يوم 8 مايو الماضي، وفي الرابعة والسبعين من عمره، تنقل العجوز في شوارع حي بيلجرانو بمدينة روساريو الأرجنتينية، ممتطيًا درجاته الهوائية الجديدة.
فجأة، باغته شاب ملعون، هاجمه وضربه ودفعه عن دراجته، ثم سرقها وفر بها هاربًا.
أما بطلنا العجوز، فسقط على حافة الطريق، واصطدم رأسه بالأرض بقوة، وعندما بدأ الناس في الاقتراب لمساعدته وتعرّفوا عليه، صرخوا قائلين: توماس كارلوفيتش!
سكان حي بيلجرانو وجدوا بطلهم الشعبي الذي سمعوا عنه في الحكايات والأساطير، ملقى على الأرض خائر القوى يصارع الموت.. كانت هذه نهاية "الترينتشي" كارلوفيتش، فقد توفي بعد يومين في المستشفى، تاركا خلفه إرثا طائلا من الحكايات التي لن نتحقق أبدا ما إذا كانت حقيقية، أم من وحي خيال رواتها.
يقول كارلوفيتش: "الكثير من الأمور غير الصحيحة قيلت عني، لكن الأمر الحقيقي هو أنني لم أحب أبدا الابتعاد عن الحي الذي ترعرعت فيه، حيث منزل والديّ، والحانة التي اعتدت ارتيادها، وأصدقائي، وأرتولا الذي علّمني كيفية ركل الكرة في صغري".
ولو انتابكم الفضول بشأن هذا الاسم الذي غالبا لم تسمعوا به من قبل، فدعوني أزيد من فضولكم.
عام 1993، عندما انتقل دييجو مارادونا إلى نادي نيولز أولد بويز القابع في مدينة روساريو، استقبله الصحفيون بحفاوة، وقالوا له: "لقد حل علينا لاعب الكرة الأفضل".
فقاطعهم مارادونا قائلا: "الأفضل خرج بالفعل من روساريو، واسمه كارلوفيتش".
لاحقا بعد 27 عاما، في فبراير من العام الجاري، وعندما زار مارادونا مدينة روساريو لمواجهة روساريو سنترال رفقة فريقه خيمناسيا الذي يشرف على تدريبه، سنحت فرصة اللقاء التاريخي بين دييجو وكارلوفيتش.
مارادونا قال لـ كارلوفيتش خلال هذا اللقاء العابر: "لقد كنت أفضل مني".
وكارلوفيتش أجابه: "دييجو، الآن أستطيع أن أموت في سلام"... بعد 3 أشهر فقط، مات كارلوفيتش بالفعل!
هذا البطل الخارق الذي أسهبنا في الحديث عنه، لم يلعب أي مباراة دولية بقميص الأرجنتين، ولم يفز أبدا بأي لقب، بل الأدهى، أنه لم يلعب في الدرجة الأولى سوى مباراتين اثنتين، وفي رواية أخرى يقال إنه لعب مباراة واحدة فقط!
بل كل ما نعرفه عنه أنه كان لاعب وسط أعسر طويل القامة، يقول من شاهدوه إنه مزيج من فيرناندو ريدوندو وخوان رومان ريكيلمي، ولا سبيل أبدا للتحقق من صحة هذا الوصف، إذ لا يظهر كارلوفيتش في أي مقطع فيديو، سوى مقطع نادر أذاعته شبكة TYC، يرجع إلى العام 1988 وقتما بلغ 42 عاما، ويقال إنها كانت مباراته الأخيرة خلال إحدى مباريات دوري المقاطعات.
Gambetas, pases y gol: ASÍ JUGABA EL TRINCHE CARLOVICH
Apareció una filmación inédita de la leyenda durante un encuentro en una liga regional con la camiseta de Argentino de Monte Maíz, al sureste de Córdoba. Habría sido su último partido con 42 años en 1988.
📹 Pablo Grecco. pic.twitter.com/cDnq3k3tIA
— TyC Sports (@TyCSports) May 10, 2020
لُقِب بـ "الترينتشي" Trinche، وفي الإسبانية تعني "الشوكة"، ولا يعرف أحد أبدا سبب هذا اللقب الذي لاصقه منذ الرابعة من عمره، بمن في ذلك حامل اللقب، فقد صرح سابقا أنه يجهل سبب التسمية.
الابن السابع لوالدين مهاجرين من كرواتيا في العشرينيات، ولهذا يحمل لقبا يوغوسلافيًا غير شائع في الأرجنتين.
قضى أغلب مسيرته الكروية في مدينة روساريو، وتحديدا في فريق سنترال كوردوبا الذي لعب له على 4 فترات مختلفة خلال السبعينيات والثمانينات، وخاض بقميصه 236 مباراة، مسجلا 28 هدفا.
عاش بطريقة بوهيمية، ويقال (لاحظ أننا سنستخدم كلمة "يقال" كثيرا في هذا التقرير) أنه رفض عروضا كثيرة للعب خارج الأرجنتين، وصلته من ميلان، وإنتر ميلان، وباريس سان جيرمان.
