"كيف أرجع إلى ما كنت قبلا؟ نعم عشت من غير حب وعشت سعيدا ولكنها سعادة الأعمى الذي لم ير الجمال ولكنك فتحت عين الأعمى وجعلته يبصر وينبهر.. فهل تحسبه إذا أرجعته إلى ظلامه الأول مستطيعا أن يجد سعادته الأولى؟".
كلمات تبدو لشخص لم يعرف الحُب طوال حياته وحينما حان الوقت أدرك ما قد فاته. رغم صدق الكلمات كانت الحقيقة عكس ذلك.
لم يُحبها يوما، لم يكن يصطف برفقة أولئك الذين عشقوا كل تفاصيلها، أولئك الذين نجحوا في إدراك ما هو أعمق وأكبر من مجرد هواية أو انتماء.
إنها لا يُمكن أن تكون قضية، هكذا رأها وهكذا كانت الحقيقة، ولكنه لم يدرك أن من بين ثنايها يمكن أن تكون هناك كل القضايا.
فقط أنت من تملك تحديد الجواب، وأنت من تملك زاوية الرؤية.. ببساطة، كان الأعمى السعيد الذي لم ير الجمال.
في عيد ميلاد الأديب الراحل توفيق الحكيم، FilGoal.com يستعرض معكم قصته مع كرة القدم.
تحمل علاقة الأدباء والمثقفين مع كرة القدم خيوطا معُقدة، فما بين العديد الذين لم يولوا وجوههم شطرها كان هناك العديد ممن وقعوا في غرامها بل ورصدوا تفاصيل عشقها في سطور مرسومة.
نجيب محفوظ، إبراهيم أصلان، خيري شلبي، إبراهيم عبد المجيد، محمود درويش.. جان بول سارتر، ألبير كامو، إدواردو جاليانو.
أسماء قامات تركت أثرها في الأدب العربي والعالمي. ليس الأدب وحده، بل كرة القدم كذلك؛ إذ صنعت كلماتهم تأصيلا لقيمة اللعبة التي اعتبرها البعض من التفاهات.
ولكن علاقة توفيق الحكيم مع اللعبة لم تكن تقع يوما بين فكي التجاهل أو الإلمام، وإنما اختار ما هو أبعد من ذلك، ليعلن كراهيته للكرة علنا ويوجه إليها سهام النقد مرارا.
ليس ذلك فقط، فقد استخدمها بروح الأديب لإظهار سمات المجتمع في كل عصر، راسما صورة عما يمر به المصريون، من خلال اللعبة.
"انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم".
مقدمة للإيضاح
كان الحكيم من أولئك المثقفين المشتبكين مع واقع الحياة اليومية للمصريين، ما قبل يوليو 52 تحدث مرارا وتكرارا عن تردي الأوضاع الاجتماعية والسياسية موجها سهام النقد والإصلاح في ذات الوقت.
تحول بعد ذلك إلى الأب الروحي لـ"ثورة يوليو" كما اعتبره جمال عبد الناصر الذي تأثر بكلماته في رواية "عودة الروح" التي تنبأ فيها الحكيم *"ببطلٍ يخلصها، ويصبح هو المعبود الذي يخرج من بين أبنائها".
ولكن ذلك لم يمنعه من محاولة اتخاذ مسافة من الرئيس رغم حبه له مبررا ذلك "إن الحاكم لا يريد من المفكر تفكيره الحر بل تفكيره الموالي؛ إنه يريد أن يسمع منه تأييدًا لا اعتراضًا".
وبعد وفاة عبد الناصر لم يُبعد الحكيم سهام النقد عن مرماه، وانتقد ذاته على ما بدر تجاه ناصر من انجذاب وإعجاب.
وقال: "أرجو أن يبرّئ التاريخ عبد الناصر؛ لأني أحبه بقلبي، ولكني أرجو من التاريخ ألا يبرّئ شخصًا مثلي، يُحسب من المفكرين، وقد أعمته العاطفة عن الرؤية، ففقد الوعي بما يحدث حوله".
كلمات توضح حجم الصراحة التي تعامل بها الحكيم مع قضاياه حتى وإن أدت إلى الاشتباك مع الذات والأخرين، ولذلك لم تخرج كرة القدم عن القاعدة.
"انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم لقد أخذ هذا اللاعب في سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام إخناتون"
هكذا كان تعليق توفيق الحكيم حينما علم أن أحد لاعبي الكرة الذين لم يتجاوز عمرهم 30 عاما حصل على عقد يبلغ ملايين الجنيهات.
