بعد وقت قصير من الساعة 01:23 صباحًا في السادس والعشرين من أبريل 1986، انفجر المفاعل الرابع في محطة الطاقة النووية بالمنطقة السادسة المعروفة بلينين في أوكرانيا، والشائعة أكثر باسم تشيرنوبل.
تم الكشف عن قنوات الوقود التي يبلغ عددها 1600 قناة في قلب المفاعل وقد انطلقت كاملة في وقت واحد لتعيث الأرض فسادا، ليس بالحريق فحسب، بل أدى ذلك أيضا إلى إرسال الإشعاعات أكثر بحوالي أربعمائة مرة من الكمية المنبعثة في هيروشيما في صباح القنبلة الذرية عام 1945.
كانت الأبخرة والإشعاعات عليما بالفساد في القطر الأوكراني. كرويا كانت مأساة كبيرة من شأنها أن تؤدي إلى محو نادي سرويتيل بريبيات الصغير.
حقيقة الأمر أنها ليست أول مأساة بمنطقة تشرنوبل أو بالأحرى في مدينة بيربيات، فلا يخفى المذبحة العرقية الكاملة التي تمت من قبل الألمان الفيرماخت للأوكرانيين السوفيت أثناء غزوهم للاتحاد السوفيتي عام 1941، لكن حدث أبريل عام 1986 كان مختلفا هذه المرة، كانت كارثة من نوع جديد على كوكب الأرض.
التكلفة البشرية الحقيقية للكارثة لم يتم التحقق منها بالكامل، كشفت دراسة للأمم المتحدة أن عدد القتلى حوال 4000 فقيد، ومع ذلك صرحت منظمة السلام الأخضر أن العدد أقرب إلى 200 ألف فقيد منذ بدء الإشعاعات إلى الآن، إذ علينا أيضا احتساب الخسائر غير المباشرة، بما في ذلك خمسين آلف مواطن من سكان منطقة بريبيات القريبة، جميعهم نُقلوا قسرا.
صورت الأحداث المأساوية التي وقعت في قلب الجمهورية الاشتراكية السوفيتية آنذاك في الآونة الأخيرة من خلال الدراما التليفزيونية الشهيرة لـ تشيرنوبل. الآن، أكثر من أي وقت مضى، تقع الكارثة في مقدمة محاورات أغلب متابعي الدراما حول العالم.
وسط كل ذلك، كان هناك ملعب وفريق يقعا فقط على بعد 5 كيلومترات من مكان الانفجار الناجم!
في زمن ما قبل القطب الأوحد، كانت جميع الأندية في الاتحاد السوفيتي ملكا للدولة وبالأغلب مرتبطة بالوزارات والنقابات العمالية أو المصانع الكبرى بأنحاء الجمهورية الاشتراكية، وكان نادي سرويتيل بيربيات تبعا لمفاعل تشرنوبل الشهير.
تأسس الفريق في السبعينيات من القرن الماضي، فيما يبدو أن الشبكة العنكبوتية قد أسقطته عن غير عمد فلا تتوافر بيانات دقيقة لتواريخ التأسيس لهذا الفريق، فريق ضم الموهوبين من عمال منشأة تشرنوبل النووية، وبدأ أول تكوين نواة لفريق يلعب بالمنافسات الكبرى للاتحاد السوفيتي عام 1981.
فكر المسؤولون في بريبيات أن تكون المدينة نواة للرياضيين الأوكرانيين بأنحاء الجمهورية، بالجوار مفاعل ينقل السوفيت إلى مصاف الأمم المتقدمة ورأسا برأس في مجابهة الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى بعد خمسة كيلومترات في بريبيات يمكننا وصفها بأنها مختبر سوفيتي غير شرير يهدف إلى استنساخ مجموعة من اللاعبين لتمثيل الجمهورية على نفس مستوى ليف ياشين سابقا وحاليا رينات داساييف وأوليج بلوخين، وعلى مستوى عال من الأقرناء الأوكرانيين مثل إيجور بلاينوف، لعبت الرياضة دورا كبيرا في الحياة اليومية لمواطنيها.
كان هناك ما يقرب من عشر صالات رياضية لألعاب القوى، 10 صالات للرماية، وثلاثة حمامات سباحة إلى جانب ملعبي كرة قدم.
نظرا لأن المدينة صارت تعج بالرياضيين الهادفين للهرب من الفقر المدقع نتيجة رواتب لم تتغير منذ سنوات أمام سلع استهلكت فائدتها تباعا، أصبح متوسط عمرها يبلغ حوالي 26 عاما فقط.
