نادر عيد

المتعصبون

"ماذا تنتظر ليجاسوف؟ فلتكمل أكاذيبك!"
الأربعاء، 27 مايو 2020 - 18:14
شغب

"ماذا تنتظر ليجاسوف؟ فلتكمل أكاذيبك!"

القاضي "لن تتلقى تحذيرا آخر رفيق دياتلوف"

دياتلوف بغضب "إنه يعرف شيئا!"

القاضي "لقد سمعنا ما يكفي لليوم،.."

قاطعه ليجاسوف مسرعا "لم أنته، لا تزال لدي أدلة لأقدمها"

المدعي "ليس ضروريا، انتهت شهادتك، سيادة القاضي"

القاضي "رُفعت الجلسة، سنتابع غدا بـ..."

نائب رئيس مجلس الوزراء بصوت عال "دعوه يكمل!"

عم الصمت قاعة المحكمة ولم يعلق القاضي..

نظر بوريس شربينا (نائب رئيس الوزراء) إلى فاليري ليجاسوف بعين قلقة مما سيحدث، فصمت الأخير ونظر إلى الأرض كأنه يتردد قبل أن يقول كلاما قلب الاتحاد السوفيتي رأسا على عقب، وغير حياته إلى الأبد.

كل من في قاعة المحكمة كأن على رؤوسهم الطير، ينتظرون ماذا سيقول ليجاسوف عن اللحظة الحاسمة التي تبعها انفجار مفاعل تشيرنوبل.

ليجاسوف "فعل دياتلوف ما فعل معتقدا أن زر الأمان سيوقف المفاعل مباشرة، وهو الضغط على زر ايه زد 5، لكن في نظام الإيقاف هناك خلل فادح، فتحول مفاعل تشيرنوبل إلى قنبلة نووية. لم يعرف أحد في تلك الليلة أن زر الأمان هو الذي سيؤدي إلى الانفجار! لم يعرفوا ذلك، لأن هذا الأمر أُخفي عنهم"

القاضي "رفيق ليجاسوف، أنت تعارض شهادتك التي قدمتها في فيينا؟"

ليجاسوف "كنت أكذب، كذبت على العالم، كنا نتبع الأوامر، من المخابرات، من اللجنة المركزية، وحاليا هناك 16 مفاعلا في الاتحاد السوفيتي بها هذا الخلل الفادح!"

القاضي "لو تتهم الحكومة رفيق ليجاسوف، فإني أحذرك أنك تطأ أرضا خطرة!"

ليجاسوف "لقد فعلت مسبقا، نحن في أرض خطرة الآن، بسبب أسرارنا وأكاذيبنا، هذه هوية بلدنا، حين نجد في الحقيقة إهانة، نستمر في الكذب إلى أن ننسى ما هي الحقيقة! كل كذبة نرويها تدين للحقيقة، وهذا الدين لابد أن ندفعه لاحقا"

-----

كان مشهدا جميلا في الحلقة الأخيرة من المسلسل الرائع "Chernobyl"، وجد صانعو العمل ضرورة تأليفه ووضعه في المسلسل لغرض درامي هدفه تجميل ما سيُعرض للجمهور، لأن معظم القصص الواقعية لا يروق للناس نهايتها.

لكن حقيقة الأمر أن ليجاسوف، رئيس لجنة التحقيق في كارثة تشيرنوبل، لم يكن في المحكمة!

-----

أعتذر عن إطالتي في المقدمة التي أردت فيها الاستعانة باعتراف بالحقيقة ليس موجودا بالأساس، فأحيانا الجرأة على قول الحق ربما تصنع المستحيل.

ليجاسوف لم يحضر المحاكمة، لكن قبل انتحاره في الذكرى الثانية لتشيرنوبل سجل أشرطة كاسيت قال فيها كل ما لديه حول الكارثة.

الكارثة التي عكست مدى ترهل وضعف الشيوعية، وهو ما اعترف به ميخائيل جورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد، حين قال لاحقا إن "كارثة تشيرنوبل ربما هي سبب انهيار الاتحاد السوفيتي".

-----

وأنا بدوري أريد قول شيء ربما لا يعجب البعض ويجعلني عرضة لهجوم قاس، لكن ما الغرض من مهنتي ما دمت لا أنوي المساهمة في الإصلاح؟

بطبيعة عملي كصحفي رياضي أتابع رد فعل الجمهور باستمرار، على كل خبر، كل صورة، كل فيديو، كل منشور، كل حدث يتعلق بكرة القدم.

