مع نهاية الحرب الأهلية عام 1939، دخلت إسبانيا في حقبة مُظلمة بعد انقضاض الجنرال فرانسيسكو فرانكو على السلطة.
وفي دولة متنوعة الأعراق واللغات وحتى المناخ، كان حكم فرانكو لأربعين عاما قاسيا للغاية على إقليم الباسك الشمالي، وبات الانفصال مطلبا شعبيا أمام الحكم القمعي.
بعد عقدين من سياسة الحديد والنار، انفجر الباسكيون، وخرجت من أحشائهم المنظمة الأكثر دموية في التاريخ الحديث لـ إسبانيا: إيتا.
إيتا ETA اختصار لـ Euskadi Ta Askatasuna التي تعني "بلاد الباسك والحرية"، كانت منظمة مسلحة أسسها مجموعة طلاب عام 1959.
الهدف الأساسي لـ إيتا كان استقلال بلاد الباسك، وهنا لا يقصدون إقليم الباسك في هيئته الجغرافية الحالية فقط، بل يشيرون إلى أغلب الأجزاء الشمالية من إسبانيا، بالإضافة إلى جزء جنوبي من فرنسا فيما يُعرَف بـ "الباسك الفرنسي".
سياسة المنظمة كانت جلية للغاية: تفجيرات، اغتيالات، اختطاف، ابتزاز إلى أن يتحقق مطلب الاستقلال.
تم اعتبار إيتا منظمة إرهابية من قبل إسبانيا وفرنسا وحكومات عديدة على مستوى العالم، أهمها الولايات المتحدة وإنجلترا، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي.
فعلى مدار أكثر من 40 عاما من العنف، قتلت المنظمة 829 شخصا (بينهم 340 مدنيًا)، وتسببت في إصابة المئات.
ضحايا المنظمة كانوا في الأساس رجال الجيش والشرطة وضباط السجون، لكنهم أيضا نالوا من الصحفيين والأساتذة الجامعيين، والسياسيين والنواب البرلمانيين، وأعضاء الأحزاب، والقضاة.
بل حتى المنشقين عن المنظمة كانوا أهدافًا لـ إيتا، مثلما حدث مع ماريا دولوريس كاتارين التي أُطلِق النار عليها أمام ابنها البالغ 3 سنوات في عملية اغتيال هزت إسبانيا.
لكن أشهر عملية اغتيال نفذتها إيتا، فتظل بالطبع تلك التي تمت في حق لويس كاريرو بلانكو رئيس وزراء إسبانيا في ديسمبر 1973 أثناء عودته من القداس الكنسي.
تنفيذ تلك العملية الدقيقة احتاج إلى 5 أشهر من الحفر تحت الشارع الذي ستمر فيه سيارة بلانكو، قبل أن يتم تعبئة الممر بـ 80 كيلوجرام من المتفجرات.
أثناء مرور موكب بلانكو صباح 20 ديسمبر، تمت عملية الاغتيال التي أرسلت سيارة رئيس الوزراء 20 مترا في الهواء.
لاحقا في عام 1980 وحده، قتلت إيتا 100 شخص، كان العام الأكثر دموية في تاريخ المنظمة.
وفي 1987، شهد موقف سيارات في إقليم كتالونيا تفجيرا كبيرا تسبب في وفاة 21 شخصا وإصابة أكثر من 45 آخرين.
كما شهد مطار باراخاس في العاصمة مدريد تفجيرا شهيرا آخر بشهر ديسمبر 2006، قُتل على إثره شخصين.
ورغم وفاة فرانكو في منتصف السبعينيات وعودة الديمقراطية وحصول الباسك على حق الحكم الذاتي وتمتعه ببرلمانه الخاص وشرطته وسيطرته على التعليم وجمع الضرائب داخل الإقليم؛ فقد أصرت منظمة إيتا على تحقيق الاستقلال الكامل وواصلت عملياتها على نطاق واسع.
