كتب : أحمد شوقي | الثلاثاء، 21 مايو 2019 - 20:56
دييجو مارادونا.. صراع الموهوب والأسطورة
بداخله يتصارع شخصان: دييجو، الفتى الموهوب المليء بمشكلات عدم الأمان، ومارادونا، الصورة الأسطورية التي كان عليه أن يخلقها ليواجه بها الجميع. قلت له ذات مرة أن بإمكاني أن أسير مع دييجو حتى نهاية العالم، لكني لست مستعدًا أن أخطو خطوة واحدة مع مارادونا، فكان رده: صحيح، لكن لا تنس أنني لو بقيت دييجو لكن لا أزال أعيش فقيرًا في فيلا فيوريتو!".
هذه الكلمات التي ترد على لسان مدرب اللياقة البدنية الخاص بأسطورة الكرة الأرجنتينية في فيلم المخرج آسيف كاباديا "دييجو مارادونا"، والمعروض خارج مسابقة مهرجان كان 72، تُلخص رؤية الفيلم لمسيرة الرياضي الأكثر إثارة للجدل في القرن العشرين، وربما الحادي والعشرين كذلك.
كاباديا، المخرج البريطاني ذو الأصول الهندية، والذي وضعته أعماله السابقة على قمة مخرجي وثائقيات سير المشاهير في العالم، بعد عمليه البديعين "سينا" عن متسابق الفورمولا وان البرازيلي آيرتون سينا و"آمي" عن المغنية البريطانية آمي واينهاوس، دخل بقراره تقديم فيلم عن مارادونا تحديًا يختلف عن كل نجاحاته السابقة.
اختلاف التحدي ينبع من حقيقتين، الأولى هي أنها أول مرة يصنع فيها كاباديا فيلمًا عن شخص على قيد الحياة، فمارادونا قصة دائمة لا تنتهي، لا يمكن أن تتوقع فصلها التالي، وبالتالي فحياته لا تزال قيد الإنجاز. أما الحقيقة الثانية فهي أن سينا وآمي فارقا الحياة بشكل مأساوي في قمة مجدهما وتألقهما، أما مارادونا فقد أنهي سنوات المجد وبدأ بعدها أعوام وأعوام من الألم والجدل، لتفتقر حياته لهذه النهاية الدرامية التي منحت الفيلمين السابقين نقاط قوة مبدئية. فكيف كان تعامل المخرج المحنك مع هذا التحدي الدرامي؟
البحث عن الحكاية المطلوبة
مع تترات البداية تتابع قصة السنوات الأولى من حياة مارادونا بسرعة هائلة: مولده في ضاحية فيلا فيوريتو الفقيرة، ظهور وموهبته واحترافه في سن مبكر، تألقه مع بوكاجونيورز وانتقاله لبرشلونة، ثم فشله المأساوي بالإصابة والشغب واستغناء برشلونة عنه كي يوافق على الانضمام إلى نادي نابولي الإيطالي. سرعة مفرطة تتسائل معها عن الكيفية التي سيكمل المخرج فيلمه بها إذا سار بهذا الإيقاع اللاهث.
إلا إنه ومع الانتقال لنابولي، النادي الصغير في المدينة الجنوبية الفقيرة، والذي كان أقصى طموحه في ذلك الوقت هو البقاء في دوري الدرجة الأولى وعدم تذيل الجدول والهبوط للدرجات الأدنى، تبدأ الحكاية الحقيقية التي قرر كاباديا أن تكون موضوع فيلمه، حكاية السنوات السبع التي قضاها مارادونا في نابولي (1984-1991) فصنع فيها تاريخ النادي وجلب خلالها كأس العالم لوطنه الأرجنتين، أعوام المجد والتتويج والعلاقة برجال المافيا والانزلاق لهاوية الإدمان.
