونا التاريخي للهدف عندما سُئل بعد المباراة عما إذا كان هدفا صحيحا أم باليد فقال: "إنها يد الله، لقد تعرضنا لظلم الحكام طوال البطولة، الله أراد أن يعمي بصيرتهم الأن.. إنه يوم الحساب!" .
يد الله لم تكن المشهد الوحيد في يوم مجد "دييجو" ، بعدها بدقائق معدودة أحرز الهدف الثاني الذي صُنف كهدف القرن، لم يتطلب الأمر أكثر من 10.6 ثانية قطع خلالها دييجو 66 ياردة مرواغا ستة لاعبين بخفة راقص تانجو يقدم استعراضًا تاريخيا على البساط الأخضر.
الأذكياء فقط هم من يتعلمون من أخطاء الماضي، اكتب هذه الحكمة في ورقة كبيرة وضعها على الحائط المواجه لفراشك، "صدقني عملتها قبل كده ومنفعتش"، لكن المفارقة أن دييجو أضاع نفس الهدف قبل ست سنوات في لقاء ودي جمع المنتخبين على ملعب ويمبلي ولكن مارادونا قرر أن يسدد قبل مراوغة الحارس فخرجت بعيدا عن المرمى.
يقول دييجو في مذكراته: "اتصل بي شقيقي الأصغر "هيوجو" بعد المباراة وقال لي: أيها الأحمق كان لابد أن تراوغ الحارس ثم تسددها".
أثارت كلماته حفيظتي فقلت له: "أنت وغد، تجلس أمام شاشة التلفاز وتتابع وتنتقد وترى الأمور بسيطة، تعالى ونفذه في الملعب بدلا مني!"
ولكن مارادونا لم ينس الدرس وطبقة بالنص في المرة التالية ليتوج العالم هذا الهدف بلقب "هدف القرن"، ولكن الحكم علي بن ناصر كان له فضل آخر في هذا الهدف ، يعترف بن ناصر قائلا:
" لم يحرز مارادونا هذا الهدف بمفردة، كما أن يد الله لم تتدخل هذه المرة، فقد منحته "اتاحة فرصة" ثلاثة مرات حاول خلالها لاعبوا انجلترا عرقلته وهو في طريقة للمرمى، ولكنه كان يقاوم ويستمر ولم أحسب مخالفة حتى عندما واجه حارس المرمى "شيلتون" قلت سيسقط هذه المرة ولكنه راوغه وأحرزهاـ كان مارادونا رائعا ومحلقا مثل طائر لايوقفه أي شيء".
حتى بوبي روبسون مدرب انجلترا في هذه المباراة لم يخفي اعجابه ودهشته بهدف دييجو الأسطوري:
"لقد كان هدفا في منتهى الروعة، لم أشاهد في حياتي هدفا مثله ولا يمكن مشاهدة هدف كهذا حتى في مباراة تجري في الحديقة بين مجموعة من الأطفال الصغار، لكن مارادونا تمكن من تسجيله في ربع نهائي كأس العالم".
ظل هدف مارادونا الأجمل عبر التاريخ، حتى عندما سجل السعودي سعيد العويران هدفه الشهير في مرمى بلجيكا خلال مونديال 94 لم تنتابني الدهشة التي مازالت تتملكني كلما رأيت راقص التانجو وهو يمر من الإنجليز.
جزء من هذه الدهشة صنعة المعلقون وهم يتغزلون في هدف دييجو، أبرزهم بالطبع المعلق الأرجوياني "فيكتور هيوجو موراليس"، الذي صرخ وبكى وقال شعرا وأهازيجا كمن شرب برميلا من النبيذ الأصلي المعتق.. يمكنك ان تسمع تعليق فيكتور في فيديوهات الهدف المنتشرة على موقع "يوتيوب"، وتقرأ ترجمتها نصا الأن:
"ها هو ماردونا ينطلق بالكرة ويغازلها، يتخلص من لاعبيَن. مارادونا يركل الكرة، ينطلق عبقري الكرة العالمية من الجهة اليمنى… يتخطى الثالث، سيمررها إلى بوروتشاجا.. لا هي دائما مع مارادونا! يا عبقري! يا عبقري! يا عبقري! تا تا تا تا… يا له من هدف! سامحوني، دعوني أبكي! يا إلهي! فلتعش كرة القدم! هدف من الروعة بمكان! مارادونا يركض في لقطة تاريخية، أفضل لقطة على مر العصور! يا أيها السمين الصغير، من أي كوكب أنت؟".
كان مارادونا مبهرا في هذه البطولة، لم يتمكن أحد من إيقافه، ولا حتى حرارة الشمس التي أحرقت مخزون الطاقة والمهارة في أقدام كل اللاعبين، تألق بدنيا لدرجة أثارت دهشة أمه لتسأله: "ماذا تأكل يادييجو في المكسيك؟ لم أرك في حياتي بهذا النشاط!".
قابل مارادونا يد الله مرة ثانية ولكن في مونديال إيطاليا 90 وتحديدا في مباراة الأرجنتين والاتحاد السوفييتي، يحكي مارادونا في مذكراته:
"بعد هزيمة الكاميرون الأولى في مونديال 90 حانت مواجهة الاتحاد السوفيتي، لعبت أول مباراة في نابولي، في تلك المباراة ظهرت "يد الرب" مرة أخرى، لكنها هذه المرة منعت هدفا للسوفييت، كنت أقوم بالواجب الدفاعي وسدد أحد اللاعبين الروس ضربة رأس رائعة، وضعت يدي لمنع التعادل".
ظل الحديث عن "يد الله" ومارادونا ممتدا في كل المناسبات، لا ينافسه في الموروث الكروي المصري سوى هدف مجدي عبد الغني في هولندا طبعا، الفارق أن مارادونا لم يكسب عقود اعلانيه لشركات الجبنه النستو والتليفون المحمول مثل مجدي ولم يذل "شعب" الأرجنتين ليل نهار بقصة الهدف على طريقة صباع "الواد محروس بتاع الوزير"، ولكن أسطورة الأرجنتين أعاد للأذهان قصة الهدف عندما قال بعد انتخاب البابا فرانسيس عام 2013 كبابا للفاتيكان: "إن يد الله التي أحرزت هدفي في انجلترا هي التي أتت بالبابا الأرجنتيني على رأس الفاتيكان".
ماردونا قابل يد الله كثيرا، يحكي أنه سجل نفس الهدف بيده وهو يلعب لفريق سيبوييتوس، واشتكى لاعبو الفريق المنافس ولكن الحكم احتسبه، وفي مرة أخرى ألغى له الحكم هدفا مشابها أمام فريق فيليز. نصحه يومها الحكم بألا يكررها، ولكنه رد ببساطة: "لا أعدك أنني سأتوقف عن ذلك".
.. أما أنا فلن أتوقف عن حب مارادونا.
بقلم: مصطفى حمدي من كتاب فيفا 80