وما لفت نظري، أو ربما لفت نظركم جميعا، هو التراشق الذي لا ينتهي بين الجماهير المنتمية لكيانات مختلفة!

فإذا تابعت التعليقات في كل شيء يتعلق بكرة القدم، بالأخص المصرية، ستُذهل من مدى الكراهية ومدى سوء الخلق الذي بلغه كثيرون، لمجرد أنهم يعتبرون أنفسهم مشجعين مخلصين ويكرهون ندهم أو منافسهم.

-----

ويبقى السؤال دائما، لماذا؟ لماذا كل ذلك؟ ما الذي حدث جعل الاحتقان في ذروته؟ ما الذي حدث جعل جمهورا لا هم له في الحياة سوى التهليل لفريق يشجعه والتحقير من المنافس؟

هل هي مشكلة تراكمية؟ هل هي مشكلة أخلاقية؟ هل هي مشكلة ثقافة؟

ولأن تفسير الحاضر وتوقع المستقبل يرغمك على النبش في الماضي، فعدت بذاكرتي إلى ما كان عليه الجمهور حين بدأت حب كرة القدم.

تذكرت أول مباراة حضرتها في الاستاد، كانت قبل 24 سنة في ملعب القاهرة، لا أنسى أبدا أن المدرجات كانت المكان الذي يطلق فيه الجمهور العنان لما في قلبه فيظهر جليا أن هناك مشكلة في الثقافة والأخلاق.

إذا فاز الفريق، فاليوم هو أسعد يوم في العالم، وإذا خسر، يشتد الغضب وتنهال الاتهامات.

حضرت مباريات كثيرة للأهلي والزمالك في صغري، منها نهائي إفريقيا 2001 بين الأهلي وصن داونز، ونهائي 2002 بين الزمالك والرجاء.

أتذكر أني في مباريات الأهلي كنت أسمع باستمرار سبابا في الزمالك، وفي مباريات الزمالك كنت أسمع دائما سبابا في الأهلي.

إذن المشكلة ليست آنية، وإنما لها جذور، وتذكرت أيضا الجدالات التي تحول كثير منها إلى شجار بين الأهلاوية والزملكاوية في المدرسة وفي النادي!

مهلا، لا تعتقدني أعمم، فهذا أكبر خطأ، فلكل قاعدة شواذها، وهذه ليست قاعدة من الأساس، وإنما ظاهرة موجودة في كثير من الأشخاص.

والحقيقة أن الكره، لا، ربما كلمة كره كبيرة نوعا ما، والحقيقة أن هذا الرفض للتنافسية ومحاولة إثبات المثالية للكيان الذي أشجع وأحقيته بلقب "الأفضل دون منازع" موجود منذ سنوات طويلة.

ولعله تأثر بثقافة المجتمع، التي تجعل كثيرا من الناس يرفضون الهزيمة، لا يمكنهم أبدا الاعتراف بالخطأ أو التقصير، رغم أن الإنسان سمي إنسانا من النسيان!

لا يؤمنون أن هذا ممكنا في الأصل، ولو وُجدت الهزيمة، فهناك مؤامرة وانحياز، وهذه ببساطة، ليست الرياضة أبدا!

أتذكر شادي محمد قال في فيلم وثائقي مع FilGoal.com:"دي حاجة من النادي الأهلي مش مننا ولا من جمهوره، إن النادي الأهلي علمنا نكسب بس، لكن الكورة مش كدة".

البرهان على أن مشكلة الثقافة الرياضية موجودة في مصر منذ عقود، أنها كانت سببا في كثير من أزمات الكرة المصرية.

أنا لا ألقي باللوم على بعض الجماهير فحسب، بل أزمة الثقافة ورفض الهزيمة والتي يتبعها أحيانا سوء الخلق في التصرفات والكلمات، موجودة في كل عناصر اللعبة، فكم من أزمة نشبت سببها ليس الجمهور، وإنما مسؤول أو مدرب أو لاعب أو حكم أو..أو.

منذ ما فعله مروان كنفاني والذي أدى إلى تدخل النيابة للتحقيق في شغب حدث في مباراة قمة، إلى اقتحام الجمهور للملعب في المباراة المعروفة بـ"موقعة الجلابية"، الأزمات كثيرة وحدثت على مر التاريخ.

-----

التعصب في اللغة يأتي من الفعل "تعصب"، أي نَاصَر، تعصب لصديقه، أي ناصر صديقه ودافع عنه.

