كتب : زكي السعيد
2 يونيو 2016، شخص بملامح جادة، يقف في ملعب كرة قدم، يحمل ورقة، يتقدّم نحو المصوّر، ويُبرِز ما المكتوب باللغة السواحلية:
"الأطفال هم كونغو الغد. حرروهم من التجنيد الإجباري".
اقرأ عن رحلاتنا السابقة في إفريقيا من هنا
هذه الدولة الواقعة على غرب إفريقيا، والتي تتشارك في حدودها مع 9 دول مختلفة، شهدت نزاعات عسكرية دموية طوال العقود الماضية منذ استقلالها عن بلجيكا في ستينيات القرن العشرين.
حروب أهلية داخلية وإقليمية، قُتل على إثرها أكثر من 5 ملايين شخص.. لكن الضحايا لم يكونوا من فقدوا حيواتهم فحسب، بل الأطفال أيضا.
في إحصائية صادرة عام 2003، يتضح أن الجماعات المسلحة في الكونغو، قامت بتجنيد حوالي 30 ألف طفل في جيوشها!
وفي الفترة ما بين يناير 2012 وحتى أغسطس 2013، رصدت الأمم المتحدة 1000 حالة تجنيد للأطفال على الأقل!
طوال هذه الحروب الطاحنة والتي أُريقت فيها الدماء دون هوادة، اعتاد الجنود اختطاف الأطفال من منازلهم، وتجنيدهم وإجبارهم على حمل السلاح.
الإكراه لم يكن وحده وسيلة لقتل الطفولة في هذه النفوس الصغيرة، بل تشير إحدى الإحصائيات إلى تقدُم 35% من الأطفال إلى التجنيد طواعية في الكونغو الديمقراطية!
هذا التجنيد الغاشم يقتنص الأطفال منذ عمر السادسة، ولا يستهدف الفتية فحسب، بل تقع الفتيات أسيرات لحمَلة السلاح المتوحشين، ويبلغن ثُلث إجمالي عدد المجندين من الأطفال.
تجنيد الأطفال الإناث يكون لأغراض جسدية، إذ يتم استخدامهن كزوجات لجنود أكبر عمرا، ويتعرضن لانتهاكات جنسية قاسية.
هذا الرجل صاحب الوجه الجاد الذي يحمل الورقة ذات اللغة السواحلية، هو فلوران إيبينجي، المدير الفني لمنتخب الكونغو الديمقراطية، أحد المنتخبات الأربعة والعشرين التي تتنافس في كأس الأمم الإفريقية 2019 على أرض مصر.
زئيرٌ ضائع لـ زائير
قد لا يدرك البعض عراقة الكونغو الديمقراطية في كأس الأمم الإفريقية، لكنها احتاجت إلى مشاركتين فقط حتى تحصد أولى ألقابها.
الكونغو شاركت في البطولة 18 مرة سابقة، وحصدت لقبين بالفعل عامي 1968 و1974، والثاني تحقق من قلب القاهرة.
كما فازت الكونغو بالمركز الثالث مرتين، عام 1998، وعام 2015.
تحت مسمى "زائير" نثرت الكونغو الديمقراطية الرعب في القارة السمراء بقيادة "القاتل" نداي مولامبا، وكانت ثالث منتخب إفريقي يلعب في كأس العالم بعد مصر والمغرب.
بل تمتلك الكونغو الديمقراطية انتصارا تاريخيا على مصر في استاد القاهرة بنصف نهائي 1974.
يومها تقدّمت مصر بهدفين دون رد وكانت في طريقها إلى اللقب الثالث بعد أشهر من حرب أكتوبر، لكن زائير صعقت الحضور وسجّلت 3 أهداف متتالية وكتبت هزيمة فادحة للفراعنة هي الأكثر مرارة ربما في تاريخ المشاركات.
هذه النسخة شهدت تسجيل مولامبا نجم زائير 9 أهداف جعلته هدافا للمسابقة، وحفظت له الرقم القياسي لأكثر عدد من الأهداف في نسخة واحدة من أمم إفريقيا حتى يومنا هذا.
السنوات اللاحقة في حياة مولامبا شهدت الكثير من البؤس والأحزان، خصوصا بعد أن قُتل نجله برصاصة استقرت في جسده أمام ناظريه.
اقرأ: القاتل نداي مولامبا.. رسائل موبوتو بين النعيم والشقاء
بعد 32 عاما، لم يقدر لومانا لولوا على قيادة الكونغو لقهر مصر في ربع نهائي نسخة 2006، ليسقط منتخبه 1-4 أمام البلد المضيف، لكنه سيواجه مصيرا مأساويا مشابها لسلفه مولامبا.
بعد مشاركته في 2006 وعودته إلى بلاده، أدرك لولوا أن طفله البالغ من العمر 18 شهرا فقط، توفي بعد إصابته بمرض غامض، ورفض الاتحاد الكونغولي إبلاغه بالنبأ خلال البطولة حتى لا يتم تشتيته!
في 2019، تعود الكونغو للمشاركة في أمم إفريقيا على أرض مصر للمرة الثالثة، وستحافظ على تقاليدها وتواجه المنتخب صاحب الأرض مجددا، لكن في دور متقدم للغاية هذه المرة.
تصفيات متعثرة
لم تقطع الكونغو الديمقراطية مرحلة التصفيات بسلاسة بالغة، إذ توجب على جماهيرها حبس الأنفاس حتى الجولة الأخيرة، والفوز يومها كان إجباريًا لخطف بطاقة العبور، وهو ما تم.
افتتحوا التصفيات بفوز مهم على الجارة الكونغو برازافيل، قبل أن يفقدوا نقطتين في الجولة الثانية على أرض ليبيريا.
الصدمة الحقيقية حدثت في الجولة الثالثة، والتي صنعت منعرجا جديدا للتصفيات.
الكونغو سقطت على ملعبها في قلب كينشاسا بهدفين مقابل هدف أمام زيمبابوي، لتنقلب موازين المجموعة.
في الجولة الرابعة صمدت زيمبابوي أمام الكونغو وفرضت التعادل 1-1، قبل أن تفرط الكونغو الديمقراطية بمزيد من النقاط بتعادلٍ بنفس النتيجة أمام الكونغو برازافيل في الجولة الخامسة.
الكونغو الديمقراطية عاشت كابوسا حقيقيا بحلو نوفمبر 2018، إذ فرطت في نقاط لأربع مباريات متتالية، وبات عليها الانتظار حتى مارس 2019 لمواجهة ليبيريا في مباراة الحسم بالجولة الأخيرة.
ليبيريا امتلكت 7 نقاط وقتها، مقابل 6 نقاط للكونغو الديمقراطية، والتعادل قد لا يكون كافيا خصوصا أن الكونغو برازفايل امتلكت في جعبتها 5 نقاط بدورها قبل مواجهتها لـ زيمبابوي.
في الدقيقة 52 من مباراة المصير، انفجر ملعب الشهداء في العاصمة كينشاسا بالصراخ، بعد أن سجل سيدريك باكامبو، هدفٌ كان الأوحد في تلك المواجهة، وكان كافيا لعبور الكونغو الديمقراطية إلى مصر 2019.
باكامبو كان هدافا لبلاده في التصفيات بـ3 أهداف، منها 2 في المباراة الأولى، وواحد في الأخيرة، وما بينهما كان ضياعا للفهود الكونغولية.
رجل سيتعرض لسكتة دماغية
بالعودة إلى إيبينجي الذي تقدّم ذكره في هذه السطور، فإنه ليس مناهضا لتجنيد الأطفال فحسب، بل أيضا مدرب أعاد للكرة الكونغولية جزءا من هيبتها المفقودة.
لم يكن لاعبا كبيرا، فآمال والده منعته من الوصول لمستوى عالٍ.
يقول إيبينجي: "كنت لاعبا هاويا، قدراتي كانت تسمح لي باللعب في مستوى أعلى، لكن والدي الذي كان طبيبا أراد مني التركيز على دراستي للاقتصاد".
حصل إيبينجي على شهادة جامعية في الاقتصاد، لكنه لم يتخل عن طموحه بشكل كامل، وبحث عن شغفه الكروي في مجال التدريب.
بدأ المغامرة في الصين عندما ارتحل ليشغل منصب المساعد لـ نيكولاس أنيلكا في تدريب شانغهاي، قبل أن يعود لتدريب فيتا كلوب في 2014، وفي العام نفسه، قادهم لإنجاز تاريخي بالوصول لنهائي دوري أبطال إفريقيا.
كان هذا الوصول الأول لـ فيتا كلوب للمباراة النهائية بعد 32 عاما من الانتظار منذ التأهل الأخير عام 1982، لكن أفضلية الأهداف المسجلة خارج الأرض نصرت وفاق سطيف الجزائري، وحرمت الخبير الاقتصادي من إنجاز تاريخي.
إيبينجي تلقى المكافأة في نفس العام، وتولى تدريب الكونغو الديمقراطية مؤقتا خلفا لـ كلود لوروا، دون أن يرحل عن فيتا كلوب.
رئيس الاتحاد الكونغولي صرّح حينها أن الوظيفة يمكن أن تكون دائمة لو نجح إيبينجي في مهمته المؤقتة، وهو ما حدث.
"نحن ذاهبون إلى الحرب".. هكذا صرّح إيبينجي قبل أمم إفريقيا 2015، وقد كان محقا عطفا على الروح التنافسية الكبيرة التي أظهرها لاعبوه، وعاد إلى بلاده متوجا بالمركز الثالث التاريخي.
إيبينجي لا يهتم بالقضايا الإنسانية فحسب، بل يطمح إلى المساواة أيضا.
صرّح في 2015 أنه لم يتقاض راتبه من الاتحاد الكونغولي منذ 6 أشهر، وأنه لم يوقّع على عقد من الأساس.
يقول إيبينجي: "عندما يتعاقدون مع مدرب أجنبي، فإنهم يفرشون له السجادة الحمراء، ويوفرون له كل ما يحتاجه في عمله".
"على النقيض، يكون العمل معقدا بشكل أكبر على المدرب الوطني، وهذه قرارات يتخذها المسؤولون".
"لا أدري لماذا يفضّلون مدربا على الآخر رغم أن قدراتهما متشابهة".
"نحن في القرن 21، هذا الوضع يجب أن يتوقّف، لا يجب الالتفات إلى لون الشخص، لو كان العمل متساويا، فيجب أن يكون المقابل المادي متساويا".
في 2017 اشتكى إيبينجي من الضغط الهائل الواقع على كاهله جراء مهمته المزدوجة:
"تدريب منتخب الكونغو وفيتا كلوب يتطلب الكثير من العمل. تدريب فيتا كلوب تحديدا يُسبب ضغوطا أكثر من تدريب مرسيليا بـ10 مرات".
"لم أنم جيدا لأكثر من 3 سنوات، أرتحل كثيرا، لا أستطيع الحصول على إجازات، هذا نسق رهيب، يمكنه أن يتسبب لك بسكتة دماغية".
المركز الثالث في أمم إفريقيا 2015 لم يكن إنجاز إيبينجي الكبير الوحيد، بل قاد بلاده للفوز بكأس الأمم الإفريقية للمحليين في العام التالي، 2016.
تلك البطولة شهدت استدعائه لـ8 لاعبين من فريقه فيتا كلوب شكّلوا القوام الرئيسي في التتويج الكونغولي، لكن ليس هذا الحال دائما.
انتماؤه لـ فيتا كلوب لم يدفعه لمحاباة لاعبيه أبدا على حساب الغريم مازيمبي، فبنظرة على القائمة الحالية، نجد ثنائي من فيتا كلوب، و3 لاعبين من مازيمبي.
في أمم إفريقيا 2017، ودعت الكونغو بصعوبة من ربع النهائي أمام غانا القوية، لتنهال عليه الانتقادات بعد أن رفع سقف الطموحات.
إيبينجي أبدى غضبه لردود الفعل، وخرج موبخا الجماهير مع تردد أنباء عن إمكانية إقالته:
"عند تعييني كمدرب للمنتخب، جمعت طاقمي الفني وأخبرتهم أننا لن نستمر في مناصبنا للأبد".
"لقد جُن جنون الإعلام منذ خروجنا، لقد خسرنا أمام غانا وليس أي فريق عادي. يتناسى الناس أننا أنهينا عام 2016 دون أي هزيمة، وبمجرد خسارتنا لمباراة واحدة يكون رد الناس وكأنها كارثة كونية".
"لدي عقد قائم، ولكن لن أطالب بتجديده، ولن أقود الكونغو الديمقراطية في كأس الأمم الإفريقية للمحليين 2018".
رغم ذلك، استمر إيبينجي في منصبه، بل كان قريبا من قيادة الكونغو لتأهل تاريخي ثانٍ إلى المونديال، لكن بعض التفاصيل الدقيقة في مواجهتي تونس خلال التصفيات، بخّرت الحلم.
في مصر 2019، سيطمح إيبينجي لتحسين موقفه المهزوز بعد انطلاقة نارية على رأس القيادة الفنية للكونغو الديمقراطية.
أزمة إدارية
وجد إيبينجي نفسه مجبرا على استبعاد 3 لاعبين من قائمته النهائية لكأس الأمم الإفريقية، لأسباب غير فنية.
كابونجو كاسونجو مهاجم الزمالك المعار للوحدة السعودي، وجاكسون موليكا مهاجم مازيمبي، لم يحصلا على تأشيرة السفر إلى إسبانيا حيث أقيم المعسكر الإعدادي للكونغو، ليضطر إيبينجي إلى استبعادهما من القائمة النهائية.
أما الثالث، فهو جيانيلي إمبولا لاعب رايو فايكانو الإسباني المولود في بلجيكا لوالدين كونغوليين.
إمبولا اختار تمثيل بلده الأصلي الكونغو، وانضم بالفعل للقائمة الأولية المشاركة في أمم إفريقيا 2019.
لكنه صُدِم بقرار الاتحاد الدولي بمنعه من تمثيل الكونغو في البطولة، لأن الطلب المُقدَم من الاتحاد الكونغولي جاء متأخرا عن الموعد المحدد.
الكونغو في 2019 تحضر دون بعض الأسماء التي اعتدنا رؤيتها في السنوات الأخيرة، فلا وجود لهدافها التاريخي ديومانسي مبوكاني، أو للمهاجم الخطير جونيور كابانجا، كما استبعد إيبينجي لاعبه جيل كاكوتا الذي كان يومًا ما أفضل لاعب في بطولة أوروبا للشباب قبل 9 سنوات مع فرنسا.
أما في قائمة الحاضرين لمصر 2019، فتبرز عدة أسماء مميزة، على رأسها يانيك بولاسي جناح أندرلخت الذي برز في الدوري الإنجليزي سابقا رفقة كريستال بالاس وإيفرتون.
بولاسي تعرض لإصابة قبل البطولة، لكنه سيكون جاهزا للتنافس على الأرجح.
لاعب آخر سيشكل تهديدا كبيرا على مرمى الخصوم، هو سيدريك باكامبو مهاجم بكين جوان الصيني الذي قدّم مستويات سابقة مميزة مع فياريال.
في خط الدفاع، يتواجد الخبير إيسما مبيكو أكثر اللاعبين تمثيلا للكونغو تاريخيًا، ويسانده مارسيل تيسيراند قلب دفاع فولفسبورج.
على الجهة اليسرى يظهر أرتور ماسواكو ظهير وست هام يونايتد، وفي خط الوسط يتواجد القائد يوسف مولومبو، في حضور تريسور مبوتو صانع ألعاب مازيمبي الدولي منذ عام 2004.
ومن الظواهر اللافتة في قائمة الكونغو، تواجد بارفيت مانداندا، شقيق ستيف مانداندا الحارس الدولي الفرنسي، ولكنه لن يكون أساسيًا.
التشكيل المتوقع:
حراسة المرمى: أنتوني موسي
الدفاع: إساما مبيكو – مارسيل تيسراند – كريستيان لوينداما - آرثر ماسواكو \ نجوندا موزينجا
الوسط: يوسف مولومبو – تشانسيل مبيمبا – تريزور مبوتو – بول جوزيه مبوكو – يانيك بولاسي \ جاك ماجوما
الهجوم: سيدريك باكامبو
مواجهات متكررة
تتواجد الكونغو الديمقراطية في المجموعة الأولى بكأس الأمم الإفريقية 2019، رفقة مصر، وزيمبابوي، وأوغندا.
تخوض الكونغو أول مباراة على استاد القاهرة يوم 22 يونيو في مواجهة أوغندا، ثم تلعب أمام مصر على نفس الملعب العريق يوم 26 يونيو، وتختتم الدور الأول بصدام مع زيمبابوي يوم 30 يونيو على ملعب الدفاع الجوي.
تصدُر الكونغو الديمقراطية للمجموعة سيدفعها إلى مواجهة ثالث المجموعة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة.
أما احتلالها المركز الثاني فيضعها في مواجهة ثاني المجموعة الثالثة.
لو كانت سعيدة الحظ وتأهلت عبر بوابة المركز الثالث، فستواجه متصدر المجموعة الثانية أو الثالثة.
ولن تكون مواجهة الكونغو ومصر هي الوحيدة المألوفة في هذا الدور، بل صدام الكونغو زيمبابوي يحمل طابعا خاصا أيضا.
زيمبابوي هزمت الكونغو الديمقراطية في قلب كينشاسا خلال التصفيات، وفرضت التعادل في المباراة الأخرى، لتحمل المباراة طابعا ثأريا لرجال المدرب إيبينجي.
في منطقة نائية وأمام شاشة صغيرة ضعيفة الجودة، يجلس طفل لم تنم لحيته، يحمل سلاحا في يده وأملا في قلبه بإنجاز تاريخي تحققه بلاده.
فليحرص لاعبي الكونغو على رسم بسمة على هذا الوجه الكئيب، الذي أعيته الدماء وقُتلَت طفولته في مهدها.