ربما المدينة والعمل بالمفاعل هى الجنة بالنسبة للمواطن الأوكراني صغير السن، إذ يعمل نهارا في مؤسسة تحذر من أي تدخل بشري قد ينجم عنه كارثة، وليلا يمارس كرة القدم بالقميص الأخضر والأسود، ويحصل ليلا على أجر يومي نظير العمل بالمصنع ولعب كرة القدم مع زجاجة فودكا مجانا.
حصة الفودكا بعد الانفجار زادت مرة ونصف، فبعد وقوع كارثة تشرنوبل (انفجار مفاعل تشرنوبل)، طلبت الحكومة السوفيتية من الناس الذين نجوا من الحادثة بشرب نصف كأس من الفودكا كل ساعتين. إذ اعتقدوا أن الفودكا تساعد في التخلص من آثار الإشعاعات التي تعرضت لها أجسامهم.
فيث تروفوميتيش رئيس نادي سيتروييل بيرييات، أوكراني الهوية وسوفيتي سابق، على الرغم من أنه لم يكن أحد أنصار كرة القدم بالجمهورية المترامية إلا أنه كان عضوا بارزا في الحزب الشيوعي الحاكم وحصل من قبل على وسام لينين من الطبقة الأولى تقديرا لجهوده المجتمعية تحدث لجريدة فوتبلجراد لاحقا عن قصة هذا النادي.
يقول تروفوميتيش: "في الحقيقة أن النادي كان الشيء الرأسمالي الوحيد بتلك البقعة الاشتراكية، كان أعضاؤه من لاعبي كرة القدم خارج النطاق الهرمي الرياضي للرواتب، فحصلوا على امتيازات جمة وربما كانت مدينة بيرييات نموذجا للمدينة السوفيتية الفاضلة التي انتقت أفضل عناصر أوكرانيا رياضيا".
ويضيف: "هذا النادي كان جنة للرعاة الذين استفادوا بهذا المتنفس الرأسمالي من أجل الاستثمار في بلد يوزع كافة الإنتاج سواء، على سبيل المثال كان الروسي ستاسيلاف جروشينكو ينضم لهذا النادي الوليد عام 1979 رافضا كل العروض من سبارتاك موسكو ومن دينامو كييف!".
في عام 1981، قام تروفيموفيتش بأكبر خطوة له لنهضة نادي بريبيات، عندما عين أناتوليا شيبيل كمدير فني للفريق.
كان شيبيل لاعبًا دوليا سابقا في الاتحاد السوفيتي ولعب مع أندية عريقة أمثال دينامو كييف و أوديسا ودينامو موسكو، قبل اعتزاله كرة القدم الاحترافية في عامه الواحد والثلاثين جراء الإصابة العنيفة التي تعرض لها في كاحله.
ولتجديد دماء معاصرة في الفريق، فإن دور شيبيل في سترويتل سيكون مشابها لتعيين فلورنتينو بيريز للفرنسي زين الدين زيدان كمدير فني لريال مدريد، لاعب ذو إنجازات فنية كبيرة مع خطوات قصيرة في عالم التدريب.
كان تعيين شيبيل في بريبيات علامة على النوايا للاستثمار في الطاقات الشابة بالفريق لتناسب تجديد الدماء، و كان لدى سترويتل طموحات قوية.
كان عام 1981 أيضا تاريخيا بالنسبة لشركة بيرييات لسبب آخر، إذ رأى أن النادي يقوم بأول غزو له بكرة القدم السوفيتية، في حين أن مكانة تروفيموفيتش المرتفعة داخل الجهاز الشيوعي قد سمحت لسترويتل بجذب بعض من أبرز الأسماء في كرة القدم بالجمهورية.
لكن رعايته تلك لم تسمح لنادي بريبيات بتجاوز الهيكل الحالي لكرة القدم في المنطقة. كان على سترويتل بريبيات أن يبدأ من أدنى درجات هرم كرة القدم السوفيتي في الدرجة الرابعة.
لسوء الحظ بالنسبة لنا، فإن السلطات السوفيتية، بحكمتها اللا متناهية لم تسع جاهدة لجعل هرم كرة القدم في الاتحاد السوفيتي مقروءا بسهولة لأي مواطن يقرأ في الرياضة خارج نطاق الجمهورية في القرن العشرين والحادي والعشرين.
