كتب : زكي السعيد
إلى الأطفال في بوندي.
إلى الأطفال في إيل دو فرانس.
إلى الأطفال في الضواحي.
أود أن أخبرك قصة.
إنها قصة عن كرة القدم، وعلى الأرجح فهذه ليست مفاجأة. بالنسبة لي، كرة القدم هي كل شيء، اسألوا أبي عن ذلك.
عندما كنت في الثالثة من عمري، أهداني أبي شاحنة لعبة في عيد مولدي، تلك التي يمكنك الجلوس داخلها وقيادتها، احتوت على دواسات وكل شيء، ووالداي اعتادا تركي أقودها من منزلنا حتى ملعب كرة القدم في الجهة المقابلة من الشارع، وكأني لاعب كرة قدم حقيقي يقود سيارته إلى المران، هكذا كان روتيني الذي أخذته بجدية بشديدة.
ولكن بمجرد وصولي، أترك الكرة في ركنٍ ما، وأتوجّه للعب كرة القدم، تلك السيارة 4x4 المذهلة التي أثارت غيرة كل أصدقائي، لم أعد أعبأ بها بمجرد وصولي هناك.
أردت الكرة فحسب، الكرة كانت كل شيء بالنسبة لي.
ولذا، هذه القصة عن كرة القدم. ولكن ليس بالضرورة أن تحب كرة القدم حتى تستمع إلى هذه القصة، لأنها قصة عن الأحلام.
في بوندي، في سان دوني، في الضواحي، ربما هناك الكثير من الأموال، هذا صحيح، لكننا حالمون، هكذا وُلدنا، ربما لأن الأحلام ليست مُكلّفة، بل مجانية.
حينا كان مذهلا ومزيجا من الثقافات المختلفة: الفرنسية، الإفريقية، الآسيوية، العربية، كل جزء من العالم.
الناس خارج فرنسا يتحدثون عن الضواحي بالسوء دوما، ولكن لن تفهم حقيقتها لو لم تكن من هنا. يتحدثون عن العصابات وكأنها خُلقت هنا، رغم أن العصابات تتواجد في كل مكان بالعالم. وهناك أناس يعانون في كل مكان بالعالم.
الحقيقة أنه وخلال طفولتي، اعتدت رؤية الفتية الأقوياء في الحي يحملون البقالة لجدتي، لن ترى هذا الجزء أبدا من ثقافتنا في الأنباء، بل ستسمع عن الجانب السيئ فقط.
في الواقع هناك قاعدة في بوندي يفهمها الجميع، تتعلمها في شبابك، وهي إن سرت في الشارع مرورا بـ15 شخصا يقفون في أحد الأركان، ولكنك تعرف أحدهم فقط، فأمامك خيارين: إما أن تلوّح وتواصل السير، أو تقف وتصافح 15 كفًا.
لو صافحت الشخص الذي تعرفه فحسب، فلن ينساك أبدا الـ14 شخصا الآخرين، سيدركون حقيقتك.
هذا مضحك، لأني حملت هذا الجزء من بوندي في داخلي طوال حياتي، حدث ذلك في حفل جوائز الاتحاد الدولي العام الماضي، كنت مارا رفقة والديّ قبل الفعاليات، ورأيت جوزيه مورينيو في الجهة الأخرى من الغرفة.
كنت قد قابلت جوزيه من قبل، لكنه كان واقفا رفقة 4 أو 5 أصدقاء لا أعرفهم، وهنا تملكّتني تلك اللحظة من بوندي، فكرت: هل يتوجب علي التلويح لـ مورينيو، أم أن أتوجّه إليه؟
حسنا، توجّهت إليه وصافحته، وبشكل تلقائي، التفتُ إلى أصدقائه:
"مرحبا" ثم مصافحة.
"مرحبا" ثم مصافحة.
"مرحبا" ثم مصافحة.
"مرحبا" ثم مصافحة.
كان الأمر مضحكا لأن وجهوهم عبرت عن الدهشة.
عندما واصلنا سيرنا، ضحكم أبي وأخبرني: "اكتسبت هذا في بوندي".
