وُلدت وكبرت في منطقة شعبية، لا يكف فيها الصغار والشباب عن لعب كرة القدم، لعبت الكرة في شارع ضيق وفي مركز شباب وفي فناء المدرسة، لعبت حتى في ميدان محاط بجنود مسلحة. لعبتها بكرة مصنوعة بإتقان من الجوارب وبكرة بلاستيكية وبأخرى تحمل أعلام كل المنتخبات المشاركة في كأس العالم حتى أنني لعبتها أحيانا بعلب الصفيح الصغيرة. فزعمتُ مرارا وتكرارا أن كرة القدم أبسط الألعاب على الأرض ظنا مني أن "الكرة" هي أهم أداة في اللعبة وأغفلت حقيقة أن لا مجال للعب الكرة دون أرض صلبة تحمل اللعبة واللاعبين على ظهرها.
تلك الحقيقة أصبحت أكثر وضوحا في اليوم الذي وصلتُ فيه إلى جزيرة صغيرة في تايلاند حيث بُنيت القرية العائمة لتطيح بأحلام أطفالها في لعب كرة القدم وانتزعت منهم كل أرض صلبة، فلم يجد هؤلاء بُدا من التحايل على طبيعة قريتهم إلى أن صنعوا التاريخ من هُناك.
من إندونيسيا إلى أرض العلَم
بعدما ضاق عليهم وطنهم بما رحب، وتمادى ضيق العيش في إحكام قبضته عليهم، خرجت ثلاث عائلات بزوارق تُبحر من موطنهم "إندونيسيا" بحثا عن أرض جديدة، على أمل ألا يتبعهم سوء الطالع إلى حيث يذهبون. تفرقوا بحثا عن أرض الأحلام، على وعد أن يذهب أول من يجد مكانا صالحا للحياة إلى أعلى قمته ويزرع علما ليخبر البقية بموقع موطنهم الجديد.
قادت الأمواج أحد هؤلاء المهاجرين إلى جزيرة صغيرة في تايلاند، فتسلق أعلى جبالها ووضع علما على قمته إلى أن اجتمعوا ثلاثتهم وأطلقوا على الجزيرة اسم "كوبا نييه"، أي جزيرة العلَم.
وجدت العائلات المهاجرة ضالتها في الجزيرة الجديدة، فسكنوها وبدأت رحلة بناء مدينة صالحة للعيش على أرض العلّم. مرت السنوات وتزاوج سكان الجزيرة فظهرت الحاجة إلى بناء المزيد من المرافق فعمدوا إلى بناء أكواخ ومسجد وسوق عائم فضلا عن بناء مدرسة للأطفال الصغار.
تولى مسؤولية التدريس في المدرسة هؤلاء الذين خرجوا من الجزيرة إلى المدن الكبيرة في تايلاند مثل فوكيت وبانكوك وحصلوا على شهاداتهم ثم عادوا إلى حيث بدأت كل أحلامهم وامتهن أسلافهم المهنة الوحيدة المتاحة وهي الصيد.
حُمى كأس العالم تتحدى الطبيعة
رويدا رويدا اكتملت أركان المدينة الحلم، وجاء عام 1986 مُحملا بحُمى كأس العالم التي أصابت البشر شرقا وغربا، فتقدُم وسائل البث سمح للجميع بمشاهدة كرة القدم وعرّف الأطفال الذين لم يبرحوا جزيرتهم أبدا على لعبة جديدة يتجمع الناس حولها بالملايين. وقعوا في حُب اللعبة الجميلة، وحالهم حال جميع الأطفال أرادوا تطبيق ذلك على أرض الواقع، أرادوا أن يلعبوا كُرة القدم.
وجدوا الكرة ولكن اصطدمت أحلامهم بحقيقة أن لا مكان على جزيرتهم يصلح للعب كرة القدم، لا توجد أرض صلبة تحتمل ركضهم وخطوات أقدامهم الصغيرة فوقها. إيجاد المساحة المُناسبة حتى كان ضربًا من المستحيل، فلم يجد هؤلاء بُدا من التحايل على طبيعة مدينتهم العائمة، ظلوا يجمعون أخشاب مراكب الصيد القديمة، والمسامير التي اعتلاها الصدأ وبسحر لا يقل إبهارا عن كرة القدم صنع الأطفال ملعبا عائما يحتضن مبارياتهم وأحلامهم بتدشين فريق "بانييه إف سي".
وبين ليلة وضحاها وجد أهل الجزيرة جزءا جديدا أضيف إلى مدينتهم يتجمع فيه الأطفال، يركضون حفاة بكُرة صغيرة يتبادلونها فيما بينهم ثم يسددها أحدهم بقدمه على مرمى صغير، إن أصابته ركض محتفلا كما المجنون، وإن أخطأته يُلقي بنفسه في المحيط ليستعيد الكرة ويُعيد الكَرة.
أفضل مما يعتقدون
تحسّنت مهارات الأطفال على هذا الملعب الخشبي المتهالك، تعلموا الكثير عن المراوغة والتمرير والتسديد، حتى أن عدم استقرار ملعبهم قد قادهم إلى الالتزام بالتمركز فلم يعد الجميع يهرول ناحية الكُرة حتى لا تميل أخشاب الملعب ويفقد من عليه توازنهم وتنتهي مباراتهم في قاع المحيط.
