كتب : لؤي هشام
كثيرون مروا من فوق البساط الأخضر، وكثيرون أبدعوا وتألقوا ليبقوا في الذاكرة، وكثيرون حضروا في تلك اللحظات التي صُنع فيها المجد ليأخذوا حيزا من المشهد، ولكن قليلين هم من ظلوا خالدين عابرين لكل ذلك في جميع الأزمنة.
هؤلاء الخالدون لم يصنعهم إنجاز عابر أو لقطة لا تُنسى حملت الكثير من المعاني وقتها، وإنما صنعتهم الموهبة الكبيرة والتفرد في أسلوب اللعب، وإلى جوار ذلك كانت شخصيتهم دائما حاضرة ليُضرب بهم المثل عبر العصور بما قدموه وحققوه على ذلك العشب الأخضر.
(إعادة نشر بمناسبة عيد ميلاد مارادونا)
"أن تلعب مثل.." سلسلة يقدمها FilGoal.com تخليدا لهؤلاء المختلفين في الأرض الذين كان تفردهم ورؤيتهم المختلفة على أرض الملعب سببا في إعجازهم، ومحاولةً لوضعك في الصورة من الداخل بأعينهم وأعين من عرفوهم.
_ _ _
اقرأ أيضا - (أن تلعب مثل بوبي تشارلتون.. الأقرب للكمال الذي امتلك رئتي حصان)
وهذه الحلقة مع دييجو مارادونا الذي يحتفل بعيد ميلاده الـ 60.
طالع أيضا - (ملحمة دييجو 1986)
طالع أيضا - (أنا دييجو - عن "يد الرب" والمخدرات.. كراهية إسرائيل وبرشلونة)
طالع أيضا - (مايكروفون – "أريد البكاء.. أشكرك أيها الإله على مارادونا")
طالع أيضا - (من دييجو لفيدل: "الجناح الأيسر يليق بك")
دييجو أرماندو مارادونا فرانكو
بعد 20 عاما من مولد بيليه في نفس الشهر - أكتوبر - وتحديدا في ليلة الثلاثين، أتى دييجو إلى الدنيا في مستشفى إيفيتا بمدينة لانوس الأرجنتينية، وفرحة الأب أرماندو كانت كبيرة إذ كان الابن الأول بعد 3 بنات.
تلك العائلة الفقيرة لم تكن تدرك أن تلك اللحظة تحديدا كانت تاريخية بقدر تاريخية أن يكون البابا أرجنتينيا.
الحديث عن إل دييجو قد يطول ويطول، والزوايا المختلفة والمتناقضة في مسيرته وشخصيته قد تكفي لتكوين مرجعية ضخمة عن حياته العامرة بالأحداث.
أراؤه السياسية، نزواته الصاخبة والتدهور المستمر في شئونه وغيرها من الأحداث، كل ذلك كان جانبا صغيرا من الصورة الكبرى.
تلك الصورة التي رُسم فيها دييجو كملاك قادم من السماء قبل أن تجبره مخالطة البشر على التحول إلى آدمي، ليس بشريا وليس ملائكيا، ببساطة لم يكن هناك تعبير أفضل من تعبير الصحفي الإيطاليا لوتشيانو دي كريشينزو.
"كانت الشخصيات الأكثر أهمية في الآلهة اليونانية أبولو وديونيسوس. تمثل أبولو السبب ويمثل ديونيسوس العاطفة. أولئك الذين يعرفون مارادونا يدركون أنه كان أسوأ أبولو، ولكن أفضل ديونيسوس".
قيادته نابولي إلى تحقيق لقبي دوري إيطالي عجزا عن الوصول إليهما مجددا حتى الآن، وأضف إلى ذلك الدوري الأوروبي، ما فعله مع برشلونة وما حققه رفقة بوكا جونيورز، والمجد الذي صنعه في كأس العالم تحت علم بلاد فضة.
حسنا، لن يكون ذلك محور الحديث حول إل "بيبي دي أورو".