إنه أمر لا إرادي، إنها قاعدة نعيش عليها. في بوندي، تتعلم قيم تتجاوز كرة القدم، تتعلم معاملة الآخرين بالمثل، لأنكم جميعا في نفس المركب، جميعكم تحلمون الحلم نفسه.
أنا وأصدقائي لم نأمل أن نصير لاعبي كرة قدم، لم نتوقع ذلك، لم نخطط له، بل حلمنا، هناك فارق. بعض الأطفال يعلقون ملصقات لأبطالهم الخارقين على جدران حجراتهم، ونحن فعلنا ذلك مع لاعبي كرة القدم، امتلكت العديد من الملصقات لـ زيدان وكريستيانو.
وحتى أكون عادلا، فمع تقدمي في العمر، أحضرت ملصقات لـ نيمار، وهو أمر يراه مضحكا، لكنها قصة أخرى.
وأحيانا يسألني الناس لماذا تُفرز منطقتنا العديد من المواهب، ربما هناك أمر مميز في المياه التي نشربها، أو لعلنا نتدرب بشكل مختلف، مثل برشلونة أو شيء من هذا القبيل.
لكن لا، لو حضرت إلى نادي بوندي، أخشى أنك سترى نادٍ عائلي متواضع. ستجد بعض المباني السكنية والعشب الصناعي. لكني أعتقد أن كرة القدم مختلفة بالنسبة لنا، فهي أساسية، إنها عادة يومية، كما الخبز والماء.
أذكر تلك المسابقة في مدرستنا، للمراحل الدراسية السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة، كان الأمر أشبه بكأس العالم بالنسبة لنا، تصارعنا على تلك الجائزة البالغة قيمتها 2 يورو.
لكننا تعاملنا معها كأنها مسألة حياة أو موت. في سان دوني، شرفك دائما على المحك، والأمر مضحك، لأن القاعدة نصت على أن يكون كل فريق مختلطا، فتية وفتيات.
حسنا، لحسن الحظ لم ترغب كل الفتيات في المشاركة بالبطولة، ولذا توجب علينا أن نتفاوض. أتذكر إخباري صديقتي أنها إن قدّمت كل ما لديها على الملعب وفزنا بالكأس، فسأبتاع لها كتاب تلوين، كنت أترجاها.
ربما ستظنون أنني أبالغ، لكن تلك البطولة عنت لي كل شيء، لا يمكن أن نخسر.
لعبنا لأجل تلك الجائزة كما لو أنها كأس جول ريميه، وأنا واثق أن الأمر كان صعبا على المدرّسين، ولذا أعتذر لهم، أذكر عودتي من المدرسة إلى المنزل مصحوبا بـ9 تحذيرات مختلفة.
"كيليان لم يقم بعمل واجبه".
"كيليان نسي لوازمه".
"كيليان كان يتحدث عن كرة القدم في حصة الرياضيات".
رأسي كان في السحاب، وكنت لاعبا جيدا، لكن نقطة التحول في حياتي بأكملها كانت كأس سان دوني في عمر الـ11.
وصلنا إلى نصف النهائي، وكنا في ملعب حقيقي في منطقة جاجني، أتذكّر حتى أن المباراة كانت يوم أربعاء. لهذا الدرجة الذكرى حاضرة في ذهني، فلم أكن قد لعبت في ملعب بهذا الحجم من قبل، في حضور كل هؤلاء الناس، كنت مرعوبا. لم أركض، كنت خائفا للغاية، بالكاد لمست الكرة، ولن أنسى أبدا كيف هبطت أمي إلى الملعب بعد المباراة وجذبتني من أذني.
ليس لأني لعبت بشكل سيئ، وإنما لأني كنت خائفا.
قالت لي: "ستتذكر ذلك طوال حياتك، عليك دائما أن تثق في نفسك، حتى لو أخفقت، من الوارد أن تهدر 60 هدفا، لن يهتم أحد. لكن أن ترفض اللعب لأنك خائف، فهي حقيقة ستطاردك طوال حياتك".
قالت تلك الكلمات بالتحديد، وقد غيّرتني لدرجة أنني لم أخف أبدا في ملعب كرة قدم مجددا طوال حياتي. ولا وجود لـ كيليان مبابي دون أمي، وأبي، ومجتمي، وأصدقائي.
