كتب : مصطفى عصام
أرجو من قرائي الأعزاء ألا ينخدعوا ببساطة قصة حياتي.. فهي لم تكن كذلك، ولكني جعلتها على عكس ذلك، استبعدت طبقا لأهواء شخصية ما قد يجعلني أبدو مغرورا أمامكم، لقد واجهت صعوبات كثيرة، حاول الكثيرون أن يحطموا أعصابي وحياتي بأن يجعلوني أشعر بأنني لا أصلح لأي شئ، ولكنني صبرت وما أرويه اليوم هو جزء من كثير ولكنني أسرده ببساطة، فرصة لأبدو أقوى من الظروف، وشكر لله على ما أعطاني من براعة في الملعب، وصبر على أسوأ مخلوقاته".
الفقرة السابقة وردت بقلم بيليه في مذكراته ووجدت في إحدى المطبوعات العربية عام 1970.
في الوهلة الأولى عند قراءة الفقرة الفائتة، الأسلوب يبدو مصريا خالصا في الكتابة، ليست بالأحرى فقرة مكتوبة باللغة البرتغالية ثم تم نقلها حرفيا للغة العربية الخالصة، لربما كانت فقرة قد ترجمت من البرتغالية إلى الانجليزية ومن الإنجليزية إلى العربية، تلك المقتطفات ظهرت في مصر عام 1970، حيث العزلة الكامنة عن كل شئ في العالم نتيجة النكسة وتقلص بيع الجرائد الأجنبية بشدة داخل مصر، المواطن المصري وقتها لم تكن الكرة ضمن أساسياته.
الصورة الأن من عصر ما قبل التغطية التلفزيونية لكرة القدم العالمية في إرهاصات ما قبل قنوات مثل بي إن سبورتس وسكاي وتغريدات جاري لينيكر، فتوقفت رؤية المشاهد المصري عند أن نجم البرازيل الأوحد هو جارينشيا يليه الفتى الصغير بيليه، سيفاجأ المشاهد نفسه عند حلول كأس العالم 1970، أن كرة القدم لم تعد أبيض وأسود في التلفاز بعد، هناك فرق بألوان مختلفة، حيث أن كأس العالم في المكسيك لأول مرة نفسه سينقل بالألوان.
انتظر المواطن المصري كثيرا ليشاهد المباراة الأولى بين إنجلترا والبرازيل في المجموعة الثالثة، بطل كأس العالم النسخة الماضية وبطل النسخة ما قبلها، حرم المصريون من تصدي السمكة لجوردون بانكس من صاحب تلك المذكرات ومن أول نسخة ملونة لبرازيل 1970 بسبب قرار اتحاد الإذاعات العربية بعدم إذاعة المباراة كونها تحت إدارة الحكم الإسرائيلي إبراهام كلاين، لكن دهشوا كثيرا في المباراة النهائية، حينما شاهدوا الفتى الصغير في مخيلتهم سابقا "بيليه" قد أصبح قائدا وتدا في الملعب، وفي الدقيقة 86 يتوقف الزمن تحت قدميه حين يلتف حوله 4 لاعبين إيطاليين وهو يمرر الكرة بثقة نحو تسديدة كارلوس ألبرتو التي مرقت الشباك، هدف استلهم كل الإعجاب.
إعداد وترجمة أحمد علام.
بالتأكيد لا نعرف صحيفة El Grafico، الصوت الرياضي الناطق الأشهر للقارة اللاتينية، ولم تأخذ جريدة World Soccer الصيت الأكبر بعد في الوطن العربي كمثل فترة الثمانينات والتسعينات، ربما لم يسمع المواطن المصري سوى بشكل طفيف عن مجلة France Football التي في مطلع السبعينات رشحت علي أبو جريشة للفوز بجائزة أفضل لاعب في افريقيا عام 1970، كان مصدر الجرائد المصرية من الأخبار الأجنبية في فترة العزلة بين النكسة والعبور هو نقل ترجمات المجلات اللبنانية مثل مجلة التضامن إلى صفحاتها دون تنقيب.
في طفرة بأواخر 1970 حين أثار بيليه كل الدهشة، كسر أحمد علام حاجز العزلة ذلك، حين همس في أذن الحكم المصري علي قنديل بأن يجلب له كافة المجلات اللاتينية الكروية الممكنة أثناء تواجده بالمكسيك وقت كأس العالم 1970، وهنا دأب الصحفي المصري رئيس القسم الرياضي بمجلة أخر ساعة في ورشة عمل قصيرة ضمت كل المصريين المتحدثين باللغة الإسبانية والبرتغالية، من أجل الدأب فقط لاستطلاع صورة كرتونية أثرته عن بيليه.
