التاريخ: 31 أكتوبر 2001
المكان: منزل بينخامين ثاراندونا لاعب ريال بيتيس – مدينة إشبيلية – مملكة إسبانيا – كوكب الأرض
المناسبة: حفل الهالوين
كان المنزل ممتلئا عن آخره، فريق بيتيس بأكمله تقريبا في حفل -سيكون تاريخيًا بعد قليل- مصحوبا بأعداد كبيرة من النساء.
وعلى وقع الموسيقى الصاخبة والأجساد المتمايلة، تناثرت أكواب الخمر البلاستيكية وزجاجات البيرة في الطرقات والغرفات، وتناسى لاعبو بيتيس خسارتهم بثلاثية أمام برشلونة قبل يومين، وسقطت من أذهانهم مباراة ريال سرقسطة بعد 4 أيام (سيخسرونها أيضا بالمناسبة).
وفي لحظة حرجة من الحفل التاريخي، خرج بينخامين صاحب المنزل لتوديع إحدى الفتيات، فكرم الضيافة جعله حريصا على مرافقة السيدة إلى خارج المنزل.
كان بينخامين حاملًا في يده عددا لا يُحصى من أكواب الخمر، برفقته سيدة يبدو عليها أنها قضت وقتا ممتعا للغاية في الداخل، في تلك اللحظة تحديدا، توقفت سيارة أمام منزله.
تجمّد بينخامين، ارتعشت كؤوس الشراب في يده، اختفى كرم الضيافة من وجهه، وتمنى لو تنفجر الأرض وتبتلع ضيفته..
أبواب السيارة فُتحَت، وخرج منها الشخص الأكثر إثارة للجدل في تاريخ بيتيس: مانويل رويز دي لوبيرا.. رئيس النادي.
دي لوبيرا
قبل عامين ونصف تقريبا، في يوليو 1998، اهتز عالم كرة القدم، والسبب مجددا كان دي لوبيرا نفسه.
ليس لأنه فتح باب سيارته هذه المرة، وإنما لأنه فتح خزانة ريال بيتيس، وأفرج عن 30 مليون يورو (ما يعادل 5 مليارات بيسيتا إسبانية وقتها).
والمستهدَف من هذه الأموال الطائلة كان البرازيلي الممتع: دينيلسون، الذي لو وُجد "يوتيوب" في عصره لكان بطله الأول بمراوغاته الخارقة وفنياته العجيبة.
تمت الصفقة المدوية الأغلى في التاريخ –وقتها- عام 1997، وبعد مونديال فرنسا انضم دينيلسون إلى بيتيس بعقدٍ يمتد لـ10 سنوات كاملة، وبشرط جزائي يبلغ 65 مليون يورو!!
يقولون إن لويس أراجونيس مدرب الفريق حينها كان معترضا على الصفقة وإنه قال: "لو أتى دينيلسون، سأرحل".
لسنا متأكدين من حقيقة هذه المعلومة، كل ما نعرفه أن أراجونيس استقال بالفعل من تدريب بيتيس يومين فقط قبل الانضمام الرسمي لـ دينيلسون.
وعندما ضمه دي لوبيرا، كان مُنتظَرًا من دينيلسون أن ينقل بيتيس إلى أندية الصفوة في إسبانيا، ويحوّله إلى فريق صف أول.
كيف لا؟ وهو الذي راوغ كل من قابله في الدوري البرازيلي، دينيلسون امتلك موهبة خارقة في قدميه، ودي لوبيرا بدأ يحلم في إنجازات تُخلّد اسمه.
كان دي لوبيرا رئيسا نرجسيًا، مصابا بجنون العظمة، يتمنى لو يدور عالم كرة القدم حوله وحده، غيّر اسم ملعب الفريق وأطلق عليه دي لوبيرا خلال ولايته الطويلة، وأحضر دينيلسون ليس لأي غرض سوى أن ترتبط إنجازات النادي بعصره.
علاقته كانت غريبة بلاعبيه، يكون أبًا لهم في بعض الأحيان كما فعل مع خواكين سانشيز في حفل زفافه ودخل عليه حاملا كأس ملك إسبانيا التي فاز بها الفريق في نفس الصيف.