وفي تحليل شخصية المتعصب، هو شخص مدافع وليس مشجعا، يدافع عن انتمائه وهويته، أو ينفس عن ضغوط يتعرض لها من الأسرة أو المجتمع، يعيش عالما وهميا أن الفريق الذي يشجعه لا عيب فيه ولا نقص، فيعارض أي رأي مناقض لذلك ولا يصدق أن هذا الفريق قابل للهزيمة!

التعصب شعور داخلي يصور للإنسان أنه على الحق دائما والآخرين على باطل، وهذا تستطيع استنتاجه ورؤيته بكل بساطة في شجار المشجعين عبر الإنترنت.

وفي دراسة رياضية لسيكولوجية المشجعين المتعصبين أجراها بول جاو وجويل روكوود في جامعة ليفربول وجدا أن التعصب يعود إلى عوامل عدة منها "تعزيز الإحساس بالهوية".

وربما هذا سبب المشكلة من وجهة نظري، أن بعض الأشخاص تدور حياتهم حول فريق كرة، يتحول من فريق يشجعه ويؤازره، إلى عقيدة يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة، حتى لو هناك عيب أو نقص في هذا الفريق!

-----

لكن مرة أخرى، يبقى السؤال، لو كان الإنترنت موجودا في السبعينيات أو الثمانينيات، هل كنا سنرى ما نراه اليوم؟

في رأيي، ربما، لكن ليس بالشكل الفج الموجود الآن، ولذلك تبريرات.

وأنا صغير كان حضور كرة القدم في التلفاز يقتصر على 90 دقيقة، لا أكثر ولا أقل، تعيد القناة الثانية الأهداف بعد المباراة، وكان هناك برنامج واحد أسبوعي على ما أتذكر يسرد كواليس ما بعد المباراة وبين الشوطين يتذكره جيلي اسمه "الكاميرا في الملعب".

لا وجود لاستوديو تحليلي، لا وجود لبرامج حوارية إلا قليلا جدا، ولا توجد مداخلات هاتفية لنفس الأشخاص كل يوم.

لكن مع دخول الدش للبيوت، وبداية تشفير المباريات، بدأت القنوات الفضائية تظهر واحدة تلو أخرى، وفي نفس ذات الوقت بدأت تظهر روابط الأولتراس.

وفي هذا الوقت أخذت كرة القدم منحنى آخر في مصر، فبين افتقاد كثيرين للمسؤولية الاجتماعية حين يتحدثون للجمهور عبر الشاشات والمايكروفون، وبين سلوكيات وألفاظ غير مقبولة في بعض الأحيان من قبل روابط المشجعين، طفت مشكلة التعصب الشديد لفريق معين على السطح وبدت ظاهرة للجميع وعكست مدى ضعف الثقافة الرياضية في بلدنا وأصبح كل من يخسر يرفع لافتة "لقد تعرضنا لمؤامرة".

أتذكر أن إعلاميا مشهورا استضاف في قناة فضائية أعضاء في رابطة أولتراس وطلب منهم أن يشعلوا شمروخا في الاستوديو وحدث بالفعل!

وبعد أشهر قليلة كان هذا الرجل يعلق على مباراة الإسماعيلي والأهلي فقال:"وبدأت النيران والصواريخ مبكرا، منتهى الخطورة يا جماعة اللي انا شايفه في الملعب، ده داخلين بحرب الكترونية، ازاي دخلوا كل دول، لكن ادي الازايز على ارض الملعب، ده فكرونا بالحرب العالمية التانية".

لاحظ التناقض الشديد الذي فيه استخفاف بالمتابعين، لكن كما قلت لك الهدف الأول للقنوات الفضائية هو ملء الوقت بأي محتوى.

في نفس القناة، رئيس ناد جماهيري خرج في 2008 ليقول:"انا واثق ان اللي بيحصلنا بفعل فاعل، يمكن حد عاملنا عمل. صدقني متأكد ان دي حقيقة، في سحر بيتعمل، ده الكورة بتبقى داخلة الجول وتلاقيها حودت وخرجت! هتقولي الهوا هو اللي زاحها، طب مين اللي جاب الهوا؟".

في نفس اللحظة التي كانت تعرض فيها القناة هذه التصريحات، كان مخرج البرنامج يعود بالكاميرا على الضيوف في الاستوديو لتجدهم يضحكون، ثم قال أحدهم:"أشتاتا أشتوت أشتاتا، مش ممكن هتخف بتاتا، الا لما نعملك زار".

أنا لا أختلق قصة، الفيديو موجود على الإنترنت بتاريخ 2 نوفمبر 2008 تستطيع البحث عنه ومشاهدته.