الحكومات الإسبانية والفرنسية من جانبها تكاتفت لسنوات طويلة من أجل القضاء على المنظمة والقبض على أهم قياداتها كما حدث مع فرانسيسكو موخيكا جاردمنديا الذي حُكم عليه بالسجن لمدة 2456 عامًا!
.......
أقصر مباراة في التاريخ
ولأن كرة القدم خصوصا، والرياضة عموما، هي جزء أصيل من حياة أي مجتمع، فإنها لم تكن في منأى عن سهام منظمة إيتا.
في 1 مايو 2002، حل برشلونة ضيفا على ريال مدريد بإياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا، مباراة ستنتهي 1-1 وستعلن عن عبور الفريق العاصمي إلى النهائي، لكن ليس هذا ما يتذكره أغلب من حضروا المباراة.
قبل انطلاق المباراة بمدة قصيرة، انفجرت سيارة مفخخة في محيط ملعب سانتياجو برنابيو، لحسن الحظ لم يعرف الحادث وقوع وفيات، وتسبب فقط في 17 إصابة طفيفة.
السيارة كانت مسروقة وتم تعبئتها بعشرين كيلوجرام من المتفجرات، لكنها لم تؤثر على إقامة المباراة بشكلٍ طبيعي.
الحادثة الأشهر التي عرفها ملعب سانتياجو برنابيو وقعت بعد ذلك بعامين، في 12 ديسمبر 2004.
ليلة شتوية باردة قبل فترة قصيرة من أعياد الميلاد، كادت أن تتحوّل إلى كارثة غير مسبوقة.
ريال مدريد استضاف نظيره ريال سوسيداد وتقدّم عليه بهدف الظاهرة رونالدو في الدقيقة 41، قبل أن يتعادل التركي نهاد قهوجي للباسكيين في الدقيقة 71.. حتى تلك اللحظة كانت الأمور طبيعية.
في اللحظات الأخيرة من المباراة، تلقت جريدة جارا الباسكية مكالمة من منظمة إيتا، أخبروهم فيها أنهم زرعوا قنبلة داخل ملعب سانتياجو برنابيو، وستنفجر في تمام التاسعة مساءً.
المباراة كانت قد انطلقت في السابعة، أي أن السلطات الإسبانية تمتلك عدد دقائق محدود لمنع وقوع الكارثة.
على الخط الجانبي للملعب، التقطت الكاميرات مدير أمن الاستاد وهو يهمس في أُذن أجوستين إيريرين مدير الملعب: "قنبلة، أوقف (المباراة)، أوقف (المباراة)".
أجوستين إيريرين يشتهر بمغامرته المجنونة عام 1998 عندما أنقذ ريال مدريد من توديع دوري أبطال أوروبا يوم تحطم المرمى في مواجهة بوروسيا دورتموند.
اقرأ: المرمى الذي كاد يطيح بالحلم المدريدي
لكن الوضع في ديسمبر 2004 كان مختلفا تماما، هذه المرة لا يتعامل إيريرين مع احتمالية خسارة مباراة، بل يواجه إمكانية سقوط الآلاف من الأرواح.
الدقيقة كانت 88 من عمر المباراة، وإيريرين التفت في هلع إلى الحكم الرابع روبيرتو كارلوس خاياس أميجو وأخبره بالنبأ، ليركض الأخير نحو الحكم المساعد الذي لم يلاحظه، هنا اضطر الحكم الرابع إلى اختراق أرض الملعب لإخبار بيثنتي ليثوندو كورتيس حكم الساحة بالكارثة الوشيكة.
على الفور أطلق الحكم صافرته وأشار إلى اللاعبين بالدخول إلى غرف خلع الملابس وسط ذهول الجميع، علامات الدهشة رُسمت على كل الوجوه، لكن اللاعبين استجابوا فورا.