أو يهدده في مناسبة أخرى ببيعه إلى فريق ألباسيتي المتواضع عندما أراد خواكين الرحيل إلى فالنسيا.
بل حدث أن دي لوبيرا عيّن محققا خاصا لتتبع خواكين في شبابه أثناء خروجه للسهر ليلًا، وفي أحد الأيام ذهب دي لوبيرا إلى لاعبه وأخبره: "خواكين، توقّف عن الخروج كثيرا، المحقق أخبرني أنه لم ير عائلته منذ 5 أيام".
كان متسلطا، ليس لديه أي مانع في القيام بأي تصرف لنصرة كبريائه وكرامة ريال بيتيس، أحلامه كانت مهولة للغاية، وطموحاته دفعته إلى صرف مبالغ طائلة في استقدام اللاعبين.
لكن تلك الآمال انهارت على رأس دي لوبيرا، وفشلت صفقة دينيلسون، اتضح أنه مجرد لاعب مراوِغ وغير مُنتِج، لا يمكنه أن يغيّر من مصير نادٍ بأكمله.
يقول دينيلسون عن فترته في بيتيس: "انتقلت إلى بيتيس برقم غير منطقي في تلك الحقبة، كانت مشكلة، أرادوا مني تنفيذ الركلة الركنية وتسجيل الهدف في نفس الهجمة بنفسي".
"في البرازيل اللعب بطيء جدا، كنت أقدر على مراوغة 5 أو 6 لاعبين. لكن في إسبانيا هذا مستحيل، توجب أن أمرر الكرة سريعا، وقد احتجت إلى وقتٍ لأفهم ذلك".
عند رحيله عن بيتيس عام 2005، لم يكن دينيلسون قد سجل سوى 12 هدفا في 165 مباراة.. فشلت الصفقة.
وعلى وقع مراوغات دينيلسون غير الناجحة، وقفت في المدرجات السيدة كونثيبثيون أندرادي تسب وتلعن.
جدة بيتيس
في الغالب، تكون دقائق الحداد قبل المباريات، تكريمًا للاعبين أو مدربين أو إداريين سابقين.
لم يكن ذلك الوضع خلال مباراة ريال بيتيس وسبورتنج خيخون في 2017 عندما صمت ملعب بينيتو فيامارين انتحابًا على الجدة كونثيبثيون التي توفيت عن 92 عامًا.
اشتهرت بشدة كونثيبثيون خلال التسعينيات، والتقطتها الكثير من الكاميرات وهي تمارس هوياتها المفضلة: سب ولعن حكام مباريات بيتيس.
مع مرور السنوات، وحضورها الدائم في مدرج الدرجة الثانية، تحوّلت "جدة بيتيس" إلى رمز للنادي، يهتف لها الجمهور ويناديها لتحيتها كما لو كانت من نجوم الفريق، حتى أن الإدارة أظهرتها في الإعلان الترويجي لمشاركة بيتيس في دوري أبطال أوروبا عام 2005.
وصحيح أن كونثيبثيون توفيت قبل سنوات، لكن روحها تنبض في جسد كل مواطن أندلسي إشبيلي.
تلك المدينة الحارة للغاية، تمتلأ بالآثار الإسلامية والمسيحية على حدٍ سواء، يقطعها نهر جوادالكيبير (تنحدر تسميته في الأصل من العربية: الوادي الكبير)، ويشتهر فيها حي "تريانا" برقص الفلامنكو على هيئته الأصلية.
لكن ليست آثار إشبيلية وشوارعها الخلّابة وأحيائها الموسيقية وطعامها الشهي هي أسباب تميُز تلك المدينة؛ وإنما شعبها.
حتى أكتب هذا التقرير، وعن طريق صديق مشترك بيننا، تواصلت مع أنطونيو باوتيستا، وهو مُشجِع لـ بيتيس من قبل أن يتعلّم الكلام.