لو لم تكن من المنطقة التي أنحدر منها، فلن تفهم ذلك أبدا. لكن على سبيل المثال، عندما كنت في الحادية عشر من عمري، توجب علي الذهاب إلى لندن لعدة أيام لأتدرب مع ناشئي تشيلسي.
كنت متحمسا للغاية ومذهولا لدرجة أنني لم أخبر أصدقائي في الحي، وبعد عودتي، رآني أصدقائي وسألوني: "كيليان، أين كنت الأسبوع الماضي؟".
فأخبرتهم: "كنت في لندن مع تشيلسي".
فقالوا: "لا، هذا مستحيل".
فقلت: "لا، أقسم لك أن الأمر حدث، لقد قابلت دروجبا".
فقالوا: "أنت تكذب. دروجبا لا يقابل أطفال صغار من بوندي. هذا غير ممكن".
لم أمتلك هاتفا وقتها، ولذا طلبت من أبي أن يعطيني هاتفه، وقد أريتهم الصور التي التقطها، عندها فقط صدقوني، ولكن الأهم أنهم لم يشعروا بالغيرة على الإطلاق، بل كانوا مندهشين فقط.
لن أنسى أبدا ما قالوه لي، يمكنني تصور ذلك حتى الآن، لأننا كنا في غرفة خلع الملابس بنادي بوندي، نرتدي ملابسنا قبل مباراة.
قالوا: "كيليان، هل يمكنك أن تأخذنا معك إلى هناك؟".
بدا الأمر كأني ذهبت إلى كوكب آخر.
فقلت: "لكن المعسكر انتهى الآن، أنا آسف".
نظروا إلى الهاتف وضحكوا وهزوا رؤوسهم، وقالوا: "واو، وكأننا نعيش اللحظة معك يا كيليان".
بعد تلك التجربة في تشيلسي، ترجيت والديّ لأرحل عن بوندي وأنتقل إلى نادٍ كبير، لكن عليكم أن تفهموا أبي وأمي، أرادا أن أظل في المنزل حتى أعيش طفولة طبيعية، لم أتفهم ذلك وقتها، لكنه كان الأمر الأفضل لي، لأني تعلمت الكثير من الدروس التي لم أكن لأتعلمها أبدا في أكاديمية.
أبي كان مدربي طوال 10 سنوات، وحتى عندما بدأت التدرب بأكاديمية في كليرفونتين خلال الأسبوع، كان الأمر رائعا.
إنها واحدة من أفضل الأكاديميات في العالم بالطبع، لكني ظللت قادرا على العودة إلى المنزل في نهاية كل أسبوع وألعب مع فريق أبي في بوندي، ولم يكن يتسامح أبدا مع هراء الأكاديمية الفاخرة الذي أجلبه معي.
هذا مضحك، لأني اعتدت العودة إلى المنزل حاملا صوت مدربي في كليرفونتين داخل رأسي، لأنه أصر دائما على تحسين القدم الضعيفة لدينا.
في كليرفونتين، طوروا مهاراتنا، لكن في بوندي، كان الأمر أشبه بالحياة الحقيقية، كان الأمر أشبه بالبقاء على قيد الحياة.
في أحد الأسابيع، كنت ألعب في بوندي، وتسلّمت الكرة على الجناح على قدمي اليمنى، كنت غير مراقَب، في موقف مثالي، وعندها سمعت صوتي مدربي في كليرفونتين يقول: "كيليان، عليك تحسين قدمك اليسرى".
ولذا حاولت إرسال كرة طولية بقدمي اليسرى، وقد فشلت بالكامل، ليفتك الفريق الآخر الكرة ويشن هجوما مرتدا، وأبي قتلني.
لا يزال في إمكاني سماع صراخه.
"كيليان! أنت لست هنا من أجل تجاربة كليرفونتين الفاخرة! لدينا بطولة نتنافس عليها، يمكنك أن تعود إلى كليرفونتين طوال الأسبوع وتتدرب على ملعبك الجميل، لكننا هنا في بوندي، هنا لدينا حياة.
لا أنسى أبدا هذا الدرس أينما حللت. أبي أدرك أن الغرور انتابني، ولذا حرص أن يُبقي قدميّ على الأرض.
