كتب : إسلام مجدي
"عبقرية كروية عاشت في ظل حياة من الاستهتار". تلك كانت كلمات النقاد عن فيلم "مارادونا، يد الله". كوصف دقيق لفيلم وصفه ماركو ريسي مخرجه بأنه يصف دييجو مارادونا أسطورة الأرجنتين من زاوية مختلفة تماما لم يعرفها الجميع.
وأضاف المخرج الإيطالي "إنه النفق المظلم من حياة دييجو مارادونا خارج الملعب، تلك الأحداث التي لم ترها الجماهير ولا يعرفها الكثيرين عن دييجو، أوقات انهياره وسقوطه في فخ الظلام بسهولة".
(إعادة نشر بمناسبة عيد ميلاد مارادونا)
في عام 2004 كان مارادونا يرقد في سريره بالمستشفى منتظرا الموت في أي لحظة، حالته الصحية تراجعت كثيرا، انهار كثيرا خاصة مع إدمانه الشديد للكحول وعادته في تناول الطعام لم يعد يتحكم فيها وأصبح يتناوله طيلة الوقت.
كان مارادونا في تلك الفترة قد خضع لأكثر من محاولة للعلاج سواء صحيا أو نفسيا لكن النهاية كانت دوما واحدة، الانهيار.
كل من كان يهتم بأمر مارادونا كان يخشى شيئا واحدا أن يختفي إلى الأبد، أن توافيه المنية سريعا قبل أن يتم شفائه، بدا وكأن عودته للحياة تعد أمرا مستحيلا، لكنه وبعد أعوام قليلة حقق المستحيل.
قصة مارادونا في ذلك الوقت تحديدا تحولت تحولا كبيرا من أسطورة أهدرت مسيرتها واستهترت إلى بطل كروي استعاد حياته وقاتل من أجلها وعاد من نقطة الموت ليصل إلى القمة.
كُتب في صحيفة "إندبندنت" البريطانية نقلا عن ماركو ريسي المخرج الإيطالي: "ذهلت من مفاجأة حينما زرت أمريكا الجنوبية، ألا وهي أن مارادونا محبوب بصورة غيرة طبيعية حتى أكثر من بيليه، دييجو محبوب لأكثر من مجرد موهبته في كرة القدم وأكثر من بيكام أو أي لاعب ولد في الغرب".
مارادونا بدايته كانت مماثلة لبيليه ولمعظم الأطفال الأرجنتينيين في تلك الحقبة، فتى صغير بلا قميص يتجول في شوارع بيونيس آيريس، بالنسبة للأرجنتينيين إنه حقق كل شيء ولا يطلبون منه أي شيء إنهم يحبونه حبا جما.
مسيرته التي بدأت في 1976 وكانت طريقه إلى القمة قاطعها العديد من الاتهامات سواء بالإهانات أو الإيقاف أو الاعتقال.
كل شيء خرج عن السيطرة أكثر في عام 1984 حينما انضم إلى نابولي، بعد عامين من اللعب لبرشلونة كان لازال شابا جديدا في أوروبا ولم يعتد الحياة الأوروبية مع الكثير من الخلافات في إسبانيا، وفي إيطاليا كانت المغريات أكثر وأكبر وتخطت ما كان يجده في الأرجنتين.
ناديه نابولي كان مرتبطا في تلك الحقبة بالمافيا الإيطالية وقالت التقارير إنها كانت مسؤولة في ذلك الوقت عن إمداده بالمخدرات.
وتم إيقافه من اللعب في الدوري الإيطالي عام 1991 لمدة 15 شهرا بعدما أظهرت الفحوصات إيجابية تعاطيه للمخدرات.
تم الترحيب بمارادونا في نادي نيويلز أولد بويز في روزاريو لكن في 1994 فوت تدريبا وتم طرده من النادي، وكان ذلك في العام الذي أطلق فيه الرصاص على صحفي خارج منزله.