سألته عن دينيلسون، فأخبرني كيف جاء بآمال كبيرة ورحل في صمت. وسألته عن لوبيرا، فحدّثني كيف قاتل هذا الرجل من أجل بيتيس، ثم غادر بعد سنوات من الباب الخلفي. فرميت له اسم خواكين سانشيز، فاستعاد ذكريات مراوغته الأولى بقميص بيتيس قبل 20 عامًا وانهال عليه بالأوصاف الإلهية والأسطورية.
وبينما كان أنطونيو يتحدث عن شغفه الأول، منهمكا في الإجابة عن أسئلتي، لم أستشعر سوى الوِد الأندلسي والحميمية الإشبيلية.
هذا الشعب الإسباني الجنوبي، تجري في عروقه الدماء الساخنة تمامًا كما الطقس، لكنه يفتح ذراعيه للغرباء، يستقبلهم كالأصدقاء، يحييهم كما لو كانوا أصحابًا للمدينة التراثية العريقة.
هذا المزيج الإنساني الأثري، يخلق مُشجعا لا يُقهَر، يركض خلف فريقه حتى لو كانت الهاوية وجهته.
"فليحيا بيتيس حتى عند الهزيمة".. شعار تردده جماهير بيتيس كما لو كان قد ذُكر في كتاب مقدس.
تتبّعته، بحثت عن أصله، متى قيل للمرة الأولى، فجاءت الصدمة، لقد وُجد هذا الشعار وبدأ ترديده خلال خمسينيات القرن الماضي، وقتما لعب بيتيس في دوري الدرجة الثالثة للمرة الوحيدة في تاريخه!
فليحيا بيتيس، حتى عند الهزيمة، أو حتى عندما يسجل برشلونة هدفا لتوه في ملعب كامب نو وسط 100 ألف مشجع، تلك الفكرة التي رُسخّت في ذهن الطفل أوجو.
لقطة جماهيرية شهيرة جدا ترجع إلى مواجهة برشلونة وبيتيس عام 2018 التي فاز بها الفريق الأندلسي 4-3 (كيكي سيتيين كان المدرب الذي قهر برشلونة).
يظهر في اللقطة طفل يدعى أوجو، وُلد بعد السيدة كونثيبثيون بأكثر من ثمانين عامًا، لكنه يشاركها كل شيء، يشاركها في إحياء بيتيس حتى عند الهزيمة.
برشلونة كان قد سجّل هدفا وبات في طريقه للعودة إلى المباراة، عندما وقف أوجو يغني:
"نتواجد هنا جميعا لترديد أغنيتك
نحتشد مثل المَدَافِع
لا أحد يمكنه التغلُب على هذا الجمهور
حتى لو كنت الأخير، فإننا دوما نراك بطلًا
الآن يا بيتيس الآن، لا تتوقف عن الهجوم..
الآن يا بيتيس الآن، لأن الهدف سيأتـــ.........."
ولم يكمل أوجو المقطع الأخير في أغنية بيتيس، لأن الهدف أتى بالفعل!
Marca el Barça el 1-2. El Camp Nou se viene arriba y empieza a animar, pero Hugo no se calla, arranca de nuevo a animar al Betis hasta que llega el gol de @LoCelsoGiovani 1-3. Eufória!!!! Siempre creímos en ti @RealBetis 💚#BarçaBetis pic.twitter.com/czkmYLBscb
— Jcandrade (@jcandrade_m) November 11, 2018
هذه الضحكات الطفولية الأليفة للطفل أوجو مع والده، كانت غذاءً لروح ميكي روكي.. الذي يراقب هناك من الأعلى.
ميكي روكي
بعد أن رفعت إسبانيا لقب يورو 2012، ترجّل بيبي رينا في الملعب حاملا أطفاله، وواضعًا قميص ريال بيتيس في تصرُف لم يفهمه الكثيرون.
فـ رينا لم يسبق له أبدا اللعب لـ بيتيس، ولا تربطه أي صلة بهذا النادي الأندلسي.
لكن حتى نجد حل هذا اللغز، علينا العودة 6 سنوات إلى الخلف، لنصل إلى الشوط الثاني من مباراة ليفربول وجالاتا سراي في ديسمبر 2006 ضمن منافسات دوري أبطال أوروبا.. ودخول الشاب ميكي روكي بديلا لـ تشابي ألونسو في صفوف الإنجليز.