فيديوهات عديدة وكثيرة كانت تنفخ في النار دون أن تدري، منها على سبيل المثال مشادة بين قائد سابق للأهلي ومشجع مشهور للزمالك على الهواء مباشرة.

دعني أسألك، كيف يؤثر ذلك في المشجعين؟

وإحقاقا للحق، لا يمكنني إلقاء اللوم بكل بساطة على القنوات الفضائية، فتذكر أن هذه القنوات منحت الفرصة للجميع لكي يبدي رأيه.

وهنا حدثت الأزمة، أن التلفزيون أصبح نافذة ترى فيها بوضوح، من خلال تصريحات المسؤولين والمدربين واللاعبين والإعلاميين وسلوك الجمهور، أن كرة القدم عندنا ليست رياضة، وإنما أشبه بصراع بقاء.

نلعبها لننتشي، ولا نؤمن أن خسارتنا ممكنة.

المشكلة الحقيقية أن هناك أجيالا من المشجعين الحاليين نشأوا وسط هذه الأحداث وكانوا ضحايا لها وتأثروا بها فنما التعصب في نفوسهم مبكرا جدا.

ولأن أزمة الفضائيات مستمرة والمدرجات مغلقة، انتقل صراع الجماهير من الملاعب إلى الإنترنت.

لذلك نادرا الآن ما تجد علم الأهلي في مباراة قارية للزمالك أو العكس، بخلاف ما كان يحدث في السابق، كم شخصا في مصر يود نهائيا بين الناديين في الموسم الحالي لدوري أبطال إفريقيا؟

بل إن هؤلاء وهؤلاء يشجعون أي فريق يلعب ضد منافسهم! سواء فريق مصري أو غير مصري.

وهو ما ألقى بظلاله على اللاعبين ليظهر فيديو عبد الله جمعة ويحدث ما حدث في السوبر الأخير.

-----

ماذا بعد؟

عودة الجمهور للمدرجات هي إحدى القضايا الرئيسية التي تعكف وزارة الرياضة واتحاد الكرة على حلها منذ سنوات.

وإلى الآن تُلعب معظم المباريات في مصر، قبل أن ينتزع فيروس كورونا كرة القدم من العالم، بلا جمهور أو بحضور عدد قليل جدا يكاد لا يُرى.

ولعل السبب الأبرز لخلو المدرجات هو فقدان الثقة في سلوك كثير من المشجعين، والذي يظهر جانبه السيئ في حالة الهزيمة.

التراشق المستمر بين الجمهور على الإنترنت أسبابه متعددة، لكن يبقى سوء الخلق والتعصب الشديد وضعف الثقافة المجتمعية أبرز مبررات لذلك.

وأنا للأسف لا أعرف ما الحل لإيقاف ذلك، لكن أدرك تماما أن الأزمات ستستمر ولن تنتهي.

لكن ما في وسعي هو أن أوجه رسالتي لكل مشجع في كرة القدم.

لكل عاشق متيم بفريق تحول هذا الفريق بالنسبة له إلى أهم شيء في الحياة، فجعله بغير عمد يتخطى بعض الخطوط الحمراء وينسى أن دوره في هذه الحياة بالتأكيد ليس تشجيع فريق كرة قدم.

الأهلي والزمالك في النهاية ناديان، لا أكثر ولا أقل، لن ينفعك أحدهما بشيء ولن يضرك.

إن كنت مشجعا لأحدهما فاعلم أنه في النهاية فريق كرة قدم، ليس الغرض منه أن يفوز باستمرار ليدخل عليك السرور، وإنما الغرض منه المشاركة في لعبة تمنحك بعض الرفاهية.

احذر أن يتحول الأهلي أو الزمالك إلى محور حياتك، فلا تسعد أو تحزن إلا بهما، أنا لا أتحدث هنا عن المشجع العادي، وإنما المشجع الذي يشعر أنه الأسعد في العالم لمجرد أن فريقه فاز، ويتمنى أن يدركه الموت إذا فريقه خسر!

بالله عليك إنها رياضة، ليست حربا.

لن تجني شيئا إذا أصبح الأهلي أو الزمالك أفضل فريق في العالم، ولن تخسر شيئا لو انتهيا إلى الأبد.

لن يدخلاك الجنة أو يجنباك النار.

نحن نحب كرة القدم، ربما كثير منا لا يستطيع الاستغناء عنها، لكن شئنا أو أبينا، سنتركها يوما، وسندرك أنها ليست بأهمية أشياء أخرى في هذه الحياة.

Follow @NaderMEid