كما حاول الجوهرة بيليه ضمه إلى نيويورك كوزموس الأمريكي، لكن كارلوفيتش رفض وتمسّك بالبقاء في حيّه.
كان مرتبطا للغاية بحي بيلجرانو، وعندما انتقل إلى نادي إندبنديينتي ريفادافيدا دي ميندوزا، 500 ميل غرب روساريو، عانى كثيرا، لدرجة أن الأسطورة تقول إنه تعمّد الحصول ذات يوم على بطاقة حمراء قبل نهاية الشوط الأول في إحدى المباريات، حتى يلحق الحافلة المتجهة إلى روساريو في يوم عيد الأم.
وفي رواية أخرى، أنه فعل ذلك ليذهب إلى الصيد رفقة أصدقائه.
الصيد، يا لها من هواية فضّلها كثيرا على مسيرته الكروية، فقد نال فرصة ذهبية عام 1978 للانضمام إلى منتخب الأرجنتيني تحت قيادة سيزار مينوتي.
المدرب الذي سيقود راقصي التانجو للتتويج بالمونديال، استدعى كارلوفيتش لخوض مباراة ودية، لكن كارلوفيتش تخلّف عن تلك الفرصة الذهبية، لأنه ببساطة كان يصطاد!
كان يُفضّل النوم على الأرض، ولا يلعب كرة القدم سوى من أجل الاستمتاع، مهاراته كانت فائقة للغاية، لدرجة أنه كان ينفذ طلبات الجماهير على أرض الملعب عندما يوجهّونه لمراوغة لاعب بعينه.
امتلك مهارة تمرير الكرة بين أقدام منافسيه بشكل مزدوج، أي أنه يختار ضحيته، يمرر الكرة بين قدميه، وبينما ضحيته غارق في الإحراج، يمرر من بين قدميه مجددا عودةً إلى الخلف.
فعل ذلك خلال مباراة عام 1974، يقال أنها كانت بداية أسطوريته واشتهاره في الأرجنتين دون أن يشاهده الناس من الأساس.
كانت مباراة ودية بين منتخب الأرجنتين الذي يستعد لخوض منافسات المونديال، ومجموعة لاعبين مغمورين من مواليد روساريو، يقودهم كارلوفيتش.
انتهى الشوط الأول بتقدُم الفريق المغمور بثلاثية نظيفة، وخلال هذا الشوط أقدَم كارلوفيتش على مهارته الخارقة في حق المدافع الدولي بانتشو سا (يشتهر سا بكونه فاز بلقب كوبا ليبرتادوريس 6 مرات في مسيرته).
لدرجة أن فلاديسلاو كاب مدرب منتخب الأرجنتين، طالب بإخراج كارلوفيتش بين الشوطين، حتى يحافظ على معنويات لاعبيه.
وبعد عامين، قاد فريقه إندبنديينتي ريفادافيا للفوز وديًا على إنتر ميلان في مباراة شهيرة صال وجال خلالها.
وتقول الأسطورة إنه احتفظ ذات مرة بالكرة بين قدميه لمدة 10 دقائق متواصلة، حتى اضطر الحكم إلى إيقاف المباراة ومطالبته باللعب بشكل طبيعي.
يقول عنه خورخي فالدانو إنه "رمز الكرة الرومانسية".
ويصفه خوسيه بيكرمان بأنه "أفضل لاعب وسط شاهده على الإطلاق".
أما مينوتي، فقال: "كاروفيتش امتلك جينات مدينة روساريو التي يُظهرها ليونيل ميسي للعالم هذه الأيام".
مدربه السابق كارلوس تيموتيو جريجول يقول عنه: "كان لاعبا مختلفا، من جنس آخر، من فئة أعلى".
أما فيكتور بوتانيز مدافع أرجنتيني في السبعينيات، فقال أجمل توصيف لـ كاروفيتش ذات مرة: "مواجهة كارلوفيتش كانت محنة، وفي نفس الوقت كانت لذة، عذاب، وفي نفس الوقت متعة لأنك ترى ما يفعله بالكرة. امتلك كل الإمكانيات التي تسمح له بالنجاح في المستوى العالي، لكنه اختار الحياة الهادئة".
"أحيانا كنت أجلس على الكرة أثناء المباريات، ولكني فعلت ذلك فقط لأستريح، وليس للسخرية من المنافسين. أسلوبي في لعب كرة القدم كان متواضعا للغاية، تماما كما كانت حياتي". _كاروفيتش
"اللعب في سنترال كوردوبا كان أشبه باللعب في ريال مدريد بالنسبة لي". _كارلوفيتش
وبينما كان الترينتشي ملقى على حافة الطريق، في نصف وعيه، يغالب أنفاسه الأخيرة، لعله تساءل: أمن أجل هذا الحي أفنيت عمري؟ أمن أجله لم أكن مارادونا؟
مصادر:
اقرأ أيضا:
نابولي يعلن عن أغلى صفقة في تاريخه
أول رد فعل من نيوكاسل بعد انسحاب المستثمرين السعوديين