في تلك اللحظة، بات روكي أصغر لاعب يشارك بدوري أبطال أوروبا حاملًا قميص ليفربول على مر التاريخ.
روكي لم يكمل مسيرته في ليفربول كما بدأها، وإنما تنقّل في أندية صغيرة أخرى، حتى وصل إلى بيتيس عام 2009، وتم تصعيده للفريق الأول في العام التالي.
حياة ميكي روكي كانت طبيعية، شاب في الثالثة والعشرين من عمره يمارس كرة القدم في أحد أعرق أندية إسبانيا.. حتى شعر بألم بظهره في مارس 2011.
أجرى روكي فحصا روتينيًا، ولم يتوقع أبدا أن تكون نتيجته أنه مصاب بالسرطان!
يقول دكتور توماس كاليرو طبيب ريال بيتيس عن اليوم الذي خرجت فيه نتيجة الفحوصات: "كانت أسوأ لحظة في مسيرتي المهنية، شعرت بالتردد إن توجب عليّ إخباره وجها لوجه أم لا، كان يوما مريعا".
"دكتور أوريليو سانتوس جرّاح العظام من وحدة الأورام هاتفني وأخبرني أنه ورم خبيث. طلبت مساعدته في إخبار ريكي بالنبأ، لأنه كان أكثر اعتيادًا مني على ذلك، أنا لم أكن قد أخبرت أحدا في حياتي بهذا النبأ من قبل".
"ميكي حضر معتقدًا أننا سنخبره أنه لا يعاني من خطب، وعندما أطلعه دكتور أوريليو، استقبل ميكي النبأ ببرود".
"لم يفهم أي شيء مما قلناه، الشيء الوحيد الذي سأل عنه هو موعد عودته لممارسة كرة القدم".
"اللحظة الأسوأ كانت عندما نظر إليّ واحتضنني، وعندها بدأنا في البكاء سويا.. شهدتُ نهاية مسيرة الفتى".
"لم أتخيل أبدا أنه سيموت".
"بعد ذلك، في كل مرة زرته فيها، كنت أجده مفعما بالإيجابية، أعتقد أن الأسطورة العظيمة التي خلقها كانت بفضل شخصيته وكيف تعامل مع مرضه حتى وفاته".
قاوم ميكي السرطان لأكثر من عام، حتى توفي في 24 يونيو 2012، أثناء مشاركة بلاده إسبانيا بمسابقة اليورو وتتويجها بها.
ميكي روكي، وعندما ضربه المرض الخبيث، تمنى أمنيتين اثنتين: الأولى أن يعود يوما ما لممارسة كرة القدم، والثانية أن ينهي كتابة سيرته الذاتية.
أمّا الأولى، فلم تتحقق أبدا، وأمّا الثانية، فإنه توفي قبل أن يتممها.
لكن بمساعدة الأهل والأصدقاء، تمكّن الكاتب خوان مانويل لوبيز من إنهاء الكتاب ونشره في مارس 2015.. بعد 3 سنوات من وفاة ميكي، تحققت أمنيته!
"لماذا يجب على المرء أن يعيش خائفا من أن يخطئ؟ الفشل يجب أن يكون حتميًا. من الضروري أن تنزلق من حين لآخر لكي تتعلم".
"وفي ماذا يهم الغد إن لم تستمتع باليوم؟ في ماذا يهم القدر إن لم يعرفه أحد؟ وحتى تكتشفه عليك أن تواصل التقدُم".
"الدموع ليست مصدرها الجسد، وإنما الروح، الدموع تصف ما هو غير مرئي، إنها الحروف التي يستخدمها القلب لسرد قصته".
_من كتاب السيرة الذاتية لـ ميكي روكي.
بعد وفاته، حجب نادي ريال بيتيس الرقم 26، لم يرتده أي لاعب منذ ذلك الحين.
المأساة توّحدُنا في الدربي الكبير
عندما فاز إشبيلية بالدوري الأوروبي 2020 للمرة السادسة في تاريخه، سارعت كل أندية إسبانيا بإطلاق تغريدات التهنئة عبر تويتر.