وصلت أخبار من المدن الكبيرة تُفيد أن دورة كرة قدم للشباب ستُقام لمدة يوم واحد، فعقد فريق أرض العلَم العزم على المشاركة في البطولة، رغم شكوكهم في قدرتهم على مجاراة فريق كرة قدم حقيقي يتدرب في ملعب طبيعي على أرض صلبة.
على أي حال، فالقدر كان قد اتخذ قراره أن الوقت قد حان ليختبر هؤلاء حقيقتهم كفريق كرة قدم، فانطلقت زوارقهم من الجزيرة صوب ملعب البطولة، وتبعتهم زوارق سكان "كوبا نييه" الذين أعدوا العدة لتشجيع فريقهم المحلي.
انطلقت مباراة كوبا نييه الأولى -حرفيا-، فلم يسبق لهؤلاء أن انتعلوا حذاءا رياضيا أو ارتدوا زيا موحدا يدافعون عن ألوانه كفريق واحد، وما أن أطلق الحكم صافرته إلا وسيطر أطفال الملعب العائم على العشب الأخضر، وجدوا أن التسجيل أسهل بكثير عندما يكون المرمى أكبر من ذاك الصغير الذي صنعوه بأيديهم ومن ورائه المحيط، فازوا بالمباريات واحدة تلو الأخرى، فأدركوا أنهم أفضل حتى مما توقعوا.
شق الفريق طريقه إلى نصف النهائي، إلا أن خصمهم لم يكن سهلا على الإطلاق، فبرغم محاولات كوبا نييه المستميتة للفوز إلا أنهم أنهوا الشوط الأول متأخرين بهدفين للا شيء، وليتعقد موقفهم أكثر، بدأت الأمطار تهطل بغزارة، ولأن ملعب كُرة القدم المُبتل يختلف تماما عن قطع الخشب المُبتلة؛ فقدوا سيطرتهم على الكرة وأيقن الجميع أن تلك هي مباراة إقصاء فريق القرية العائمة.
لكن لأنهم اعتادوا التحايل على الطبيعة، رفضوا أن تنتهي المباراة دون معركة أخيرة، فخلع أحدهم حذاءه وتبعه الآخرون، هكذا اعتادوا أن يلعبوا وهكذا أعادوا سيطرتهم على الكرة، وما هي إلا لحظات وأعادوا المباراة لنقطة البداية بعدما سجلوا هدفين متتاليين، وركضوا محتفلين حتى لامست هاماتهم السماء.
ورغم أن خصمهم قد سجل هدف الفوز قبل دقيقة واحدة من نهاية المباراة إلا أن فريق كوبا نييه الذي حل ثالثا في البطولة نال احترام الجميع ووقف سكان الجزيرة يهتفون باسم قريتهم الصغيرة التي تحول اسمها لاسم يزين قمصان فريق مارس الكرة للمرة الأولى على ملعب عائم وخرج إلى المدينة يُذهب عقول ساكنيها ويُجبرهم على الوقوف مُصفقين لسحرهم.
From zero to hero
ظلت قصة كوبا نييه تتردد في جنبات تايلاند، وأصبحت كرة القدم هي الشغف الأول لسكان أرض العلم، ونجحوا في بناء ملعب أكثر تطورا، لا يميل مع حركة اللاعبين ولا يزعجهم بمساميره الصدئة، لكن الملعب الخشبي القديم لم يُمس وظل هناك يُذكرهم بماضيهم وبقصة أسطورية تمكنت فيها كرة القدم من عقول وقلوب أطفال القرية العائمة فخرجوا منها ليصنعوا التاريخ.
وفي عام 2011 سُمي فريق "بانييه إف سي" كأكثر أندية الشباب نجاحا في جنوب تايلاند بعد أن فاز الفريق ببطولة جنوب تايلاند للشباب للأعوام 2004، و2005، و2006، و2008، و2009، و2010. أما بُناة الملعب الخشبي الأصليين فلا يزالون هناك يحظون باحترام الجميع ويُطلق عليهم لقب "الــ 11 الأوائل"، تجدهم في المُدرجات يشجعون فريقهم الذي خلقوه من العدم، أو مدربين للفئات العمرية المختلفة لـ "بانييه إف سي"، أو حتى في إدارة الفريق ورئاسة جمعية بانييه للألعاب الرياضية.
اقرأ أيضا:
العناية الإلهية تنقذ ثلاثي الجونة من حادث سيارة مؤسف
بيان رسمي - باريس سان جيرمان يكشف موقف مبابي
خبر في الجول – تعرف على مطالب نهضة بركان من الزمالك قبل نهائي الكونفدرالية
حكايات في رمضان - أورتيجا.. "أشعر بالخجل كلما طرأت مشكلة الإدمان"
الإثيوبي تيسيما حكما لمواجهة الزمالك وبركان.. ذكريات غير طيبة مع المصريين