يتذكر الحكم ليثوندو كورتيس تلك اللحظة الأشهر في مسيرته: "الحكم الرابع أخبرني أن الإخلاء بسبب وجود قنبلة، لكني لم أفصح عن الأمر للاعبين، عائلاتهم كانت في المدرجات والوضع كان ليصير معقدا، لم أرد أن يحدث ذلك. أخبرتهم فقط أن علينا الخروج من الملعب، وهم لم يسألوا".
بعض الجماهير اندفعت في ذعر من المدرجات وهبطت إلى الممرات السفلية خلف اللاعبين دون أن يعرفوا السبب من الأساس.
وهنا بدأت مكبرات الاستاد الداخلية في مطالبة الجماهير بإخلاء الملعب بشكل منظّم، وهو ما تم في ظرف 8 دقائق فحسب دون وقوع أي تدافُع أو إصابات في رد فعل حضاري من الجمهور.
الشرطة مشّطت المدرجات بحثا عن جسم مريب، وبينما انتظار الجميع قدوم الساعة التاسعة الملعونة وترقبوا الانفجار الوشيك.. الآن.. الآن.. ثم لا شيء! إنذار كاذب!
في تلك الأثناء، لم يكن فلورنتينو بيريز رئيس ريال مدريد قد غادر المقصورة، وأصّر على متابعة عملية الإخلاء بنفسه، حتى كان آخر المغادرين بعد أن تأكد من خلو الملعب تماما.
لاعبو الفريقين غادروا الملعب بدورهم على الفور وخرجوا إلى الشارع في ملابسهم الرياضية.
يقول قهوجي مهاجم سوسيداد عن لحظة إبلاغهم: "عندما أخبرنا الحكم بضرورة مغادرة الملعب، تحلينا جميعا بالهدوء باستثناء داركو كوفاتشيفيتش الذي ركض والخوف يتملكه".
ويتذكر قهوجي واقعة طريفة مع كوفاتشيفيتش في ذلك اليوم: "جمعتنا منافسة صحية على تسجيل الأهداف. في الحافلة بعد مغادرتنا الملعب اقترب مني وقال لي: لو ألغيت هذه المباراة، فإن هدفك لن يُحتسب، أليس كذلك؟".
"قلت له: اللعنة يا داركو، الكل مرعوب وأنت تفكر في الأهداف!".
في صباح اليوم التالي، كان غلاف صحيفة ماركا معبّرا للغاية.. خوسيه ماريا جوتي يجلس على الرصيف خارج الملعب ويتحدث في الهاتف مع أسرته، والعنوان "انتصر الأخيار".
لاحقا بعد 3 أسابيع تم استكمال ما تبقى من المباراة، بالتحديد 5 يناير 2005، سيلعب الفريقان الدقيقتين المتبقيتين بالإضافة إلى 4 دقائق وقت محتسب بدل من الضائع.
الطريف أن ماريانو جارسيا ريمون الذي قاد ريال مدريد في بداية المباراة، لم يكن هو المدرب الحاضر في نهايتها عندما تم استكمالها في يناير، إذ عوضه وقتها البرازيلي فاندرلي لوكسمبورجو الذي وللمصادفة كانت يخوض مباراته الأولى مع الميرنجي.
لوكسمبورجو دفع بقوة هجومية جبارة في محاولة لتسجيل هدف الفوز خلال 6 دقائق فقط، فأقحم: رونالدو، وراؤول جونزاليس، وفيرناندو مورينتس، ومن خلفهم زين الدين زيدان، ودافيد بيكام، وجوتي.
و3 دقائق فقط من اللعب كان ما احتاجه ريال مدريد حتى يقدِم رونالدو على مراوغته الشهيرة ويتحصّل على ركلة جزاء، نفذها زيزو بنجاح، مقتنصا النقاط الثلاث في أطول وأقصر مباراة لعبها هؤلاء اللاعبين.
بلباو وإيتا.. اختطاف وابتزاز
تقاطعت مسارات أتليتك بلباو النادي الباسكي الأشهر، ومنظمة إيتا في كثير من الأحيان، بشكل مباشر وغير مباشر.