بيتيس لم يكن استثناءً، وكتب بدوره تغريدة التهنئة، لكن بفارق بسيط فقط عن البقية.. لقد أغلق خاصية التعليق.
El #RealBetis felicita al @SevillaFC por la consecución del título de la @EuropaLeague.
— Real Betis Balompié 🌴💚 (@RealBetis) August 21, 2020
هل تعرفون النظرية الطبقية الخاصة بـ كل دربي في العالم تقريبا؟ تلك التي تُفرّق بين بوكا جونيورز وريفر بليت في الأرجنتين، أو تدفع دييجو سيميوني إلى استفزاز ريال مدريد في العاصمة مدريد.
نفس النظرية لا تختلف كثيرا في مدينة إشبيلية، فالنادي الذي يحمل اسم المدينة –إشبيلية- هو نادي الأثرياء، أما الكادحين العاملين، فيساندون بيتيس بقلوبهم وحناجرهم.
بل تمتلك أغلب جماهير بيتيس داخل عقولها نظرية مؤامرة تتوارثها الأجيال، أن إشبيلية يحظى برعاية مؤسسية وسياسية أكبر، لدرجة عدم وصول خط مترو الأنفاق مثلا إلى جنوب المدينة حيث يقع ملعب بينيتو فيامارين الخاص بـ بيتيس.
كلاهما يمتلك لقب دوري واحد في تاريخه، وكلاهما توج بأول ألقابه المحلية في نفس العام: 1935.
تتشابك مصائرهم وتتقاطع وتتعارض، فعندما احتفل إشبيلية بمئويته عام 2005، كايده بيتيس وتوج بكأس ملك إسبانيا وصعد إلى دوري أبطال أوروبا.
وعندما احتفل بيتيس بالمئوية في 2007، انفجر إشبيلية، ففاز بالدوري الأوروبي، والكأس، وكأس السوبر، ونافس على الدوري حتى الجولة الأخيرة.
والوقوف على سبب صريح ومباشر للعداوة بينهما لهو من المهام الشاقة، وتحتاج إلى غوص عميق في التاريخ للنبش عن أصل الندية.
ربما هو ما حدث في 10 مارس 1918 عندما فاز إشبيلية على ريال بيتيس بنتتيجة 22-0!
نعم، هذا ليس خطأ مطبعيا، النتيجة كُتبت بشكل صحيح، والمباراة كانت تابعة لبطولة إقليم الأندلس، وكانت فصلا مبكرا للغاية في العداوة بين إشبيلية وبيتيس وترسيخا لنظرية المؤامرة في أذهان الخُضر.
ما حدث وقتها أنه قبل المباراة بأيام قليلة، أصدر النقيب العام للمنطقة العسكرية الثانية، قرارًا بمنع اللاعبين المجندين من ممارسة كرة القدم خلال فترة تجنيدهم.
قرارٌ يبدو عابرًا، لكن ليس مع بيتيس الذي كان أهم لاعبين في فريقه: كاندا، وأرتولا، يؤديان الخدمة العسكرية، مما يعني حرمانهما من المشاركة في الدربي الكبير.
بيتيس بالطبع تعامل مع القرار بصفته موجها لضربه ولمحاباة إشبيلية، وكبادرة اعتراض، أرسلت إدارة بيتيس فريقا من الأطفال لمواجهة إشبيلية الذي لم يكن أفراده رحماء على الإطلاق، وكبّدوا عدوهم هزيمة تاريخية مُذلة.
وإذا كان 22 هدفا غير كفيلين بخلق عداوة يحفظها الزمان، فما حدث خلال الأربعينيات لعله كان كافيًا.
فرانسيسكو أنتونيز، كان مدافعا في بيتيس، وكان نجمه الأهم واسمه الأبرز على الرغم من مركزه.
حينها كان بيتيس يعيش أسوأ سنوات تاريخه، مهددا بالإفلاس، ويصارع حتى لا يسقط إلى الدرجة الثالثة.
لتأتي الطعنة، وينتقل أنتونيز في صفقة جدلية قانونيًا إلى الغريم إشبيلية.