الأسطورة مر بكل شيء، نجح كرويا ثم اندثر وفي 30 يونيو 1994 تلقى خوليو جرندونا رئيس الاتحاد الأرجنتيني نبأ فحوصات المنشطات والمخدرات وكانت العينة إيجابية لمارادونا، وبدأ كل شيء في الاندثار من حينها.
أعظم لاعب في كرة القدم حينها واجه فضيحة في أكبر بطولة رياضية، وكان منذ أسبوع فقط يعد نجم كأس العالم الذي لا يمكن مجاراته على الإطلاق.
في تلك اللحظة كان قد ظهر للعالم أجمع الوجه السيء لمارادونا، عبقري كرة القدم الذي عانى من انتكاسات شخصية كثيرة بسبب حبه لحياة الاستهتار وتعاطي الكوكايين، وتحولت نظرات الإعجاب إلى أصابع اتهام.
وخلال عام 1997 فشل مجددا في تخطي فحص للمنشطات والمخدرات لتبتعد عنه الشهرة والأضواء ويصاب بأزمة نفسية كبيرة وأفسدت مسيرته.
وبحلول عام 2000 رقد في المستشفى وهو يعاني من أزمة قلبية حادة وذلك أثناء إجازة كان يقضيها في منتجع أوروجوياني، ووقتها خرج كارلوس منعم رئيس الأرجنتين وصديقه حينها قائلا: "إنها أزمة قلبية يعاني منها بسبب الضغط". لكن الشرطة الأوروجويانية قالت إنه تعاطى الكوكايين أكثر من اللازم.
وكتب في سيرته الذاتية معترفا بأنه مدمن على المخدرات لكنه أوضح أنه كان ضحية لمؤامرة من مسؤولين كرويين وساسة.
وصرح قائلا: "أنا صوت من لا صوت له، أنا صوت عدد كبير من الناس الذين يشعرون أنني أمثلهم، لأنني دائما لدي ميكروفون أمامي، لكنهم لا يحصلون على فرصة أبدا ليعبروا عما بداخلهم".
حينما اتجه مارادونا لمركز إعادة التأهيل كان عنوان صحيفة "إندبندنت" البريطانية: "يرقد بين الحياة والموت".
كانت تلك مرة هي الأشهر لمارادونا نجح خلالها في النجاة من الموت، حتى جاء عام 2004 لتطرق بابه أزمة جديدة فقط بعد 4 أعوام من أزمة وفضيحة سابقة.
وكان على طاقمه الطبي طوال الوقت أن ينفي الأخبار التي تشاع حول تعاطيه لجرعة زائدة من الكوكايين، خاصة وأن الأزمة قد ضربته فعليا حينما كان يشاهد مباراة لناديه المفضل والسابق بوكا جونيورز على ملعب "لا بومبونيرا" واضطر للانسحاب بين الشوطين وخشى الأطباء أن قلبه لن يكون قادرا على المواصلة.
بإمكاننا تخيل المشهد التالي خارج مركز التأهيل، الجماهير تصطف أمام مستشفى "بيونيس آيرس" والكل يرتدي القميص الأزرق والأصفر الخاص ببوكاجونيورز وفي الخلف رقم 10 ولافتات كثيرة أظهروا من خلالها حبهم وخوفهم كتب عليها: "دييجو الأرجنتين تحبك". "اصمد يا دييجو".
اضطرت الشرطة للوقوف خارج المستشفى وعمل مدخل للحماية ومنع الجماهير من الدخول.
قال ريسي: "قام العديد من الأرجنتينيين بإغلاق أجهزة الراديو والتلفزيون لديهم خوفا من سماع خبر يخشونه كثيرا". لكن مارادونا قاتل ونجى من الموت بأعجوبة.
وظهر في الوثائقي الخاص بمارادونا توضيحا أن معظم المقربين من مارادونا كانوا قد تخلوا عنه تماما لما أصبح عليه من بطل وطني إلى مجرد مهرج يتعاطى الكوكايين ويحرج نفسه ودوما.
وقال صوت أحد المتصلين عبر إذاعة راديو أرجنتينية: "اتركوه يموت، دعوه يقتل نفسه".