المترجم: "بيليه.. إليكم مذكراتي"
عام 1992، حينما تأهب رونالد كومان لتسكن قذيفته شباك سامبدوريا الإيطالي في كأس أوروبا للأندية أبطال الدوري، كان محمود بكر معلقا ممثلا لاتحاد الإذاعات العربية عن تلك المباراة، وبالطبع اسهب عن أن اللاعب الأمثل لعب تلك الكرة الثابتة هو "شحتة الإسكندراني"، وتباعا مثلما ألفتم عن القامة المرحوم بالتندر عن "سبعة سمير قطب" وما يليه من رثاء لجيله العظيم أول من اقتنص بطولة الدوري خارج محافظتي القاهرة والجيزة عام 1965، تباعا أدخل أحمد علام اللمسة المصرية في طريقة الترجمات، بل وأضاف قطعة صغيرة عن نجوم بالدوري المصري لعبوا معه في نفس العام، عمر النور نجم الزمالك وبدوي عبد الفتاح نجم الترسانة.
في الجزء المترجم من مذكرات بيليه حيث ما وقع تحت يدينا من كتابات أحمد علام، كان جزءا مخصصا للتحدث عن شرف ونزاهة خصومته مع جواو سالدانا المدير الفني للمنتخب البرازيلي، ذلك الصحفي الشيوعي الذي تولى إدارة الفريق رغم عدم ركله للكرة حتى قبل كأس العالم بعدة أشهر ليحل محله بعدها ماريو زاجالو.
ترجمة بيليه على صفحات أخر ساعة: "في عام 1969، لم يصدق أحد أن الصحفي سالدانا الثرثار أصبح "كوتش" بدلا من فنسنت فيولا الذي لا يتكلم إلا بحساب دون إسهاب باختصار، نظرات فيولا كانت تغني عن الكلام، نظرة تأنيب تجعلك لا تنام الليل، نظرة استحسان فقط تجعلك تلعب وكأنك الجن".
في الحقيقة كان سالدانا يؤمن بأن نادي سانتوس أفضل الأندية بالبرازيل، لذلك كان معظم اللاعبين بالمنتخب الوطني من الفريق، يتقدمهم بالطبع قائد الفريق بيليه، لم يكن لديه وقت كاف لاجراء اختبارات أو مباريات تجريبية، فإعداد الفريق القومي لكأس العالم بالمكسيك يحتاج ما يقرب من عامين لتكوين فريقا منسجما وحوال 4 أشهر في معسكر مغلق قبل البطولة، هكذا كانت أجواء كرة القدم ما قبل البطولات الأممية، الأوقات الأكبر مع المنتخب لا النادي، لذلك لم يختار سالدانا إلا كل لاعب وصل إلى قمة لياقته البدنية، حيث أن المنتخب البرازيلي قد أخذ درسا من الهزيمة في إنجلترا 1966.
بيليه: "تقدم سالدانا بصوته الحاد والعنيف كالعادة، تحدث معي ومع جيرسون وكارلوس ألبرتو وكبار لاعبي الفريق، كنا نقول رأينا وكان يجمع جميع الآراء، ولكي أكون صادقا مع نفسي ومع الجميع، كان القرار النهائي دوما هو قرار سالدانا، كأس شخص نرجسي يحب سماع صوته فقط كان لابد أن يكون قراره لوحده فقط، نتائج الفريق في الحقيقة تحسنت كثيرا فقد كان يرفع من ثقتنا أمام الجماهير، في الأدوار التمهيدية لتصفيات كأس العالم فزنا على كولومبيا في بوجوتا 2-0، وفنزويلا في كاراكاس 5-0، وأقوى العروض كانت أمام الخصم القوي باراجواي في العاصمة أسونسيون حين فزنا بثلاثية نظيفة، وفزنا بكل مباريات العودة في الماراكانا، وتحقق وعد سالدانا إلى الجمهور بالوصول إلى كأس العالم فائزا بكل المباريات".