وفي موسمه الأول مع إشبيلية، فاز أنتونيز بلقب الدوري الإسباني، كما حقق لاحقا كأس ملك إسبانيا لاحقا، وشارك مع بلاده في كأس العالم.
وبينما عاش أنتونيز سنوات زاهية من مسيرته، حلت الكارثة بـ بيتيس، وهبط إلى الدرجة الثالثة للمرة الوحيدة في تاريخه، فتحوّل أنتونيز إلى شيطان خائن، ولم تسامحه جماهير بيتيس أبدا.
بعد نصف قرن، عام 1994 تحديدا، توفي أنتونيز، وللمصادفة، فقد شهد اليوم التالي مباراة بين بيتيس وإشبيلية.. في ذلك اليوم، رفض الرئيس دي لوبيرا وقوف دقيقة حداد على روح الخائن أنتونيز.
وأنتونيز لم يكن اللاعب الوحيد الذي جرّده إشبيلية من بيتيس، بل الجامبي بيري بيري أيضا.
أحد أعظم اللاعبين الأفارقة في حقبة السعبينيات، استقل الطائرة من الدنمارك صوب إسبانيا عام 1973، لينتقل من فريق B 1901 إلى بيتيس.
على الطائرة صادف أن جلس بيري بيري إلى جوار شخص إسباني يُدعى خوان رامون رودريجيز، كان مهاجرا يقيم في الدنمارك، والأهم أنه كان مشجعا متعصبا لـ إشبيلية، وكان يعرف بيري بيري.
عندما أدرك رامون رودريجيز أن الجناح الجامبي السريع في طريقه للانتقال إلى العدو بيتيس، بدأ في إقناعه بتغيير المسار والتواصل مع إدارة إشبيلية، وهو ما تم.
عندما هبطت الطائرة، لم يكن بيتيس من ظفر بخدمات بيري بيري، بل إشبيلية، ليصير أول لاعب أسود البشرة في تاريخ النادي، ويقضي 5 سنوات رائعة في صفوفه، لدرجة أن أحد الروابط الجماهيرية للفريق تأسست وحملت اسمه تكريما له.
في يوليو 2020، توفي بيري بيري، وتلقى نعيا شديدا وكتبت عنه الأقلام والصحف، لكن بصفته أسطورة لـ إشبيلية.. وليس أبدا لـ بيتيس الذي كان وجهته الأصلية في الأساس.
حرب 2007
أكمل بيتيس 100 عام من الوجود في 2007، والرئيس دي لوبيرا لم يكن ليفوّت هذه المناسبة دون الترويج لصورته الشخصية.
رئيس بيتيس أقدم على عادة غريبة خلال ذلك الموسم، بإهداء كل الفرق الزائرة تمثال نصفي منحوت له، احتفالا بمئوية النادي.
سارت الأمور على ما يرام حتى جاء الغريم إشبيلية لزيارة بيتيس، يومها رفض خوسيه ماريا دل نيدو رئيس إشبيلية تسلم التمثال النصفي لغريمه.. فاستشاط دي لوبيرا غضبا.
أصدر دي لوبيرا قرارا بمنع دل نيدو من دخول مقصورة كبار الزوار في ملعب ريال بيتيس.
التقا الفريقان في كأس ملك إسبانيا بشهر فبراير، وكان دي لوبيرا مصمما على تنفيذ قراره، لكن الاتحاد الإسباني وحكومة الأندلس تدخلا لإقناع دي لوبيرا بالتراجع.. وهو ما تم، لكن بشرط واحد.
سمح دي لوبيرا لـ دل نيدو بالجلوس في المقصورة الرئيسية، لكنه وضع التمثال النصفي في الكرسي الموجود خلفه نكاية فيه.
في تلك المباراة، وصل التوتر أقصاه، لدرجة أن السلطات الأمنية نصحت جماهير إشبيلية بعدم الارتحال إلى ملعب ريال بيتيس بسبب الموجات العدائية المرتقبة.
جماهير بيتيس ألقت من المدرجات كل شيء يومها: قداحات، عملات معدنية، زجاجات، مسامير.. بالإضافة إلى إصدار أصوات القردة كلما لمس لاعب إشبيلي أسود البشرة الكرة.