مارادونا من الزاوية الأكثر قربا
ما حققه خلال مسيرته الكروية لم يكن إعجازيا بقدر الصورة التي رسمها في مخيلة منافسيه قبل رفاقه.
مواجهة مارادونا كانت أمرا مرعبا للمدافعين وحراس المرمى على حد السواء، مهاراته الكبيرة وتحركاته غير المتوقعة وقدرته الكبيرة على توجيه إهانة دون الشعور بالذنب جعلوا محاولة تجنبه هي أيسر الحلول.
وما فعله أو كان يفعله كان يثير إعجاب الخصوم قبل الزملاء.
هل تتذكر هدفه الثاني الشهير في شباك إنجلترا بعد مراوغة كافة اللاعبين ثم حارس المرمى بيتر شيلتون قبل أن يضعها في الشباك؟
هذا الهدف في ربع النهائي كاد أن يجبر جاري لينكر هداف الإنجليز على التصفيق له!
"حينما سجل الثاني شعرت أنني أريد التصفيق، لم أشعر بهذا من قبل، هذا حقيقي.. ليس فقط بسبب أهمية المباراة الكبيرة بل بسبب جمال الهدف كذلك، إنه اللاعب الأعظم على الإطلاق.. إنه ظاهرة عبقرية".
ولكن هذا الهدف تحديدا باعتباره هدف القرن، والذي يعتبره البعض الأفضل حتى الآن في تاريخ الساحرة المستديرة، حمل زاوية أخرى لم يفطن إليها كثيرون، وهي الزاوية التي تحدث عنها زميله خورخي فالدانو.
يقول فالدانو مبديا علامات الدهشة "دييجو اعتذر لي بعد أن سجل الهدف الثاني ضد إنجلترا، كان بإمكانه رؤيتي غير مراقب على العارضة البعيدة، لكنه لم يستطع إيجاد مساحة لكي يمرر لي".
"الحقيقة أنني شعرت بالإهانة، كانت إهانة لمهنتي. أعني أنه رغم ركضه بهذه الطريقة كان لا يزال لديه الوقت للبحث عني ورؤيتي، كلاعب لم أكن أقارن به. كان لا يصدق".
قدرته الكبيرة على المراوغة لم يكن يضاهيها أحد، رؤيته وسيطرته على الكرة وتمريراته الدقيقة بجانب سرعته كانت من عوامل تفوقه، قدماه القويتان وقصر قامته ساعداه على التمتع بتوازن جيد منحه مع قوته البدنية فرصة التفوق على الخصوم.
هدفاه في شباك بلجيكا بنصف نهائي مونديال 86 يشرحان الكثير من ذلك: الهدف الأول تمكن من استغلال سرعته ونخز الكرة سريعا قبل المدافعين وحارس المرمى ليضعها في الزاوية البعيدة.
أما في الهدف الثاني فقد تحرك نحو لاعبي بلجيكا وراوغهم في مساحة صغيرة قبل أن ينطلق سريعا ليضع الكرة على يسار الحارس المغلوب على أمره.. هدفان كانا كافيان لإيصال بلاده إلى النهائي.
كان مارادونا قادرا دائما على التهرب من الرقابة اللصيقة، قادرا على التحرك في اتجاه مفاجئ ليتخلص من ملاصقة المنافسين.
ويشرح المدافع الإنجليزي تيري بوتشر "إنه يتفوق على الآخرين بأميال، في ربع نهائي 86 كما رأيتم لم أتمكن من الاقتراب منه حتى كل ما رأيته كان الرقم 10، قامته قصيرة ولكن قوته تمكنه من حماية الكرة، لديه قوة وسرعة وتمريره ممتاز ودقيق، كما يتمتع بخفة كبيرة كما رأينا في هدف يد الله".
حتى جسده الضئيل كان قادرا على تحمل الركلات المتتالية من المدافعين.
في تلك البطولة تحديدا - 86 - سجل دييجو رقما قياسيا بتعرضه 35 خطأً كأكثر لاعب يسجل هذا الرقم في المسابقة العالمية.