كان سالدانا خريج جامعة براج من تشيكوسلوفاكيا وقد تشبع بالمبادئ الشيوعية من رأسه حتى أخمص قدميه، دفع ذلك لمعارضته الدائمة لرئيس البرازيل ميديسي لموالاته الدائمة لأمريكا وقمعه للمعارضين، وقد سجن سالدانا مرات عدة، ولكن لغرابة الأمر كيف وصل في النهاية إلى منصب المدير الفني لمنتخب البرازيل.
يقول بيليه: "عقب الهجوم المبرح الذي شنه سالدانا على الفريق نتيجة الخروج من الدور الأول لكأس العالم 1966، كان لابد من إسكاته لأن هجومه أصبح مشكلة سببت ضعفا للروح المعنوية لدى اللاعبين، وكانت الطريقة الوحيدة هى اختياره لينفذ كل ما في كتاباته".
كان سالدانا يجمع بين العديد من المتناقضات، جانبا يمثل نبوغا وعبقرية في أسلوبه بكرة القدم، حيث تنبأ بهزيمة كافة الفرق الأوروبية قبل كأس العالم بشهر كامل لرجال الصحافة، لكونهم مستمرين على التدريب بدنيا ليلا ونهارا صيفا وشتاءا، وصف وقتها أحمد علام بأن سالدانا قال أن الفرق ستذهب إلى المكسيك "محروقة بدنيا" - تعبير مصري بحت- حيث أنها اجتازات قمة منحنى اللياقة وبدأت تتدهور إلى الضعف، أما الجانب الأخر من سالدانا فكان الغرور والصلف، محاولاته الدائمة أن يثبت لزملائه النقاد بأنه أفضل منهم حتى بعد أن تقلد منصب الإدارة الفنية للمنتخب، وصل الحد إلى طرد رئيس الاتحاد البرازيلي لكرة القدم "جواو هافيلانج" لجلبه صحفيين معه لتدريب المنتخب البرازيلي.
عرف سالدانا بحاسته الصحفية أن بيليه وجواو هافيلانج قد اجتمعا مع كبار اللاعبين ومدير المنتخب للإقرار بأنه لن يستمر أكثر من ذلك، فخرج سالدانا بعد مباراة الأرجنتين الودية بقنبلة على الملأ.
بيليه: "حضرت المؤتمر بجوار سالدانا كوني قائد الفريق، وبدأ بعنجهيته الشهيرة في اتخاذ قرارات هامة دون مناقشتي إياها أمام الصحفيين أجمع..
سالدانا: ربما سأترك المنتخب بقرار من هافيلانج، وهذا ما سأقرره اليوم عندما أجتمع مع هافيلانج، ولكني سأقرر قبل ذلك إذا استمريت عن المنتخب الذي سيلعب، وأبدأ أولا بأن بيليه لن يلعب، لإنه مريض ولا يصلح لارتداء قميص المنتخب دوليا".
كانت صاعقة قد أصابت بيليه بعد الخبر فلم ينبس ببنت شفة.
بيليه: "تقبلت كلامه بالاحترام الواجب للمدرب، وصعق زملائي من الخبر طبعا، وعقب التدريب اجتمعنا بالفريق كاملا، بيليه أفضل لاعب في الفريق، استقر رأينا بأن السبب الرئيسي في العداوة هو اجتماعي مع هافيلانج لمناقشة استعدادات الفريق، وتحدث سالدانا بعد اجتماعي صراحة مع الفريق بأنه استبعدني لأنني سبب الهزيمة الرئيسي في ودية الأرجنتين".
سالدانا، رجاءا افهم، السبب في التعليمات الخاطئة.
سالدانا: "امسك بالطباشير وأشرح لي على السابورة"
-بيليه: "حسنا، طلبت من خط الوسط أن يلعب متأخرا عن الدفاع حتى لا تتمكن الأجنحة الأرجنتينية من الالتفاف حول الظهيرين والتسجيل، ونسيت أن هذا خلق مساحة بين خط الدفاع والوسط، ولاعبونا في الدفاع لا يجيدون تمرير الكرة، سيطرت الأرجنتين على تلك (الأرض الحرام) وخسرنا المباراة".
بهت سالدانا أمام شرح بيليه الذي أيده جميع لاعبي الفريق، وهنا قرر إطلاق شائعة أن بيليه مريض، فبعد أن تبارت أقلام الصحافة في نشر شائعات حول أن بيليه مريض في الكبد أو القلب، خرج سالدانا ليوضح أنه استبعد بيليه لإنه مصاب بقصر في النظر ، فدائرة نظره محدودة وهو السبب في هزائم البرازيل.