في الدقيقة 57 كان المشهد الختامي للمباراة، سجّل فريدريك عمر كانوتيه الهدف الأول لـ إشبيلية، وفتح أبواب الجحيم على فريقه.
دل نيدو رئيس إشبيلية تلقى عملة معدنية في أنفه أثناء جلوسه بالمقصورة الرئيسية.
أمّا خواندي راموس مدرب إشبيلية –والمدرب السابق لـ بيتيس-، فتلقى زجاجة بطول 2 لتر في رأسه من المدرجات، أسالت الدماء من رأسه وأفقدته الوعي مباشرةً.
الحكم ألبيرتو أونديانو مايينكو أوقف اللقاء فورا ولاعبو إشبيلية غادروا الملعب.
تم استكمال المباراة بعد 20 يوما في ملعب كوليسيوم ألفونسو بيريز بالعاصمة مدريد، ولم تسفر عن جديد، وظل إشبيلية متفوقا بهدفٍ دون رد، ليودع بيتيس الكأس في عامه المئوي على يد غريمه التقليدي.
وصحيح أن العداوة تفرّقهما وتجعل مبارياتهما مليئة بالصراخ والدماء، لكن المأساة توحدهما.
قبل 5 سنوات من وفاة ميكي روكي التراجيدية، فقد إشبيلية بدوره أحد أفراده: أنطونيو بويرتا.
سقط بويرتا صريعا في الملعب خلال مباراة أمام خيتافي، وترك جرحا أبديا في أنفس جماهير إشبيلية.
وبينما يمتلأ الدربي الكبير بالاختلافات، يتفق بيتيس وإشبيلية في نهاية اليوم على الانتحاب على فقيديهما الشابين: روكي وبويرتا.
دون باتريثيو
في عام 1932 تعاقد ريال بيتيس مع المدرب الأيرلندي باتريك أوكونيل لقيادته إلى الدوري الإسباني الممتاز، لم يدركوا أنه سيقودهم للفوز بالدوري الممتاز نفسه وليس مجرد الوصول إليه.
أوكونيل كان لاعبا سابقا في مانشستر يونايتد، حضر إلى إسبانيا عام 1922 لتدريب راسينج سانتاندير وقضى معه الكثير من السنوات، قبل أن يقود ريال أوفييدو لبعض الوقت، ثم انتهى به المطاف في بيتيس.
كان "دون باتريثيو" كما لُقب في إسبانيا مدربا ثوريا، فقد ركز على الجوانب البدنية والانضباط داخل وخارج الملعب.
أوكونيل منع لاعبيه من التدخين، وهي عادة كانت ملازمة للاعبي كرة القدم حتى وقت قريب من القرن العشرين.
غيّر أوكونيل تماما من ثقافة اللاعبين الإسبان، ونفّذ مصيدة التسلل لأول مرة في إسبانيا، وامتازت فرقه بالصلابة الدفاعية الشديدة في عصر كان الهجوم فيه هو سمة كرة القدم.
قاد أوكونيل بيتيس إلى الدوري الممتاز، واحتاج إلى عامين فقط في الدرجة الأولى حتى يحصد للفريق لقب الدوري الوحيد في تاريخه عام 1935.
دخل بيتيس وقتها في منافسة شرسة مع ريال مدريد حتى الجولة الأخيرة التي وللصدفة، كانت مواجهة الفريق الأندلسي فيها مع راسينج سانتاندير –فريق أوكونيل الأسبق-.
يروي الصحفي جيمي بيرنز في كتابه: "دون باتريثيو أوكونيل.. رجل أيرلندي وسياسة الكرة الإسبانية"، واقعة حدثت ليلة مباراة الجولة الأخيرة بين راسينج وبيتيس.
يزعم بيرنز أن أوكونيل ذهب إلى مقر إقامة راسينج ليلة المباراة وتناول معهم كأسين من الشراب.
راسينج كان يحتل مركزا متأخرا ولا ينافس على أي شيء، فقال أوكونيل للاعبيه السابقين: "ليس لديكم ما تلعبون عليه غدا، أنتم لن تقتلوا أنفسكم في الملعب، أليس كذلك؟".