يقول النجم البرازيلي زيكو عن جاره اللاتيني "كان دائما يحظى بشخص لمراقبته، وشخص آخر يتعلق به وعلى الرغم من ذلك كان قادرا على نثر سحره أمام الجميع".
دييجو نفسه تحدث عن هذه العرقلات المستمرة التي كان يتعرض لها وتأثيرها عليه حتى أنه وصف مونديال 82 بـ"بطولة الكدمات" نظرا للكم الكبير من الضرب والركل الذي تعرض له، والسبب بالتأكيد مراوغاته المتواصلة ومروره السهل من بين أجساد المنافسين.
حتى أنه لم يحظ بتلك الحماية التي يحظى بها لاعبين في الوقت الحالي مثل ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو. وغم ذلك ظل المدافعون دائما هم من يخشوه.
إذ قال جون بارنز مدافع المنتخب الإنجليزي خلال مباراة المنتخبين الشهيرة، عن مارادونا "إنه يخيف الجميع بالتأكيد، لا تستطيع اللعب أمامه".
لم يتوقف الأمر عند حدود القدرة الرائعة على إنهاء الفرص وتسجيل الأهداف المتنوعة باستمرار، بل امتد أيضا إلى مساعدته على صناعة الأهداف لزملائه واستغلال مهاراته على جذب المدافعين ومن ثم تمرير الكرة إلى زميل في المساحة الخالية.
كان قادرا على جعل مدافع في ظهره ومن ثم انتظار زميل قادم للتمرير له، رؤيته الواسعة ونظراته الثاقبة ساعداه على ذلك، والأمثلة عديدة.
ربما تمريرته الحاسمة إلى كانيجيا في مونديال 90 أمام البرازيل كانت بمثابة تمريرة القرن.
فاصل من المراوغات للاعبي السيليساو ثم تمريرة رائعة في الوقت المناسب أكملها كلاوديو بمراوغة الحارس ثم إيداعها في الشباك بسهولة.
أو حتى عرضيته الرائعة بطريقة رابونا إلى رامون دياز الذي لم يجد صعوبة في تسجيلها برأسه في شباك سويسرا بالمباراة الودية التي جمعت الفريقين في ديسمبر 1980. كل ذلك كان قطرة من فيض دييجو.
"ما يفعله زيدان بالكرة، مارادونا قادر على فعله ببرتقالة".. أيقونة فرنسا ميشيل بلاتيني.
كل ذلك لم يكن نتاج الصدفة ولم يكن صنيع الموهبة فقط كما يؤكد مارادونا، إذ قال: "عملت بكد طوال حياتي من أجل ذلك، هؤلاء الذين يقولون إنني لا أستحق أي شيء أو أن كل ذلك أتى بسهولة عليهم تقبيل مؤخرتي".
ويتفق معه لاعب نابولي السابق فرانشيسكو رومانو، الذي يصر على أن من لم يشاهد مارادونا في التدريبات لم يشاهد قدراته الحقيقية على الإطلاق.
ويقول: "في التدريبات يمكنك رؤية مارادونا الحقيقي، يا له من مشهد، لم يخسر مباراة أبدا في التدريبات، لسوء الحظ ما رآه اللاعبون لم يراه المشجعون من قبل، كنت أدرك أن هذا غير قابل للتكرار".
ويذهب خورخي فالدانو إلى ما هو أبعد من ذلك حينما يشرح الأمر من وجهة نظر الكرة ذاتها "خلف كل شيء، لم تحظ الكرة بخبرة أفضل من التي تحظى بها حينما تلتصق بقدمه اليسرى".
بيليه سجل أهدافا أكثر وميسي حقق بطولات أكثر ولكن ما إن ترى دييجو والكرة في قدميه فسوف تفهم.
أو كما قال زميله هيكتور إنريكي: "لن يكون هناك مثل مارادونا أبدا، حتى وإن حقق ميسي 3 ألقاب مونديال أو سجل هدفا من ركلة خلفية عند منتصف الملعب".