رحل ماردونا بعد ذلك إلى كوبا لكي يعالج نفسه من المخدرات وإدمانها، وكانت تلك أحد أغرب فترات حياته، إذ قام بصبغ شعره الأسود إلى برتقالي وظل في صحبة فيديل كاسترو رئيس الدولة وصديقه.
وقالت تقارير صحفية بعد ذلك إن مارادونا قام بالتبرع بكل إيرادات سيرته الذاتية لصالح شعب كوبا وكاسترو وذلك بعد إعجابه بـ"كرامتهم وأصلهم" فيما يخص نظام العلاج الصحي.
وخضع مارادونا بعد ذلك لعملية جراحية لإنقاص وزنه، في رحلة بدت غريبة للغاية لواحد من أفضل من لمسوا كرة القدم على الإطلاق.
وعلى الرغم مما حدث لمارادونا وما مر به من انكسار جاءت سيرته الذاتيه الأولى "أنا دييجو" والتي نشرت في سبتمبر عام 2000 في الأرجنتين ضمن أفضل الكتب مبيعا هناك، إذ أنه باع 125 ألف نسخة في أسبوع فقط.
وكانت أحد أشهر العبارات في تلك السيرة: "أنا مارادونا، بإمكاني أن أفعل ما يحلو لي".
وعلق ريسي قائلا: "حتى في أحلك أوقاته وإدمانه الكل كان يخبره قديما أنه عظيم، وفي تلك الجملة يبدو وأنه يصدق أنه كان ويعلم جيدا أنه ينهار".
مارادونا مثل نموذجا للاعب أتى من الفقر إلى الشهرة والثراء ثم تم وصمه بتعاطي المخدرات، وأفراد حراسته الخاصة لم يكونوا مدربين ومحترفين بل كانوا شبابا من بيونيس آيريس، واشتهر عن الطبقة الفقيرة هناك أنهم يتعاطون الكحول والكوكايين.
وفي عام 2005 استعاد مارادونا عرشه كملك لكرة القدم في كل مكان بقلوب عشاق اللعبة، حينما قام بعمل برنامجا تلفزيونيا وتحدث خلاله عن هدفه ضد إنجلترا في كأس العالم 1986، واعترف لأول مرة في التاريخ أنه ضرب الكرة بيده وأنه لم يندم قط على ذلك.
وصرح قائلا: "بيتر شيلتون حارس إنجلترا كان طويلا للغاية ولم يكن أمرا سهلا أن أسجل ضده برأسي فسجلتها بيدي، أرغب في أن أقول ذلك للأرجنتينيين وللعالم، لما لا؟".
وأضاف: "شيلتون بعد ذلك قال لي إنني سجلت هدفا غير صحيح، وقلت له لا يهمني لم أندم قط على تسجيل ذلك الهدف، وتعلمون أكثر من ذلك؟ سجلت واحدا مثله حينما كنت لاعبا لنابولي".
قصة حياة مارادونا كانت خليطا مختلفا من كل شيء، اعتراضات سياسية، فقر، ثراء، شهرة، مخدرات وإدمان وفضائح وكل شيء.
وبعد كل ذلك أتى تعيينه في عام 2008 كمدرب لمنتخب الأرجنتين وكانت المخاوف في عدد من الصحف أبرزها وأشهرها أوليه تقول: "دييجو يخاطر بإتلاف سمعته وأسطورته كمارادونا".
وأضافت: "لكن تلك هي أفضل لحظة وفرصة له، لأن رأسه صاف وهو قريب من اللاعبين ويحبونه كثيرا ولديه عام ونصف حتى كأس العالم".
ربما لم يقدم كأس العالم التي تناسب اسمه كمدرب وربما مسيرته التدريبية ليست حافلة لكنه استعاد صورته في قلوب الجميع كانت تلك نقطة اختلاف وتحول كبير في حياته للأفضل، إنه مارادونا.
المصادر :"أرشيف صحيفة إندبندنت - كتاب "أنا دييجو" - فيلم "مارادونا" - كتاب "إل دييجو: السيرة الذاتية لأعظم لاعب في العالم"