ثم، وقبل عيد مولدي الرابع عشر، حدثت مفاجأة مذهلة. أبي تلقى مكالمة من شخص في ريال مدريد، يدعونا للحضور إلى إسبانيا لحضور حصة تدريبية خلال الإجازة.
كنت مصدوما، لأنهم أخبروا أبي: "زيدان سيود رؤية ابنك".
وقتها، زيزو كان المدير الرياضي، شعرت أنني فوق القمر، كنت متشوقا للذهاب.
لكن الأمر لم يكن بسيطا، فقد بدأ الكشافون الحضور إلى مبارياتنا، وقد اجتذبت اهتمام وسائل الإعلام. وعندما تبلغ 13 عاما، لن تستطيع التعامل مع هذا الاهتمام، كان هناك الكثير من الضغط، وعائلتي أرادت حمايتي.
لكن عيد مولدي الرابع عشر كان ذلك الأسبوع، ولم أدرك أن عائلتي نسقت كل شيء مع النادي حتى يأخذوني إلى مدريد كهدية.
كانت مفاجأة!
وصدّقوا ذلك أو لا، لم نُخبر أي شخص عن وجهتنا، لم أخبر أصدقائي المقربين، لأني كنت متوترا، لو لم تسر الأمور بشكل جيد، لم أكن سأرغب في العودة إلى الحي وإحباطهم.
لن أنسى اللحظة التي وصلنا فيها إلى مقر التدريب من المطار، زيدان قابلنا في ساحة انتظار السيارات، وكانت سيارته رائعة بالطبع. قمنا بتحيته، وعندها عرض إيصالي إلى الملعب، وأشار إلى مقعد الراكب الأمامي ليخبرني بأن أذهب وأجلس هناك.
لكني تجمدت وسألت: "هل يتوجب علي خلع حذائي؟".
لا أدري لماذا قلت ذلك، لكنها كانت سيارة زيزو!
وهو رأى أن الأمر مضحك، وقال: "بالطبع لا، اركب".
أوصلني إلى ملعب التدريب، وكنت أفكر.. أنا في سيارة زيزو. أنا كيليان من بوندي، لا يمكن أن يكون ذلك حقيقيا، لعلي لا زلت نائما في الطائرة.
أحيانا عندما تعيش تجربة ما، تشعر أنها حلم، كان شعورا مماثلا لكأس العالم في روسيا.
فأنت لا تعيش كأس العالم كشخص، وإنما كطفل.
من بين كل الذكريات، فالتي لن أنساها أبدا، هي وقت وقوفنا في الممر قبل أول مباراة أمام أستراليا، منتظرين خروجنا.
عندها فقط أدركت ما اختبرته، نظرت إلى عثمان ديمبيلي، وكنا نبتسم ونهز رؤوسنا.
قلت: "انظر إلينا. فتى من إيفرو، وفتى من بوندي، نلعب كأس العالم".
فقال: "أقسم أن هذا لا يُصدَق".
خرجنا إلى الملعب وشعرنا بـ65 مليون شخص يساندونا، وعندما سمعت السلام الوطني الفرنسي، كنت قريبا من البكاء.
من المثير للاهتمام بالنسبة لي أن الكثيرين ممن حملوا كأس العالم بين أيديهم في الصيف، ترعرعوا في الضواحي حيث يمكنك الاستماع إلى العديد من اللغات خلال سيرك في الشوارع، تلك الأحياء حيث تصافح 15 يدا، ليس 14، أو 10، أو 1.
إلى الفتية في بوندي، إلى الفتية في إيل دو فرانس، إلى الفتية في الضواحي، نحن فرنسا، أنتم فرنسا.
نحن الحالمون المجانين، ولحسن حظنا، الحلم لا يكلف الكثير، في الحقيقة، هو مجاني.
كيليان من بوندي.
كل ما سبق على لسان كيليان مبابي في موقع The Players Tribume.
اقرأ أيضا:
فيديو في الجول - مسيرة أسطورية لـ رونالدو
الإعلان عن جدول الدور الثاني للدوري
اختر التشكيل المثالي لـ ريال مدريد أمام مانشستر سيتي