يرى فيلم آسيف كاباديا أن الصراع الدرامي في حياة دييجو مارادونا يتلخص في تلك الفترة فقط، قبلها كان دييجو، الشاب الموهوب الذي لم يثبت بعد استحقاقه لما يثار حوله من جدل، صاحب الابتسامة الخجولة التي لا تنجح محاولاته في الحياة الصاخبة في إخفائها. أما بعد السنوات السبع فقد صار مارادونا، الأسطورة والأيقونة التي تجتمع فيها كل المتناقضات: المجد والفشل، الوله والكراهية، الحضور والغياب.
أما سنوات نابولي، فهي سنوات صراع دييجو مع مارادونا، صراع المراهق الموهوب الذي احترف الكرة وحلمه أن يشتري بيتًا نظيفًا لأسرته، والنجم الأسطوري الذي فتحت له الدنيا ذراعيها فلم يتردد في إلقاء نفسه في كل ما هو ممتع ومارق وخارج عن القانون.
سيد الأرشيف الأول
صار من البديهي أن مشاهدة فيلم لكاباديا تعني الإطلاع على أكبر قدر ممكن من المواد الأرشيفية المذهلة، فالرجل هو سيد الأرشيف في السينما العالمية، يبني أفلامه بالكامل دون أن يصوّر لقطة واحدة، وإنما يمزج على طاولة المونتاج بين آلاف اللقطات النادرة ليقدم القصص التي رويت من قبل عشرات المرات بصورة جديدة وغير متوقعة.
كاباديا قام بتسجيل عدة حوارات للفيلم، أبرزها حوار مع مارادونا نفسه وآخر مع زوجته الأولى وحبيبة فترة صعوده والثالث مع مدرب اللياقة البدنية الذي صاحبه أغلب أوقات مسيرته المهنية. لكننا لا نرى أبدًا ولو لقطة من هذه الحوارات، فقط يستخدمها صوتيًا كجسور تربط الحكاية وتعلق عليها وتمنحها وجهة نظر ورأيًا أعمق في الحوادث. باختصار هو توظيف مدهش لعنصر التعليق الصوتي دون أن يرتبط بالمخرج أو براوي حكيم محايد، بل هو تعليق صوتي من رحم الحكاية وأصحابها الذي لا نتوقف عن مشاهدتهم على الشاشة في لقطات تعرض الحكاية وقت وقوعها.
وإذا كانت معجزة مارادونا هي الكرة، فإن أمتع ما في الفيلم هو اللقطات النادرة لعالم الكرة، كواليس الملاعب والتدريب والكاميرات التي تصوّر مباريات تاريخية من داخل الملعب وتصاحب مارادونا في كل لحظة داخله. وكأنها متعة إضافية يمنحها سيد الأرشيف الأول لمحبي الكرة من مشاهدي فيلمه، متعة إعادة مشاهدة التاريخ من زوايا مختلفة.
الأسطورة والألم
لا جديد في كون أفلام آسيف كاباديا مؤلمة ومخيفة، مؤلمة لأنها تتعرض لأشخاص ذوي مواهب استثنائية لم تحمهم مواهبهم من التعاسة، ومخيفة لأن كون كل عناصرها حقيقية كليًا: الحكاية وطريقة عرضها، تهدم تلقائيًا الحائط الآمن الذي اعتدنا أن نقيمه مع الأفلام مهما كانت مؤثرة، فهي في النهاية أفلام وحكايات خيالية، لكنها هنا حقائق أبطالها نظريًا أكبر من الحياة، وعمليًا طاردتهم التعاسة حتى وهم يقفون على قمة العالم.
خلاصة "دييجو مارادونا" المؤلمة هي أن حكاية الأرجنتيني الموهوب انتهت في 1991 بعدما توقف أداءه داخل الملعب عن كونه أهم لحظات حياته. غاب الإنسان لتبقى الأسطورة، لكن من قال أن جميع الأساطير تنتهي بعيش الأبطال في سعادة أبدية؟!
هذا المقال منشور بالتعاون مع موقع Filfan.com ويمكن الإطلاع عليه أيضا من هنا
مقالات أخرى للكاتب
-
دييجو مارادونا.. صراع الموهوب والأسطورة الثلاثاء، 21 مايو 2019 - 20:56