ربما الواقعة الأكثر خطورة تلك التي وقعت في 30 ديسمبر 1986، عندما تم اختطاف بيدرو جوثمان عضو مجلس إدارة أتليتك بلباو.
والاختطاف كان عقيدة مترسخة في أساليب إيتا، ليس لأسباب سياسية بالضرورة، وإنما من أجل الحصول على فدية مالية كبيرة تنعش خزائن المنظمة.
كان جوثمان مغادرًا لمطعم وفي طريقه لركوب سيارته، عندما فوجئ بثلاثة أشخاص مسلحين ينقضون عليه ويجبرونه على دخول صندوق السيارة.
الحادثة هزت بلباو، ودفعت أشهر رموز النادي المطالبين باستقلال الباسك إلى الخروج علنًا ومطالبة إيتا بإطلاق سراح جوثمان.
أخيرا في 10 يناير 1987 استطاعت القوات الخاصة للشرطة الإسبانية تحرير جوثمان والقبض على خاطفيه دون وقوف اشتباك ناري، بعد أن أقنعوهم بالتسليم.
ولطالما كانت علاقة بلباو بالسياسة الباسكية معقّدة، فالنادي لم يخف أبدا تعصبه للعرق الباسكي لسنوات طويلة مع عدم اعتماده في صفوفه على لاعبين غير باسكيين.
تحدثنا عن الشروط المعقدة للعب في أتليتك بلباو في وقتٍ سابق، يمكنك مطالة التقرير من هـــنـــا
في العشرينيات، امتلك بلباو لاعبا يدعى خوسيه أنطونيو أجيرّي، سيصير لاحقا عضوا بارزا في الحزب الوطني الباسكي، وسيتولى منصب حاكم بلاد الباسك، قبل أن يتم نفيه خلال فترة حكم فرانكو.
بعد الحرب الأهلية، كان بلباو نفسه ضحيةً للحملة الشرسة ضد القومية الباسكية، فتم إجباره على تغيير اسمه من "أتليتك" إلى "أتليتكو".
رئيس النادي في التسعينيات كان خوسيه ماريا أراتي، وقد كان بدوره عضوا معروفا في الحزب الوطني الباسكي، وامتلك وجهة نظر تخص عدم وقوف دقيقة صمت أو ارتداء شارات سوداء حدادًا على الضحايا الذين يسقطون على يد منظمة إيتا.
أراتي برر ذلك: "مجلس الإدارة قرر صراحةً عدم التعبير عن نبذ العنف في ملعب كرة قدم، إنه ليس منتدى مناسبا للقيام بذلك. الإدارة ترفض وتستنكر في كثير من المناسبات أي نوع من أنواع العنف، لكننا نود الحفاظ على بلباو كمساحة وحيدة للسلام والوئام التي يتمتع بها المجتمع الباسكي".
في 2008 خالف النادي تقاليده في هذا الشأن، وعرف ملعب سان ماميس دقيقة حداد بعد مقتل أحد السياسيين على يد المنظمة، لكن جاءت الصدمة عندما أطلق الكثير من المتطرفين الحاضرين للمباراة صافرات الاستهجان الشرسة، لتستمر دقيقة الحداد لمدة 8 ثوانٍ فقط في الواقع.
....
بالعودة قليلا إلى الوراء، فقد عرف بلباو خلال الستينيات والسبعينيات، حارسا أسطوريا يُدعى خوسيه آنخل إريبار.
كان إريبار هو حارس مرمى إسبانيا خلال تتويجها بـ يورو 1964 على حساب الاتحاد السوفيتي، بطولة دولية كانت الوحيدة لـ لاروخا طوال الـ44 عاما التالية.
ويعتبر إريبار أحد أفضل حراس المرمى الإسبان على الإطلاق، ووقع في المركز رقم 33 ضمن قائمة أفضل 50 حارس مرمى في تاريخ كرة القدم التي اختارها FilGoal.com قبل عدة أشهر.