في حوار مع مجلة "أخر ساعة" عام 84 تحدث توفيق باستفاضة عن اللعبة سواء عن طريق الممارسة أو المشاهدة.
وقال: "صحيح أن التليفزيون رفيق وحدتى، لكنى أكره فيه مباريات كرة القدم، أنها تحتل مساحة زمنية كبيرة، والأدهى من ذلك أنهم لا يكتفون بإذاعة مباريات الكرة في مصر بل أيضًا المباريات العالمية".
"وكأن الأقمار الصناعية ما اخترعت إلا لنقل هذه المباريات الكروية من مختلف أنحاء الدنيا".
"كان أملى أن يعطى للعقل اهتماما مماثلا للاهتمام بالقدم، والغريب أن التليفزيون يسيطر تمامًا على انتباه المشاهد، وأبعد الناس عن القراءة يعيشون عصر الثقافة البصرية والسمعية، أما الكتاب فلم يعد أحد يهتم به ولذلك لا يزيد عدد القراء أبدا".
"أتساءل هنا ما الذي يُغري هؤلاء الناس بالقراءة وهم يرون لاعب كرة القدم يعيش حياة لا يعيشها أكبر كاتب، وتتدفق عليه الأموال لمجرد أنه دخل الكرة في الجون".
"فمثلا أن تهز رأسك ليس لهذا ثمن، لكن أن تهز راقصة وسطها أو يحرك لاعب كرة قدم برجله فهذا يدر الكثير لنصل في النهاية أنه لا ثمن للفكر الرفيع".
ولكنه يذهب لأبعد من كرة القدم موضحا عدم حبه لكل الألعاب الرياضية.
"الألعاب الرياضية البدنية في المدارس فلم تكن تستهوينى وأنا صغيرا أو حينما كبرت، لذلك كنت أجتاز فريق كرة الشراب عند انصرافى من المدرسة دون النظر إليه".
"ذات مرة طلب منى رفيقى حلمي بهجت بدوي أن أقف مع فريقه حارس مرمى، ولكثرة اعتذارى قال: لا عليك إلا أن تقف بين حجرين يمثلان المرمى وتمنع الكرة من الدخول إلى المرمى".
"وقبل أن أرد أخذنى هو وزملاؤه ووضعونى وضعا وسط مرماهم، ودار اللعب حامي الوطيس، وجعلوا يتدافعون بالمناكب ويتقاذفون الكرة بالأقدام، وجاءنى حلمي بهجت وقال لا يصح أن ننهزم أمام الفريق الآخر وأنت حارس مرمانا؛ حتى ألعب بكل جهدي".
"المهم يبدو أننا في زمن كرة القدم وليس الفكر والحمد لله الذي جعلنى لا أنجرف نحو هذه الهواية".
_ _ _
يواصل الأديب استعراض رؤيته عن اللعبة، وفي يوليو 1950 كتب في عموده بأخبار اليوم "توفيق الحكيم.. عصاي تقول" عن الكرة المصرية التي لم تكن وصلت لأوج تطورها بعد.
وأراد الحكيم إظهار سمات المجتمع في هذا العصر - ما قبل يوليو 52 - مستخدما كرة القدم لإظهار انعكاسات غلبة الفردية.
قالت العصا..
أجمع هواة كرة القدم ممن يشاهدون المباريات الدولية التي تجري بين الفرق المصرية والأجنبية، على ظاهرة بعينها: هي أن مصر تملك لاعبين من الطراز الأول.. لو أنك أخذتم فردا فردا لتبين أنهم أمهر وأبرع في الغالب من زملائهم الأجانب.
كل منهم يأتي بالمدهش المعجب في حلبات اللعب ولكن هؤلاء الأفراد الممتازين إذا انتظمتهم المجموعة أي مايسمونه "التيم" وواجهوا المجموعة الأخري الأجنبية فسرعان ما يظهر ضعفها أمام "التيم" الأجنبي.
قلت..
السبب واضح: هو أن "التيم المصري" كل فرد فيه يلعب مستقلا عن المجموعة وتطفي عليه براعته الخاصة، فيتصور أن في إمكانه أن يقذف الكرة إلي الهدف يقدمه وحدها، ويؤدي ذلك إلي ضياع الرابطة بينه وبين زملائه اللاعبين، وإلي اختلال النظام الذي يجعل منهم وحدة ممنسقة.
فإذا الفريق مفكك واللعب مرتجل والمصادفة هي التي تقرر النجاح أو الفشل في حين أن "التيم الأجنبي"، كل فرد فيه ولا مزاحم يري الفخر في أن تحصل المجموعة كلها على النصر، دون نظر إلى السبب فيه.
