كتب : زكي السعيد
على قمة إفرست الشاهقة، بالتحديد 8848 مترا فوق سطح البحر، تنخفض درجات الحرارة إلى -36 تقريبا في فصل الشتاء، ويصبح التنفس أقرب إلى المستحيل.
وتعرف الكرة الأرضية عموما، 14 قمة جبلية تتجاوز في ارتفاعها الثمانية آلاف متر، لم ينجح في تسلقها جميعا أي شخص حتى العام 1986، عندما فعلها الإيطالي رينهولد ميسنر.
أفنى ميسنر 16 عاما من حياته حتى يتمكن أخيرا من تحقيق الإنجاز الذي لم يسبقه إليه أحد.
إنجاز ميسنر الخارق، فتح الطريق أمام العديد من المحاولات في السنوات التالية، ليصل إجمالي الصعدات الناجحة على الـ14 قمة إلى 43 متسلقًا.
لكن، حتى العام 2010، 24 عامًا بعد إنجاز ميسنر، لم تنجح أي سيدة في تسلق القمم الأربعة عشر.
إفرست، كيه تو، كانجتشنجونجا، لوتسي، ماكالاو، تشو أويو، داولاجيري، ماناسلو، نانجا باربات، أنابورنا، جاشربروم 1، برود بيك، جاشربروم 2، شيشابانجما.. تلك هي القمم الأربعة عشر التي يزيد ارتفاعها عن 8 آلاف متر.
وبعيدا عن سلسلة جبال الهيمالايا، في إقليم الباسك الإسباني، وُلدت إدورني باسابان عام 1973، 3 سنوات فقط بعدما بدأ ميسنر محاولته الخارقة في تسلق كل القمم الجبلية.
درست إدورني الهندسة، لكنها امتلكت هواية جانبية بتسلق القمم الجليدية، وبالرغم من وصولها إلى قمة إفرست في 23 مايو 2001، فإنها لم تكن محترفة بالكامل.
بحلول صيف 2005، كان إدورني قد تسلقت 8 قمم بالفعل، قطعت أكثر من نصف الطريق.. وكادت ألا تكمله.
في بدايات العِقد الرابع من عمرها، أصيبت إدورني بالاكتئاب، أو لعله لازمها لسنوات وظل خامدا حتى انفجرت فوهته.
تقول إدورني: "الناس لم يفهموا كيف لشخص قادر على تسلق أعلى قمم الجبال، أن ينتهي به المطاف مُكتئبًا، لكنه مرض يمكن أن يصيب أي شخص، وحتى أعظم بناء يمكنه الانهيار".
"لكن العقل هو شيء لا تتحكم فيه، يمكن أن أمتلك الكثير من القوة لتحدي الجبال الشاهقة وتسلقها، ثم لا أمتلك أي قوة لمواجهة الحياة الحقيقية".
في شتاء 2005\2006، انهارت إدورني، وأقدمت على الانتحار.. وكادت أن تنجح.
"بحثت على الإنترنت كيفية الانتحار دون ألم، ولم أناقش الأمر مع أي أحد قبل الإقدام عليه، في تلك اللحظات، لا تكون مسيطرا على نفسك".
"كنت منخرطة في تحدٍ كبير بتسلق القمم الأربعة عشر، لكني لم أكرّس نفسي له بشكل احترافي. كنت أعمل في مطعم، وأبلغ 31 عامًا، وعندها بدأت أتساءل: ماذا أفعل في حياتي؟ لم أمتلك وظيفة ثابتة مثل أصدقائي الذين تزوجوا بالفعل ولديهم أطفال، حتى أنني لم أكرس نفسي للعمل بشهادتي (الهندسة)".
"كل ذلك كان مصحوبا بانفصال عاطفي، وفي النهاية تملّكني المرض، لأني لم أستطع العثور على إجابات لما أفعله في حياتي".
"في نهاية العام 2005 انتكست بشدة، تملكني الكثير من الكرب والقلق.. المشكلة أنه مرض غير ملموس، لا يمكنك أن ترصد ما تمر به، ولا تستطيع أن تحكُم بنفسك على الفارق بين الحزن والاكتئاب، والأمر كان يزداد سوءا".
"وقعت في ثقب أسود، وفي يومٍ ما انفجرت، وقررت طلب المساعدة من أبي وأمي".
فوجئ الأهل بطلب النجدة، كانوا يرون ابنتهم حزينة، ملازمة لفراشها في أيام عدة، لكنهم أبدا لم يدركوا أنه في أمس الحاجة إلى مساعدة طبية عاجلة.
"أهلي قرروا إيداعي في مستشفى للأمراض النفسية، فوجئوا بالطبع في البداية عندما أخبرتهم، فالأمر لم يكن سهلا عليهم، لكن بعد استشارة أحد الأطباء، قرروا أن أدخل المستشفى".
"دخلت المستشفى لمدة شهرين، ثم خرجت.. وحاولت الانتحار".
تناولت إدورني بعض العقاقير بحثًا عن موت سريع وغير مؤلم، فقط أرادت أن توقف الضوضاء الثائرة في رأسها، حلمت ألا تستيقظ مجددا لكي تتوقف عن مجابهة هذا العذاب.