لكن علاقة إريبار بـ إسبانيا لم تكن وردية دائما، خصوصا بعد أن ظهرت انتماءاته الانفصالية جلية.
في 5 ديسمبر 1976 أقدم إريبار بصفته قائدا لـ بلباو، ونظيره إناشيو كورتابارّيا قائد ريال سوسيداد، على فعلة مجنونة كان من الممكن أن تنهي مسيرتيهما في أحسن الأحوال.
فقبل بداية مباراة دربي الباسك بين بلباو وسوسيداد، هبط القائدان إلى أرض الملعب، حاملين علم الباسك (إكورّينيا) الذي كان إشهاره وتداوله غير قانوني في تلك الفترة.
العلم صُنع بواسطة شقيقة خوسيه أنطونيو أورانجا لاعب سوسيداد التي قامت بحياكته دون أن تدري فيما سيستخدمه شقيقها.
أفراد سوسيداد أصحاب المبادرة عرضوا الأمر على نظرائهم في بلباو قبل المباراة بساعة ونصف، ليبدأ لاعبو بلباو في تداول المسألة الخطيرة فيما بينهم.
يقول إريبار: "لو رفض شخص واحد تنفيذ الفكرة، لما فعلناها؛ إلا أننا وافقنا جميعا".
بعد وقت قصير من هذه الواقعة، بات اقتناء علم إكورينيا قانونيًا. "مبادرتنا كانت خطوة لفتح تلك النافذة".. يعلّق إريبار.
حتى يومنا هذا، يتواجد ذلك العلم في متحف سوسيداد، ويعد فخرا للقومية الباسكية.
لقراءة أكثر تفصيلا عن تلك الواقعة، طالع: قصة مغامرة في دربي الباسك جعلت حيازة العلم قانونية
لكن الجزء المتبقي من مسيرة إريبار، كان أكثر سوداوية، إذ تم استبعاده من منتخب إسبانيا بداية من ذلك العام: 1976.
يقول إريبار عن ذلك: "لم أستفسر مطلقا عن سبب استبعادي من المنتخب، هذا ليس أسلوبي. لكني فهمت أنها رسالة إلى شخصي عندما كفوا عن توجيه الدعوة إليّ".
في الواقع، كان ما حدث عام 1978 هو إعلان ضمني من إريبار بالحرب على إسبانيا.
حارس مرمى بلباو التاريخي كان أحد مؤسسي حزب الوحدة المعروف بـ Batasuna، وهو الجناح السياسي لمنظمة إيتا.
يبرر إريبار تلك الخطوة المثيرة للجدل: "عرضوا عليّ دمج الرياضة بالثقافة، وأنا ظننت أنه بإمكاني تقديم شيء على هذا الصعيد، ولا شيء أكثر من ذلك".
"كنت جاهل سياسيا بعض الشيء فيما يخص الطريقة التي تسير بها الأمور".
"نشاطاتي انحصرت في الذهاب إلى المدارس رفقة سانتياجو بروراد لتوعية الأطفال بالابتعاد عن المخدرات وممارسة الرياضة".
ملاحظة هامشية: سانتياجو بروراد كان قياديا في حزب الوحدة، وتم اغتياله على يد GAL عام 1984.
وGAL هو اختصار لـ "مجموعة التحرير المناهضة للإرهاب"، فرقة إعدام أسسها ضباط إسبان بشكل غير قانوني، تخصصت في اغتيال قيادات منظمة إيتا بشكل انتقامي.
ومن الجلي أن إريبار لم يدر أن إيتا تستعمله كواجهة لكسب تعاطف الشعب الباسكي رغم حسن نواياه.
في النهاية، لم يكمل إريبار إلا عام ونصف في الحزب حتى غادره، لكن هل كان لعنف إيتا دور في هذا القرار؟
يجيب إريبار: "كل شيء ساهم في قراري، كرة القدم كانت حياتي، وأنا شعرت دوما بإنني شخص رياضي. حاولت القيام بالأمور بطريقة حضارية".