قالت العصا..
تلك هي سمات المجتمع الراقي.. بنيان مرصوص بشد بعضه بعضا، وإن أبناء هذا المجتمع المتين لتظهر فيهم صفات التعاون والتعاطف، جدوا أو لعبوا، فتقودهم إلي الفوز المبين.
في روايته "بنك القلق" التي تنتقل بين السرد الأدبي والمسرحي يؤرخ الحكيم لمشاعر المصريين في فترة ما بعد نكسة يونيو 67 بطريقة كوميدية سوداء، ليستعرض مظاهر القلق عندهم عبر تسعة زبائن يترددون على البنك.
أبرز الحكيم في روايته التي صدرت عام 71 مظاهر التعصب والتطرف الكروي التي انتشرت بين المهتمين بكرة القدم لتُعبر عن حالة الفراغ فيما بعد النكسة ومحاولة إيجاد انتماء يُضفي معنى أو جدوى لحياتهم.
ويتناول مشهدا كوميديا في أحد فصول الرواية الحديث عن مشجع زملكاوي متعصب.
"حصل مرة أن الزمالك كاد فى الشوط الأخير يصيب الهدف، لولا اصطدام الكرة بخشبة المرمى، لم أطق. ولم أشعر بنفسى. وإذا يدى تلتقط شيئًا لم أفطن إذا كان عمامة أو كاسيت، فوق رأس الشخص الذي بجواري".
"قذفت بها فى الهواء، وسط الملعب وبالطبع حدث هياج وخناق، خصوصًا وقد اتضح أن صاحب غطاء الرأس هذا الذي طار فى الهواء هو حيوان أهلاوي".
"وفي مرة أخرى تحمست لهدف عظيم أحرزه الزمالك، فلم أشعر إلا ويدى قد تناولت طفلا صغيرا من حجر أمه الجالسة بجواري ورفعته فى الهواء وقذفت به فى الملعب؟. لا من حسن حظى أدركونى ولكنهم أشبعونى لطما وشتما وأنا أصرخ: هذا شيء غصب عني يا ناس!".
_ _ _
يقول الكاتب أشرف عبد الشافي في كتابه "المثقفون وكرة القدم" إنه يرى أن الكلام عن كراهية المثقفين لكرة القدم وتعاليهم عنها أكذوبة، حتى وإن شارك بعضهم توفيق الحكيم رأيه في أن لاعبي كرة القدم عقولهم في أرجلهم.
ويضيف "قطاع غير قليل من المثقفين يتعاملون مع كرة القدم على أن الهوس بها يعكس عدم وعي الأغلبية، لكن القطاع الأكبر يخالفهم، فحياة المبدعين، تمتلئ بقصص عن عشق المبدعين للساحرة المستديرة وتمتعهم بها لعبا ومشاهدة".
أما مصطفى بيومي مؤلف كتاب "كرة القدم في الأدب المصري.. شهادة اجتماعية وسياسية" فيشرح أن "الوعي بعالم كرة القدم وخصائصه يختلف من كاتب إلى آخر، وهو ما ينعكس على التناول إيجابا وسلبا".
"الكثيرون يرددون مقولة توفيق الحكيم ذائعة الصيت: انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم، وهي العبارة الساخرة التي تتحول عند بعض مردديها إلى ما يشبه الدليل اليقيني القاطع على وجود تناقض حتمي بين كرة القدم والفكر".
"الأمر على هذا النحو لا يمكن أن يستقيم، فالحياة الإنسانية تتسع للاعبي الكرة والأدباء والمفكرين، اتساعها للممثلين والراقصات ورجال الأعمال وأصحاب المهن والحرف والعمال والفلاحين".
"تختلف درجة الثراء والمكانة الاجتماعية وحجم الشهرة بطبيعة الحال، لكن التجاورية قائمة بين هؤلاء جميعا، ولكل منهم دوره الذي لا تكتمل خريطة الحياة إلا به".
اقرأ أيضا
حوار مطول - ميسي يتحدث عن أفضل وأسوأ لحظاته ونيمار وجريزمان ومتى فكر في الرحيل والاعتزال
"من مزاملة رونالدو إلى اللعب ضده وسماع تصفيق جماهيرك له"
بودكاست في الجول - حكايات (1).. الجينجا وسيطرة البرازيل على العالم
رسميا - إيقاف ديمبيلي مباراتين وغيابه عن الكلاسيكو
في الجول يكشف – كيف يجهز ميتشو مصطفى فتحي.. وظهور وارد أمام الأهلي