في هدف البرازيل الرابع بإيطاليا، بدا لنا أن بيليه يرى ما لا يستطيع إدراكه أحد، انظروا لتمريرته التي أوقف بها الزمن لكارلوس ألبرتو تلك.
بيليه: "عرفت هنا أن سالدانا كذاب أشر، واحتقرته في قرارة نفسي ولكني لم أرد عليه احتراما لوظيفته، أعلم أنه مريض نفسي، من منا ينسي حين نزل لتدريب فريق فلامنجو وهدد المدرب أوستريتش بالقتل، رحل سالدانا وأتى رفيقي القديم ماريو زاجالو بطل كأس العالم 1958 لتدريب الفريق، كنت من أو المستدعين لقائمة السفر إلى المكسيك، وهو ما ضاعف روحي المعنوية، رأى زاجالو أن الفريق يفتقد لقائد كبير في السن حتى مع وجودي شخصيا، عاش زاجالو معنا بشخصية لاعب سابق لا مدرب، كان يتناقش معنا جميعا في الخطة حتى نستقر على رأي يرضي الجميع ويناسبنا، لم يكن له أعداء وهو ما خفف الضغط عنا.
وصلنا إلى المكسيك لنجد أن الصحفيين الأجانب يعتقدون أن الفريق البرازيلي سيهزم.
كان حديث الكل في المكسيك من كل الجنسيات عن إشاعة قصر نظري، لدرجة حين وطأت قدماي الملعب لأول مرة وجدت الجمهور يفرك في عينيه إغاظة لي، حقيقة كانت مزحة انتباتني من الضحك".
في غرفة الملابس قبل أول مباراة أمام تشيكوسلوفاكيا، كانت أعصابي مشدودة، احسست بأنني لاعبا ابن السابعة عشر من عمري عام 1958 حين لعبت لأول مرة مع المنتخب، كان فيليكس حارس المرمى عصبيا على غير العادة، جميع اللاعبين يتقافزون وكأنهم يلمسوا حديد ساخن، كنا قد تأقلمنا على درجة الحرارة الساخنة أكثر من الفريق الأوروبي، وصل العرق إلى حد ملئ 6 لترات من كل لاعب داخل المباراة، معدل بدني شاق للغاية، هنا تذكرت فقط حسنة سالدانا الوحيدة.
تقدمت تشيكوسلوفاكيا بالهدف الأول، لكننا لم نخف، قبل نصف الملعب وأنا أجري بالكرة، لاحظت أن فيكتور حارس المرمى السلوفاكي يتقدم لحافة منطقة الجزاء، قررت أن أثبت خطأ سالدانا أمام العالم وقاربت على ذلك، سددت كرة من مسافة 60 ياردة تقريبا، ولكنها مرت بجوار القائم في ربع ياردة، على أي حال كانت إثبات أن نظري لا زال حادا.
كان ضعف تشيكوسلوفاكيا مفاجأة لنا، مثلما كان ضعفنا مفاجأة للعالم عام 1966.
بنهاية السطور كتب أحمد علام: "البقية الأسبوع القادم".
في الحقيقة لم يكن هناك بقية للموضوع، حيث توقفت مذكرات بيليه على مجلة أخر ساعة عند تلك النقطة، عرف المواطن المصري سالدانا وأن بيليه النجم الأول، وأن هناك كرة ساحرة سددت من 60 ياردة لم يحالفها الحظ، وعادت المجلة دون أسباب واضحة في السرد عن الكرة المصرية وإغفال قصة بيليه مرة أخرى.
"يعيش بطل الدوري، يعيش بطل الكأس، ربنا يستر المظاليم قدامنا".. كان ذلك كاريكتور العدد التالي، وملئت الصحيفة بإعلانات عن المنظار المخصص من المدرجات لرؤية المباراة واضحة، أو تلفاز تليمصر الذي سينقل الصورة واضحة وناصعة والصوت قوي مسموع إضافة لمصابيح قنالكترون لجميع الأندية الرياضية والملاعب التي تقام فيها المباريات ليلا، كان ذلك حلم متابع الكرة الأول بعد أن رأى يوتوبيا كرة القدم ملونة في المكسيك 1970، وظهر ذلك لأول مرة أمام عينيه في هدف رزق نصار لاعب الاتحاد أمام الأهلي 1972.. أول لقاء رسمي ملون في تاريخ الكرة المصرية على التلفاز.