لكن الإجابة فاجأته: "معذرة يا مستر، لكن ريال مدريد يريدنا أن نفوز، ورئيسنا خوسيه ماريا كوسيو مشجع لـ ريال مدريد، ووعدنا بـ ألف بيسيتا حال فوزنا غدا".
رغم ذلك، وفي يوم السبت 28 أبريل 1935، سحق بيتيس مضيفه راسينج بخماسية نظيفة، ليتفوق على ريال مدريد بفارق نقطة واحدة، ويحقق لقب الدوري الأول والأخير في تاريخه.
بيتيس استقبل في ذلك الموسم 19 هدفا فقط في 22 مباراة، وهو رقم لافت في ذلك الزمن. على سبيل المثالي، في الموسم التالي فاز أتليتك بلباو باللقب واستقبلت شباكه 33 هدفا.
ما فعله أوكونيل مع بيتيس يشبه ما فعله بريان كلوف في نوتنجام فورست، لكنه سبقه فقط بأربعين عاما.
الملعب الذي توج عليه بيتيس هو الساردينيرو القديم الذي تم هدمه لاحقا وتحوّل إلى حديقة.
لكن تُرك جزء صغير من منطقة الراية الركنية، يحج إليها عشاق ريال بيتيس عندما يزورون إقليم كانتابريا في أقصى الشمال.
حفل الهالويين
...تجمّد بينخامين، ارتعشت كؤوس الشراب في يده، اختفى كرم الضيافة من وجهه، وتمنى لو تنفجر الأرض وتبتلع ضيفته..
أبواب السيارة فُتحَت، وخرج منها الشخص الأكثر إثارة للجدل في تاريخ بيتيس: مانويل رويز دي لوبيرا.. رئيس النادي.
كان دي لوبيرا قد تلقى مكالمة من محققه الخاص، يخبره عن حفل صاخب أقامه لاعبو الفريق في منزل بنخامين.
لم يصدق دي لوبيرا وظن أن الإخبارية أكذوبة أو تحمل قدرا من المبالغة، فاتجه على الفور إلى منزل بنخامين واصطحب معه خواندي راموس مدرب الفريق.
كان بيتيس قد عاد لتوه للدوري الإسباني الممتاز قبل عدة أسابيع، ولم يتقبّل دي لوبيرا أي نوع من التهاون.
عندما اقتحم دي لوبيرا المنزل، وجد قدرا هائلا من الحضور، وفتيات عاريات يرقصن على وقع الموسيقى الصاخبة، وأريكتين مردومتين بأعقاب السجائر.
البرازيلي دينيلسون مات رعبا وحاول القفز من النافذة وظل يصيح: "لو رآني دي لوبيرا، لن يدفع لي راتبي".
اللاعبون السكارى ظنوا أن رؤيتهم لرئيس النادي في الحفل بفعل تأثير الخمر على عقولهم، وأنه ليس موجودا حقا.
يتذكر بينخامين ما حدث في منزله مطلع الألفية: "الحفل كان قد خرج عن السيطرة بسبب حضور أعداد أكبر من المتوقع حضورها".
أمّا دي لوبيرا، فيسترجع ما حدث بعدما صار ذكرى كوميدية: "عندما رآني بينخامين، انقلب لونه إلى الأبيض فجأة وصرخ، وبدأ الناس في الخروج من المنزل".
"دينيلسون حاول القفز من النافذة، وبعدها ظل يرتعش، والكثير من اللاعبين اختبأوا خلف الستائر".
خواكين سانشيز قائد بيتيس الحالي يروي أيضا ما حدث بخفة دمه المعتادة: "كان هناك 200 شخص في الحفل، وكنا نقضي وقتا رائعا حتى وجدنا بنخامين يركض صاعدا الدرج ويتساءل عمن قام بدعوة دي لوبيرا!".
في نهاية ذلك الموسم، أنهى بيتيس الدوري في المركز السادس وتأهل إلى مسابقة الدوري الأوروبي.. على ما يبدو، انعكس الحفل بشكل إيجابي على أداء لاعبي بيتيس.
مصادر: