26 مليون نسمة في غانا يتحدثون 80 لغة، أمة كروية عظيمة كما يحلو للمدربين الأجانب القادمين للعمل في إفريقيا وصفها. بلاد النجوم السوداء لها تاريخ طويل وباع أطول في كرة القدم الإفريقية.
لكن هذا التاريخ كله يمكن اختصاره في كلمتين فقط: تشارلز جيامفي.
إذا وضعنا ترتيب الفائزين بكأس الأمم الإفريقية، سنجد أن مصر ستتصدر بـ7 ألقاب، ثم الكاميرون بـ5 ألقاب، ثم غانا لديها 4 ألقاب. بعدها نجد رجلين، جيامفي وحسن شحاتة ولكل منهما 3 ألقاب.
هنا نحكي حكاية رجلين. قصتان متشابهتان لدرجة لا تصدق لبطلين ليسا فقط من أساطير التدريب في إفريقيا بل في العالم، عن لاعبين عظيمين، ومدربين صنعا تاريخا لا ينسى، قصتان عن الكرامة الوطنية والانتماء وصنع المعجزات.
المفكر الوطني الذي ضل الطريق لكرة القدم
"طفل ذكي"، هكذا يتذكره جميع من عاصروه يافعا، ولكن دون كرة القدم ما كانت تلك الخصال لتظهر.
ابن الـ15 عاما ترك مدينته إلى العاصمة أكرا، وأراد والديه أن يلتحق بمدرسة أكرا رويال الشهيرة في غانا. ولكن باب التقديم كان قد أغلق، وهنا بحث جيامفي عن الحل، كرة القدم.
ذهب جيامفي لمدرب فريق الكرة في المدرسة وتحداه قائلا إنه أفضل من كل لاعبي فريقه، المدرب قرر الرضوخ للتحدي وأشركه في مباراة، ليبهر ابن الـ15 عاما المدرب ويذهب به إلى ناظر المدرسة لقبوله طالبا فيها.
تأثير جيامفي على كرة القدم الغانية تخطى كونه صانعا لألعاب كوتوكو وهدافا رائعا من وسط الملعب، ولكنه وصل لتأسيس ناد بعد انشقاق ضرب أشانتي كوتوكو. جريت أشانتيز كان فكرة جيامفي.
بعد 5 أعوام من التألق بقميص كوتوكو، غضب جيامفي من بعض الأمور الإدارية وكوّن النادي الوليد مع بعض من اللاعبين، الفكرة واجهت معارضة شديدة في معاقل الأشانتي الذين كانوا يعتبرون كوتوكو منتخبهم الوطني، ولكنه قاوم الجميع وكون ناديا ناجحا كلاعب ومدرب في نفس الوقت.
قصة تبدو عادية، لكنها تكتسب مزيدا من المجد حينما تعرف إنه كان حينها في عمر الـ29.
تأثير جيامفي على الكرة الغانية لم يتوقف هنا، هل تعلم أنه السبب في لعب الغانيين بالأحذية بعد أن كانوا يلعبون حفاة؟
تم اختياره ضمن منتخب ساحل الذهب لخوض مباريات استعراضية في إنجلترا – المحتلة لغانا في ذلك التوقيت، عام 1951. منتخب أصحاب البشرات السوداء، دون أحذية، سجلوا 25 هدفا في تلك المباريات، منها 11 من توقيع جيامفي نفسه.
وبعكس أقرانه، لم يصرف جيامفي الأموال التي حصل عليها من المباريات الاستعراضية على شراء الملابس وخلافه، بل على أمر يثبت أهميته لتاريخ الكرة الغانية وربما الإفريقية، التخطيط لمستقبل كرة القدم في بلاد البلاك ستارز.
عمل جيامفي تسبب بعد سنوات في ارتداء لاعبي كرة القدم في غانا للأحذية، وكان من الطبيعي للاعب في عقليته أن يكون المحترف الغاني الأول خارج البلاد، تحديدا في دوسلدورف الألماني. "توندا"، البرق، هكذا سماه جمهور فريقه الجديد.
بعد عام واحد من اللعب في دوسلدورف، أرسلت السلطات الغانية الجديدة بقيادة كوامي نكروما جيامفي لدراسة التدريب في عام 1961، ليعود إلى غانا في نفس العام ليعمل كمدرب مساعد للمجري جوزيف إيمبر.
المجري رحل بعد ذلك بأشهر، ليصبح جيامفي المدير الفني لمنتخب غانا، صاحب اللا تاريخ في الكرة الإفريقية.
مع قدوم منتخبات الجمهورية العربية المتحدة والسودان وإثيوبيا – المؤسسين للاتحاد الإفريقي لكرة القدم – إلى غانا في 1961 لخوض غمار كأس الأمم الإفريقية، كانوا هم بطبيعة الحال المرشحين الأقوى. رغم تألق حسن الشاذلي حينها وتسجيله لـ6 أهداف، فشل فريق الجمهورية العربية المتحدة في الوصول للنهائي الذي وصل إليه متصدري المجموعتين الأولى والثانية، غانا والسودان، وبثلاثية نظيفة كانت الغلبة لأصحاب الأرض.
بعدها بعامين، درأ جيامفي الأحاديث حول وراثته لعمل جاهز من المجري إيمبر حيث حصد الكأس الثانية ضد نسور قرطاج في منزلهم، ملعب الشاذلي زويتن.
في 1982، حصد جيامفي الكأس الثالثة في ليبيا، في وقت تكاثرت فيه الأقاويل إن منتخب النجوم السوداء سيترك البطولة لمنتخب معمر القذافي الذي كان يتمتع بعلاقات جيدة مع حاكم غانا الجديد جيري لاولر.
جيامفي صاحب الميول الوطنية الشديدة، قاتل لأجل لقب حصده داخل طرابلس بعد ماراثون ركلات جزاء ضد أحفاد عمر المختار في النهائي، ليصبح أول مدرب يحصد اللقب 3 مرات.
"لقد كان أفضل مدرب عملت معه، زرع فينا الالتزام سواء نفسيا أو فنيا. لا يعرف شيئا سوى التدريب والتدريب والتدريب. لقد جلعنا أقوياء"، هكذا تحدث أسطورة كرة القدم الغانية أوسي كوفي عن جيامفي، الذي يضم تحت مقوماته العظيمة كمدرب رحلة إلى البرازيل في 1962 منحته معرفة عن طرق التدريب في بلاد السامبا الفائزة بكأس العالم مرتين في ذلك الحين.
تلك الرحلة ساعدته في العثور على موهبة برازيلية بحق، جناح مثل جارينشيا بمهارات بيليه مثلما يصفونه في غانا. بابا يارا، الذي لم يسعفه القدر لأن يعاصر إنجازات جيامفي المدرب، حيث تعرض لحادث أودى بحياته في 1963 ليحصد فقط لقبا وحيدا مع المدرب الغاني الأسطوري.
اسم بابا يارا يبدو مألوفا بالطبع، لأن في الملعب المسمى باسم الجناح المهاري حصد حسن شحاتة لقبه الثاني في البطولة.
"معلم" قتلته النكسة لينتقم من إفريقيا كلها
ربما لم تشهد الملاعب المصرية هتافين باللون الأبيض ذوي الخطين الحمر أشهر من "حسن شحاتة يا معلم.. خلي الشبكة تتكلم"، و"حسن شحاتة يا حبيبنا.. وحياة كريم ما تسيبنا".
مباراة تجريبية بين منتخب بحري والمنتخب الوطني وضعت أعين محمد حسن حلمي رئيس الزمالك على حسن شحاتة المولود في كفر الدوار في 1947.
شحاتة ارتدى القميص الأبيض عام 1966، وبينما تبدأ مسيرته الكروية في الازدهار تضرب نكسة 1967 مصر ليتوقف النشاط الكروي بشكل فعلي.
الجوكر ذو البنيان القوي ذهب للاحتراف في الكويت، وحصد لقب أفضل لاعب في آسيا بقميص كاظمة الكويتي عام 1970، وبعد عودته إلى مصر اندلعت حرب 1973 ولم تستمر مسيرته كرويا كثيرا بعد ذلك، ولكنه في مسيرته القصيرة كرويا حصد أيضا لقب ثالث أفضل لاعب في إفريقيا 1974 من فرانس فوتبول، ولقب أفضل لاعب في كأس الأمم الإفريقية التي أقيمت في نفس العام في مصر، ولكن الفراعنة أنهوا البطولة في المركز الثالث.
مسيرة حسن شحاتة الكروية انتهت في 1983، لاعب ظلمته الحروب وظروف العصر، ولكنه انتقم مدربا.
يقول محمود الخطيب، المكافئ الكروي لحسن شحاتة عند الأهلي "نقطة قوة المنتخب المصري كانت تتمثل دوما في رجوع حسن شحاتة من المراكز الأمامية لمركز خط الليبرو، ليس تقليلا أبدا من قوة حسن شحاتة هجوميا فأنا أعتبره من أعظم المهاجمين في تاريخ مصر، ولكنه يمتلك عينا ثاقبة في هذا المركز تكشف الملعب بأكمله فتساعده في توجيهنا ولعب الكرة في المكان السليم، حسن شحاتة لاعب بعقلية مدرب".
بدأ حسن شحاتة مشواره في التدريب بعد اعتزاله عام 1983 مع فرق الناشئين تحت 19 عاما والتي أخرجت مدافعين على طراز فريد أمثال أشرف قاسم وهشام يكن، قبل أن يصبح مساعدا لليوغوسلافي نينكوفيتش في موسم 1985-1986.
تجارب محلية مع المريخ والاتحاد، وأخرى عمانية مع الشرطة، قبل أن يمتهن مهنة صعبة جدا في كرة القدم. تصعيد فرق الدرجة الثانية للدرجة الممتازة.
المنيا في 1998، الشرقية في 1999، منتخب السويس في 2000، قبل التجربة الأهم في مسيرة شحاتة قبل تدريب الفراعنة، منتخب الشباب في 2003.
تقرير سابق نشر على FilGoal.com سرد كيف كوّن حسن شحاتة جيلا أسطوريا لمنتخب مصر، والبداية كانت مع الفراعنة الصغار، ومنه الفقرات التالية..
في البداية تجميع القوام وصل لـ53 فردا، وهو عبارة عن بقايا منتخب البرونزية في كأس العالم للشباب عام 2001 من هم دون الثمانية عشر من عمرهم مثل عماد متعب مهاجم ناشئي الأهلي وعمرو زكي مهاجم المنصورة الشاب وشريف إكرامي الحارس الثاني البديل لمحمد صبحي في مونديال الأرجنتين وأمير عزمي مجاهد ناشئ الزمالك ومحمد الزيات مدافع الأهلي.. إلخ إلخ، مع التدعيم بنتاج منتخب الناشئين ومكاسب الدوري الصغيرة مثل أحمد فتحي وحسني عبد ربه وناشئ الألومنيوم اللامع في القسم الثاني وقتها محمد عبد الوهاب.
اجتاز حسن شحاتة التصفيات بسهولة نحو أمم إفريقيا للشباب في بوركينا فاسو .
تألق الفريق وكسب حب الجمهور البوركيني، فاز بأمم إفريقيا للشباب بجدارة، على حساب الخصم الإيفواري العنيد بأربعة أهداف لثلاثة، الجيل الإيفواري الذي يضم أيضا عناصر عديدة من الجيل الذهبي المتزامن مع بدايات الجيل المصري، بطولة أفرزت مدافعين على أعلى مستوى مثل أحمد سعيد أوكا ومرسي عبد اللطيف وأحمد عاصم والظهير الأيمن الصاعد بقوة وقتها أحمد سعيد.
الجيل المصري إلى مونديال الشباب بالإمارات، تعادل مع كولومبيا وسط تألق إكرامي وفوز رائع على الإنجليز بهدف أسطوري لمتعب وخسارة من اليابان بهدف، وتأهل لدور الـ16 وخروج من الباب الضيق أمام الأرجنتين بصعوبة في الوقت الإضافي كالعادة.
انتهت المهمة ومضى كل إلى طريقه، على الجانب الآخر، المنتخب الأوليمبي المُطعم بعناصر ممتازة مثل حسام غالي، محمد اليماني، رضا شحاتة، أسامة حسني ووائل رياض، يمتلك العديد من العناصر الجيدة والممتازة ولكن الأمور لا تسير على ما يرام. خسر الفريق أول أربع مباريات في تصفيات أولمبياد أثينا بقيادة شوقي غريب، وأكمل حسن شحاتة المهمة وخسر آخر مباراتين.
ماركو تارديللي ترك المنتخب في وضع يرثى له في تصفيات كأس العالم 2006، والمنتخب الذي سيستضيف كأس الأمم بعد أشهر يبدو بعيدا جدا عن فكرة الوصول لأدوار متقدمة فيها، ناهيك عن التتويج بها.
في ذلك الوقت، كان شحاتة في أوج مسيرة أسطورية مع المقاولون العرب حصل فيها على كأس مصر والسوبر المحلي، بجانب الصعود للممتاز مع فريق رابع.
"المعلم" تولى تدريب منتخب مصر في وقت صعب للغاية، اتحاد كرة مؤقت ومنتخب مشتت دمره لاعب وسط إيطالي لم يملك من مؤهلات التدريب سوى تسجيله هدفا في نهائي كأس العالم. المهمة صعبة للغاية بعد خسارة من كوت ديفوار في الإسكندرية، ومن ليبيا في طرابلس، وتعادل مع بنين في كوتونو.
يناير 2006، بداية الأسطورة.
مثلما كان جيامفي مفضلا لدى نكروما، كان حسن شحاتة مفضلا عند رئيس الدولة آنذاك محمد حسني مبارك، والذي وجه سمير زاهر رئيس اتحاد الكرة الذي خلف عصام عبد المنعم في رئاسة الاتحاد لإرضاء شحاتة بكل الطرق، بحسب تصريحات زاهر في فيلم FilGoal.com حول بطولة 2006.
أول هدف لمصر في البطولة كان من رأسية المحترف الذي حمل آمال مصر في تلك البطولة، أحمد حسام "ميدو" من صناعة مكافئ بابا يارا في قصة حسن شحاتة، محمد عبد الوهاب، الذي لم يمهله القدر لمواصلة مشوار الثلاثية إذ توفي في نفس العام، 2006.
شخصية شحاتة تبلورت في 2006، رغبة ميدو في الحصول على لقب هداف البطولة لم يحالفها التوفيق حيث أهدر ركلة جزاء ضد ليبيا في المواجهة الأولى لتعود لأحمد حسن – الذي سدد كل ركلات الجزاء بعد ذلك – ويسجلها في المرمى.
ومن ينسى ما حدث في نصف النهائي؟
الصدام بين ميدو وشحاتة ضد السنغال، والذي عزاه حسام حسن ببعض الفكاهة لغضب ميدو المستمر من شحاتة لتفضيله لمن يصفه قطاع الجمهور دائما بأنه ابن المعلم، عماد متعب، كان سيكون كلمة النهاية في مسيرة شحاتة التدريبية مع المنتخب.
ولكن شحاتة فاز على السنغال بأفضل سيناريو ممكن له، البديل الذي اختاره سجل هدف التأهل للنهائي من اللمسة الأولى، أصبح هو البطل المتوج.. "أنا صح.. أنا صح" بعد هدف عمرو زكي.
بعد تلك الواقعة، أصبح شحاتة رمزا شعبيا أكثر منه مدرب لمنتخب مصر. توالت البطولات، أداء فائق الروعة في 2008 توج الفراعنة باللقب في بلاد جيامفي، ثم اختياره لمحمد ناجي "جدو" في 2010 ليمنحه اللقب في النهاية، بجانب الإبهار الذي قدمه في كأس القارات، أصبح شحاتة في مصاف الأبطال الوطنيين.
شحاتة رجل قد لا يملك فلسفة تكتيكية محددة، لكنه رجل يحب الكرة الجميلة وفي نفس الوقت – كلاعب مميز – يطور قدرات لاعبيه الفردية بشكل رائع.
كيفية انتهاء قصة شحاتة مع المنتخب أمر قد لا يستحق السرد، مع نهاية الجيل الذي بدأ معه المشوار في 2003 وتدهور حال الكرة المصرية بعد 2011، أصبح رحيله أمرا حتميا، ولكنه رحل بعد أن صنع تاريخا لا يضاهى في إفريقيا، إلا عن طريق تشارلز جيامفي.
شاهد أيضا فيلمي في الجول حول بطولتي 2008 و2010..
FilGoal.com يختبر معلوماتك عن منتخب مصر، فهل تتذكر مسجلي أهداف المنتخب في أمم إفريقيا 2008؟
اقرأ أيضا:
غينيا بيساو.. مستعمرة برتغالية تبحث عن التوهج في إفريقيا
أي هذه المنتخبات لم يشارك من قبل في كأس إفريقيا؟
منتخب مصر يتراجع مركزا في تصنيف فيفا