في مقابلة مطولة معه العام الماضي عبر موقع JOT DOWN تلقى إريبار سؤالا ماكرا نصه: "بالنسبة لك، اللعب للمنتخب لم يكن متمحورا أبدا حول تمثيل إسبانيا، وإنما مجرد فرصة للتواجد بين أفضل اللاعبين؟".
وإجابة إريبار جاءت ضبابية، وكأنه استحى أن ينكر هذا الادعاء، أو لعله يفتخر بعدم إنكاره من الأساس: "امتلكت دائما عقلية الرياضي، وكرة القدم تُحكَم بواسطة اتحادات رياضية والاتحاد الدولي، رغم أننا في النهاية نمثل دولة، وكل الحكومات تستخدم كرة القدم وترغب في تنظيم كأس العالم لتستعرض إمكانياتها".
في نهاية مسيرته، وبعد أن كان إريبار بطلا قوميا إسبانيًا لمساهمته الكبيرة في اللقب الدولي الوحيد لـ لاروخا وقتها، صار إريبار مكروها في كل أنحاء البلاد.
خلال مباراة أمام إشبيلية في رامون سانشيز بيزخوان، اهتزت شباكه بهدف، فانفجرت الجماهير في الملعب بصياح: "إسبانيا، إسبانيا، إسبانيا".
وبعد إحدى المباريات أمام أتليتكو مدريد، وقع إريبار تحت مقصلة خوسيه ماريا جارسيا الإذاعي الرياضي الأشهر في تاريخ إسبانيا.
يقول إريبار عن تلك الواقعة: "لم تكن لدي رغبة في عمل مقابلة إذاعية بعد تلك المباراة، لكن جارسيا أخبرني أننا لن نتحدث عن شيء أكثر من كرة القدم.. لقد خدعني".
وجّه جارسيا سؤالا مفاجئا إلى إريبار: "هل تشعر أنك إسباني؟".
ليتملك الصمت من إريبار الذي لم يرد، سكوت علّق عليه جارسيا قائلا: "كما ترون، الصمت يثبت أنه يشعر بأنه إسباني".
وهنا جاء رد إريبار في حدة: "أشعر بسعادة بالغة عندما أتواجد في أي مكان بإقليم الباسك، لدي أصدقاء كثر هناك".. وهنا قطعوا المقابلة.
....
وكما قلنا سابقا، الاختطاف بغرض الحصول على فدية هو طريقة فعّالة للغاية لتمويل المنظمة، وكذلك الابتزاز.. مثلما حدث مع الفرنسي بيكسنت ليزارازو.
كان الظهير الأيسر الشهير أول لاعب فرنسي يمثّل بلباو على الإطلاق في عام 1996.
وتمثيل ليزارازو لـ بلباو جاء لكونه مولودا في لابور بأقصى الجنوب الغربي لـ فرنسا، وهي منطقة تابعة لإقليم الباسك.
بل إنه انضم لمنتخب الباسك نفسه وخاض معه مباراة عام 1993 أثناء فترة تواجده في بوردو.
لكن الأزمة الكبرى التي واجهته وعكرت عليه حياته لسنوات طويلة، حدثت صباح يوم 11 ديسمبر 2000 وقتما كان يلعب في بايرن ميونيخ.
تلقى منزل والديه خطابا من إيتا، يطالبه فيه بسداد "الضريبة الثورية" بسبب "خيانته وتمثيل منتخب فرنسا وترديد لامارسييز (السلام الوطني الفرنسي)".
وقال الخطاب في نصه: "تشعر إيتا بالغضب لأنك دافعت عن ألوان دولة معادية وقمعية، وتلقيت مكافآت من العدو، وهي أموال مسروقة من شعب الباسك. إيتا تطالبك بالدفع وإلا سيكون هناك رد فعل ضدك وضد ممتلكاتك".
تملّك الرعب من ليزارازو، واضطر ناديه بايرن ميونيخ إلى توفير حراسة خاصة له على مدار الساعة.