يمكننا أن نفترض على النحو التالي: دوري الدرجة الأولى خاص بالأندية الروسية والجورجية والأوكرانية، ثم دوري القسم الثاني خاص أيضا بنفس الجمهوريات الثلاث، ثم تصنيف مختلف خاص بمختلف الجمهوريات المختلفة في الاتحاد السوفيتي. هذه كانت معروفة ومجتمعة باسم دوري الـ KFK.
بشكل منفرد، شكّل دوري الـ KFK وحده خمس درجات مختلفة وحده، سيشارك المتأهلون في كل قسم من فروع KFK في مسابقة وطنية تمثل الطبقة الرابعة التي تواجه الفائزين الآخرين من جميع أنحاء الاتحاد وهكذا حتى يصل الفائز النهائي إلى دوري الدرجة السوفيتية الثانية ويخوض غمارا آخر سعيا للوصول للدرجة الممتازة.
سار بيرييات ببطء ولكن بثبات، سنة بعد سنة، تحسنت نتائجه بدوري الـ KFK، تقدم سترويتل من المركز الأخير في دوري الدرجة الرابعة عام 1982 إلى المركز الثاني في المسابقة النهائية للدرجة الأولى من الـ KFK عام 1985.
وفي عام 1986، بدا سترويتل مستعدا بعد التأهل لدوري الدرجة الثانية العليا (ثاني أعلى المسابقات بالاتحاد السوفيتي)، أن يذهب بعيدا بكتيبة نجومه من أجل ألقاب في سنوات قادمة.
بداية النهاية
بدعم من أجل تحقيق الطموحات السامية داخل وخارج الملعب لبيرييات، احتاجت الشركة المسؤولة عنه لوضع البنية التحتية لنشاط النادي، تم افتتاح ملعب النادي ملعب "أفانهارد" الذي تم افتتاحه في عام 1979.
ولكن كان الملعب غير مناسب للطموحات المتجددة في عام 1985 وتم وضع خطط لتحويل المكان لممارسة رياضات متعددة الأغراض بالإضافة إلى ملعب لكرة القدم يتسع لحوالي خمسة عشر ألف متفرج.
كان من المقرر إعادة افتتاح أفانهارد بعد التجديدات في مايو 1986. إذ كان سترويتل في تحدٍ جديد من نوعه اقترابا لحلمه أمام شاختار أولكساندريا من أجل الصعود للدوري الممتاز.ولكن لم يُقدَر أن تسير الأحداث بإشعاعات أبريل البائسة.
كان 26 أبريل 1986 يوما مهما للغاية في بوروديانكا التي تبعد عن بيرييات مسافة 100 كيلومتر، تلك المدينة التي تحوي فريق ماتشينوسترويتيلي، الخصم اللدود لفريق سيترويتيل بيرييات.
كانت آخر فرصة لفيكتور زيهلين لتدريب فريقه قبل مباراة ماتشينوسترويتيلي في نصف نهائي كأس كييف خارج أرضه أمام سترويتل بريبيات في اليوم التالي. ومع ذلك، كما تقول القصة، تم إيقاف تلك التدريبات الحميمية بواسطة زائر غير عادي.
هبطت طائرة هليكوبتر تابعة للجيش في ملعب كرة القدم الصغير بالمدينة وقال مسؤولون عسكريون بلهجة مقتضبة لزيهلين إن فريقه لن يسافر إلى ملعب أفانهارد لملاقاة بيرييات.
بالطبع، كان مواطنو بريبيات، ناهيك عن مواطنيهم في بوروديانكا وفي أماكن أخرى، يجهلون الحدث الحقيقي في منشأة تشيرنوبيل. وكان الدور نصف النهائي لسرويتيل بريبيات في كأس كييف أول ضحية للكارثة النووية. المفارقة المريرة التي حملها ماشينوستريلي، المعارضون المقررون لبيرييات على اللقب في تلك السنة.
لن يتم إعادة فتح ملعب أفانهارد للجمهور بعد الإشعاعات الكبيسة لمدة ست أعوام حين استقلت أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي، يقف المدرج الرئيسي والمنصة التي تم تجديدها، والتي تم استصلاحها الآن لطبيعتها الجديدة، دون أن يمسها أحد لتبقى نصبا تذكاريا لمدينة نموذجية سوفيتية جميلة ذات يوم قبل الدمار النووي.
ولكن في الحقيقة وبعد وقت قصير من وقوع الكارثة، استولى الجيش على ملعب أفانهارد حتى يكون مركزا لعملياته للتطهير من الاشعاعات المنطلقة. وشارك كابتن فريق سترويتل فالنتين ليتفين في هذه العملية كونه ضابطا في الجيش الأحمر.
انسحب سترويتل بريبيات من موسم 1986. لقد تحطمت أحلامهم بالتأهل للممتاز نتيجة القصور في النظام النووي السوفياتي.
بعد ثلاثة أيام من الانفجار الذي وقع في تشرنوبل، نقلت السلطات السوفيتية ما تبقى من سكان بريبيات إلى مدينة سلافوتيتش، على بعد 45 كيلومترا من تشيرنوبيل، ولكن داخل منطقة كييف.
جنبا إلى جنب مع الناس، اتخذت مؤسسات بريبيات أيضا هذه الخطوة. نادي بيرييات تغيرت هويته مع الانتقال أيضا، تم تغيير الاسم من سيترويتيل بيرييات إلى سيترويتيل سلافويتش.
وعلى الرغم من أن سترويتل كان سيلعب مبارياته على أرضه في سلافوتيتش، إلا أن المدينة كانت تفتقر إلى المرافق اللازمة للتدريب المنتظم، فانتقل الجميع للعب بمدينة كييف الرئيسية، وسط حيتان جماهير نادي دينامو كييف، لم يكتسب النادي البائس الشعبية اللازمة واندثر للأبد.
عاد النادي إلى بطولة KFK في عام 1987 وبدا في البداية وكأنه يكرر نجاحه قبل حادثة تشرنوبل، ليحتل المركز الثالث. ومع قطع الصلة بين نادي سيتروتيل وبين تشرنوبل، لم يعد اللاعبون مدينين للعب مع النادي.
شهد عام 1988 ارتفاعا كبيرا في عدد الراحلين من النادي لعدم توافر الدعم اللازم، ومع حلول عام 1990 عاد النادي مجددا لدوري الدرجة الخامسة في المركز الثامن، في أقل ترتيبات كرة القدم السوفيتية.
مع اقتراب المغادرة في نهاية موسم 1990\1991من بطولة KFK إلى درجات الهواة السحيقة، اتخذ نريموفيتش رئيس النادي القرار الأصعب بتصفية النادي للأبد.
انتهت أغلب التصفية الرسمية لآثار تشرنوبل في أوائل عام 1987، ولكن سترويتل، بعد مرور أربع أعوام ، كان الضحية الأخيرة لتلك العملية. لقد كانت نهاية مخزية لطرف أبدى طموحاته في الدرجة الأعلى بتاريخ الكرة السوفيتية، والذي اقترب من تحقيقها، قبل أربعة سنوات فقط وعلى بعد مباراة واحدة.
اتضح أن الإشعاع مميت أيضاً تجاه كرة القدم.
أثنى النقاد والجمهور على مسلسل تشرنوبل، وخاصة قيمته الأخيرة في تكريم ذكرى المواطنين السوفييت العاديين، الذين لم يتم ذكر أسمائهم أو التعرف عليهم، والذين تحولت حياتهم إلى كابوس حي بسبب الكارثة التي وقعت في محطة السادس لينين التذكارية للطاقة النووية أو محطة تشرنوبل.
قصة نادي بيرييات ربما تفعل الشيء نفسه. ولد سترويتل بريبيات في ظل وتحت رعاية أموال القوة النووية. كان لدى راعيها، فاسيلي تروفيموفيتش، طموحات رفيعة والتي سوف يقابلها النجاح الميداني، والاستثمار في البنية التحتية، واحتمال جلب كرة القدم إلى الاحتراف في المناطق الشمالية من جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية.
وأخيرا لاحظ فيث تروفيموفيتش قبل إعادة الافتتاح المشؤومة لاستاد أفانهارد في مايو 1986 أن الملعب الجديد سيكون مهما للناس مثل المفاعل الجديد (كان من المقرر افتتاح مفاعل خامس في عام 1986)، ولكن الأمنيات الوليدة وئدت بل وربما أنهت جمهورية الاتحاد السوفيتي معها.
اقرأ أيضا:
خبر في الجول - الشعلالي ينضم لجهاز البدري
حوار في الجول – بيليتش يتحدث عن أهمية حجازي "القائد".. ولحظات لا تنسى في مسيرته
الإصابات تعيد ميسي 14 عاما إلى الخلف
شريف إكرامي: يوسف ظُلم.. وصلاح من حقه "يزعل"
العنصرية الإيطالية خارج الملعب - منع مشجع من حضور المباريات.. وبولونيا يدافع عن ميهايلوفيتش