"يحل عليك وقت لا تستطيع معه تحمُل الألم، وتبدأ في البحث عن وسيلة لإيقافه، وتلك الوسيلة هي اقتلاع حياتك، أنت لا تستهدف الموت حقا، وإنما فقط تبحث عن وسيلة لإيقاف هذا الألم".
"الوضع كان سرياليًا، دخلت المستشفى يوم 6 يناير 2006 بعد أن قضيت فترة أعياد الميلاد في تسلُق جبال الألب مع أسيير ابن عمي، وفجأة عدت إلى أرض الواقع وانتكست للغاية، بعد يومين فقط من تسلُق أعلى قمم الجبال، وجدت نفسي في المستشفى، لم أدر ما يجب علي فعله، هل أبكي أم أصرخ، لم أدر ما يحدث لي".
"شعرت بالعار لدخولي المستشفى من أجل غسيل معدتي، ولاضطراري إلى المرور بكل ذلك".
تنتقل إدورني في حديثها إلى المرحلة التالية، التعافي، أو تلمثس طريق التعافي، فالتعافي الكامل قد يُنشَد لكنه لا يُحصَّل أبدًا!
"تلقيت مساعدة كبيرة من الأطباء، كما أن الأدوية تساعد كثيرا، وعائلتي وأصدقائي تفهموني واحتضنوني وساعدوني على إيجاد طريقي، كنت محظوظة جدا".
"الآن لا أشعر أنني أكثر قوة، لكن ما تغيّر في شخصي أنني صرت أقيّم الأمور بشكل مختلف".
"رأيت الموت بالفعل يحصد أصدقائي، والموت كان قريبا مني دوما في حياتي بكل ما اختبرته من اكتئاب ومحاولات انتحار وخسارة الأصدقاء في الجبال، هذه الأمور جعلتني أتغيّر".
"الآن أشعر أنني أفضل، أعيش اللحظة، لكن خروجك من الحفرة السوداء لا يعني أنك لن تعاني أبدا بعد ذلك".
لكن، ما هي الإشارات التي يجب أن تدق ناقوس الخطر؟ كيف يدرك الإنسان أن الاكتئاب يشهر أسلحته قبل فوات الأوان؟ تواصل إدورني حديثها، موضحة كيف صارت هي الطرف المسيطر في حربها مع المرض النفسي.
"الآن أمتلك أسبقية على المرض، أعرف نفسي جيدا، عندما تتحول الإشارة إلى اللون الأصفر، فإني أتنبّه لما يحدث، مثلما أواجه صعوبات في النوم أو ينتابني القلق مثلا، هنا أعرف أن هناك خطب ما".
"لذا من المهم جدا أن نتحدث مع من حولنا ونجعل مرضنا معروفا".
لم تتسلق إدورني أي قمة جديدة طوال العام 2006 الذي شهد انتكاستها الكبرى.
لكنها همت وقوفًا في العام التالي، وتسلقت قمة "بورد بيك" البالغ ارتفاعها 8051 مترا، عام ونصف فقط بعد محاولة انتحارها الفاشلة.
بحلول 17 مايو 2010، تسلقت إدورني كل القمم الجبلية الأربعة عشر الشاهقة حول العالم، وباتت أول امرأة على الإطلاق تحقق إنجازا مماثلا!
"قررت مشاركة تجربتي لأني أعتقد أنني قادرة على مساعدة الناس الذين يمرون بما مررت به. الشخص المصاب بالاكتئاب يعتقد أنه الوحيد الذي لديه هذا المرض، لكن هذا ليس حقيقيًا".
"أعرف أناس كثر يبدون في وضع رائع، لكن الحقيقة أنهم يعيشون أوقاتًا صعبة. لو أزلنا وصمة العار من الاكتئاب، وأثبتنا أنه يمكن أن يصيب أي شخص، فوقتها أظن أننا قادرين على مساعدة الكثيرين".
"علينا دفع الشبان إلى طرق الأبواب وألا يشعروا بالعار لطلب المساعدة، المرض النفسي يقتل الكثير من الناس بالفعل".
"القليل للغاية قيل عن الاكتئاب، الكثير من الناس يخشون الإفصاح عن اكتئابهم، ويتم ربط المرض النفسي دوما بالجنون".
"كما أن الناس يخجلون من تعاطي الأدوية المضادة للاكتئاب، لكنها مجرد أدوية مثل حبوب الغدة الدرقية".
"هناك عبارات تقليدية لا تساعد على الإطلاق، مثل: (انت تمتلك كل شيء)، (لديك أفضل حياة في العالم)".
"رسالتي هي: لو أردتم الخروج من ذلك، فعليكم بطلب المساعدة".
الهاوية في اللغة العربية هي أخدود أو شرخ عميق في القشرة الأرضية، وهي أسفل جزء في جهنم، وهي حفرة غامضة من العسير مغادرتها.
وإدورني باسابان لم تكتف فقط بتسلُق القمم الأربعة عشر العظمى حول العالم، بل تسلقت الهاوية، هاوية النفس البشرية.
اقرأ أيضا:
تطور جديد في وصول بنشرقي وأوناجم إلى مصر
حين عاد لاعبون من "تحت الدش" لإكمال مباراة
كيف حول أرتيتا فوضى أرسنال إلى فريق بطل
صدفة غريبة بين الزمالك والعشري