يتذكّر ليزارازو تلك السنوات الصعبة: "حراسي كانوا يفحصون سيارتي كل صباح وينظرون أسفلها قبل أن أركبها".
بل يزعم ليزارازو أن ريمون دومينيك عندما تولى تدريب فرنسا قال له: "لن أضمك، فمع كل ما يدور حولك والخطاب الذي تلقيته من إيتا، أخشى أنك ستجلب تأثيرا سلبيا على المنتخب".
ويعترف ليزارازو: "من حينها، لم أعد نفس الشخص أبدا".
سوسيداد وإيتا.. اغتيال ونفي
لا شك أن ليزارازو واجه أوقاتا صعبة، لكنه كان أفضل حالا بالطبع من خوسيه أنطونيو سانتاماريا.
كان سانتاماريا مدافعا لـ ريال سوسيداد في فترة الستينيات، وبعد اعتزاله كرة القدم تحوّل ليصير رجل أعمال مشهور في إسبانيا وامتلك عدة مشاريع، من بينها ملهى ليلي معروف في إيبيزا، كان يقصده مشاهير العالم.
سانتاماريا رفقة المخرج الشهير رومان بولانسكي
في بداية التسعينيات، حققت معه الشرطة بتهمة التهريب وتجارة المخدرات، لكن أُطلِق سراحه دون أدلة.
ثم أشيع أنه يتعاون مع الشرطة للإيقاع بالمنظمات الإرهابية، وقتها تلقى سانتاماريا تحذيرا من صديقه تشيكي بينيجاس القيادي في حزب العمال الاشتراكي الحاكم للبلاد، بأنه بات هدفا محتملا لـ إيتا.
كان سانتاماريا يتناول العشاء رفقة مجموعة من أصدقائه يوم 19 يناير 1993، عندما اقتحم القاتل المكان في هيئة أحد أفراد طاقم المطبخ، اقترب من ظهر ضحيته، وأطلق النار على مؤخر رقبته دون أن ينظر في عينيه، تلك كانت الطريقة التقليدية لـ إيتا في تنفيذ الاغتيال المباشر.
لم تستبعد الشرطة في تحقيقاتها أن علاقة سانتاماريا بصديقه السياسي بينيجاس كانت سببا في مقتله، لكنها لم تصل إلى سبب مباشر قط.
3 أعضاء في إيتا كانوا مسؤولين عن هذا الاغتيال، الأول خوسيه ماريا إجراتيجي مات في العام التالي بعد انفجار قنبلة داخل حقيبة كان يحملها.
أما الثاني، فالانتين لاساراتي، فقبض عليه وحُكم عليه بالسجن عام 1997.
بينما تأخرت العدالة في حق خوان أنطونيو أولارا الذي أطلق النار بنفسه حتى عام 2007 عندما قُبض عليه أخيرا وتلقى حكما بالسجن لـ 28 عاما.
....
مصير سانتاماريا كاد أن يلاقيه شخص آخر ينتمي إلى ريال سوسيداد، هو خواكين أبيرّيباي.
كان خواكين أبيريباي نائبا لرئيس سوسيداد خلال الثمانينيات، وهو والد جوكين أبيريباي الرئيس الحالي لـ سوسيداد.
تعرض أبيريباي الأب لمحاولتي اغتيال على يد إيتا، الأولى في 1989 وقُتل خلالها سائقه.
ليرحل أبيريباي عن إقليم الباسك لفترة، وعند عودته حاولت إيتا اغتياله مجددا بواسطة عبوة متفجرة، لكن تم إبطالها لحسن حظه.
....
بيد أن واحدة من أغرب القصص التي تربط كرة القدم بمنظمة إيتا، تلك التي حدثت لـ إنيوات زوبيكاراي حارس مرمى ريال سوسيداد السابق.
في عمر الـ5 سنوات، تحديدا في الخامسة من صباح يوم 16 أبريل 1989، هجمت قوات الشرطة على منزل عائلة زوبيكاراي، عملية شهدت تبادل لإطلاق النيران، وانتهت على اعتقال 6 أفراد من منظمة إيتا، بالإضافة إلى كانديدو زوبيكاراي والد الطفل، وإنياكي جوني والدته.
وجّهت الشرطة اتهامات إلى الأب والأم بإيواء عناصر خطيرة من منظمة إيتا والتستر عليهم والمشاركة في عملية اغتيال ضابطين.
حاول الأب أن يحمي زوجته ويتحمّل المسؤولية وحده، لكن في النهاية سُجنت السيدة لعدة سنوات، وتلقى هو حكما مشددا بالسجن لـ 22 عاما.
ومن رحم هذه العائلة الانفصالية، جاء إنيوات زوبيكاراي الذي عاش طفولة صعبة محروما من والديه، فأقام في منزل جده، ولم يجد صديقا أكثر وفاءً من كرة القدم.. أو هكذا اعتقد.
انضم زوبيكاراي إلى ناشئي ريال سوسيداد، لكنه قضى سنوات في ظل كلاوديو برافو، ليقرر الخروج معارا عام 2011 إلى نادي إيركوليس.
اتفق الناديان وكانت الصفقة على وشك الإتمام، عندما تراجع إيركوليس في اللحظة الأخيرة فور أن علم بماضي زوبيكاراي والتاريخ الإرهابي لعائلته.
برر إيركوليس تراجعه عن إتمام الصفقة بعدم الوصول لاتفاق مادي مع سوسيداد، رواية كذّبتها كل المصادر الإسبانية الموثوقة، ليكون زوبيكاراي ضحية لعمليات اغتيال لم تصنعها يديه.
حاليا، يعمل زوبيكاراي في نادي أوكلاند سيتي النيوزيلندي، بعيدا جدا، في النصف الآخر من الكرة الأرضية حيث لا يهتم الناس بـ إيتا وقد يجهلونها من الأساس لو ذُكرَت أمامهم.
مغامرة زوبيكاراي في أوقيانوسيا بدأت عام 2016 عندما انضم إلى صفوف النادي النيوزلندي لحراسة مرماه وحقق معه بعدها الكثير من النجاحات والبطولات المحلية والقارية.
في موسم 2017\2018، حقق زوبيكاراي إنجازا شخصيا تاريخيا، عندما حافظ على نظافة شباكه في 1404 دقيقة متتالية، بواقع 15 مباراة بمختلف المسابقات.
ليصير زوبيكاراي حارس المرمى الأوروبي صاحب السلسلة الأطول من الشباك النظيفة في التاريخ، كما أنه صاحب السلسلة الأطول في القرن 21 حتى اللحظة.
إجمالا، يحتل زوبيكاراي بهذا الرقم المركز الثالث في قائمة أطول سلاسل الشباك النظيفة تاريخيًا، خلف البرازيلي مازاروبي الذي حقق 1816 دقيقة، والمصري ثابت البطل بـ 1442 دقيقة.
في الشهر الماضي –أكتوبر- اعتزل زوبيكاراي كرة القدم، وتحوّل فورا ليشغل منصب مدرب حراس المرمى في أوكلاند سيتي.
....
في 7 أبريل 2017 أعلنت منظمة إيتا عن إيقاف أنشطتها العسكرية بالكامل وتسليم أسلحتها ومتفجراتها.
وفي أبريل 2018، أعلنت عن حل كل هياكلها وإنهاء أنشطتها السياسية تماما.
جوسو تيرنيرا أحد أبرز قيادات المنظمة الذي ظل هاربا لـ 17 عاما، تم اعتقاله أخيرا العام الماضي في جبال الألب.
إيتا، وبالرغم من آلاف الكيلوجرامات من المتفجرات، فإن قنبلتها الحقيقية لم تنفجر قط.. في النهاية، لم تقدر المنظمة أبدا على تحقيق أهدافها، وانتهت أيامها دون أن يستقل إقليم الباسك عن إسبانيا.
مصادر: