كتب : نادر عيد
"برافو يا خطيب برافو يا خطيب، كل الدنيااااااا، بعد دقيقة واحدة الجول بيخلص، ايه ده ده ايه ده الحمد لله"
"وبيشوووووت كورة حلوااا جول جول جميل جميل جميل تامر تامر تامر يا سلاااااااااام، يسحب البساط من الكل كأنه من كوكب آخر تامر عبد الحميد"
"ومش اوفسايد حسام يلا يا حسام بينالتي بينالتي، الله أكبر، عدالة السماء نزلت على استاد باليرمو، ومجدي عبد الغني وضربة الجزاء، وجووووووووول جول جول جول، هدف التعادل للمصريين"
"وماشي شادي يعمل الاوفر عالياااااا ويطلع يلعب الكورة علطول وتترد وهوباااا جوه الجول جوه الجووووووووول ابو تريكاااااااااا يابو تريكااااااااااا ياه ع الجول مش ممكن مش ممكن مش ممكن"
كان نجما. كروان عذب الصوت، يغرد بأحلى كلمات، ويمتع بأجمل انفعالات.
صوت رنان، لطالما أطرب الآذان بعبارات مثل الألحان. وعلى مر الزمان، دائما، كان من يكسب الرهان.
كان ملكا. خفة ظله وسهولة لغته، حرمتا غيره من منازعته، احتكر الميكروفون من المحيط إلى الخليج، بحضور قوي لشخصيته، وبإيقاع سهل بسيط لأدائه.
لكن رويدا رويدا، فقد سطوته وتضاءلت شعبيته وبح صوته. وبات بنو جلدته يبحثون عن مُجّمِل غيره لمعشوقتهم الأولى.
اندثرت موهبته وفقد مرشده وضعفت ثقافته. ومدرجات خاوية على عروشها ضيعت حماسه. أنهكه زحام زملائه وبخس صار ثمنه.
عصر الرأسمالية
حتى السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين كان المصري المتيم بكرة القدم يستمتع بتعليق مواطنه على شتى البطولات وجميع المباريات، لكن مع التطور الهائل للعبة وتحولها إلى سلعة باهظة الثمن، اضطر لتثبيت طبق وشراء جهاز استقبال ليتابع ما لم يعد يبثه تلفزيون بلده. والبداية تحديدا كانت مع مونديال ألمانيا 2006، أول حدث ضخم يضطر المصريون لمشاهدته في قناة غير مصرية، ART السعودية.
وهنا، بدأت قصة تقهقر أفضل من يزين مباراة كرة قدم لمشاهد عربي، المعلق المصري.
دخل مجبرا منافسة قوية مع جيرانه العرب فظهر ضعف عدد ليس بالقليل من المعلقين المصريين. ومع مرور السنوات، وتقلص الموهوبين، وصل الأمر إلى بحث قنوات مصرية عن معلقين غير مصريين.
وكانت الطامة في نوفمبر 2009 حين علق غير مصري على واحدة من أهم مباريات الفراعنة عبر التاريخ، وأين؟ في قناة نايل سبورت التي تتبع ماسبيرو، التلفزيون الرسمي لمصر.
كان أيقونة التعليق ميمي الشربيني معلقا في التلفزيون المصري على مباراة مصر والجزائر في تصفيات كأس العالم، وحازم الكاديكي الليبي في نايل سبورت.
الأمر الذي استدعى مسيري ماسبيرو للبحث عن إجابة لسؤال دافعه العجب أكثر من الاستفسار، لماذا غير مصري يعلق على مباراة لمنتخب مصر في التلفزيون الرسمي لمصر؟
ما حدث كان نتاج سنوات من تجاهل استغاثة المعلق المصري، الذي سعى FilGoal بتحقيقه هذا أن يوصل صرخته إلى من لا يستطيع سماعه ولا يدرك معاناته.
مع نهاية 2018 استفتى FilGoal المصريين، من معلقكم المفضل؟ وكانت النتيجة محبطة للمعلق المصري، رغم أن المصوتين هم بنو جلدته!
احتوى الاستفتاء على 10 معلقين منهم 5 مصريين، لكن النتيجة كانت حصول غير المصريين على 73% من الأصوات!
جاء ترتيب المعلقين المصريين، الرابع والسادس والسابع والثامن والتاسع من حيث عدد الأصوات والتي إجمالا في الاستفتاء بلغت 86 ألفا و567 صوتا.
لم يعد المعلق المصري في المنزلة الأعلى، ذلك الرائد الذي يغبطه أشقاؤه على لكنته، والذي صدى صوته بلغ أكادير غربا ومسقط شرقا. تركه المصريون، وأنصتوا إلى غيره.
FilGoal حقق، نبش وفتش، كشف خبايا وأزاح سُتُر، عن أسباب قهرية، وأخرى إرادية أفقدت المعلق المصري عرشه.
عوامل عديدة حاصرته، استسلم فأسقطته. ومع مرور الوقت، بات أسيرا، لا يستطيع مقاومتها، فرغما عنه، سقط التاج من فوق رأسه.
"بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الرحمن الرحيم، محمد صلاح والدموع، يارب، محمد صلاح، وهوباااااا اللللللللللله، الللللللله الللللللللله يا بلادنا الللللللللللله، الللللللللله يا بلادنا الللللللللله…… الحمد لله الحمد لله" مدحت شلبي - مصر والكونغو - تصفيات مونديال 2018
أسير الدوري المصري
في حوار سابق لـFilGoal مع فاكهة التعليق المصري الراحل محمود بكر سألناه عن أفضل مباراة علق عليها، فأجاب بتلقائيته المعهودة "كتب علينا التعليق على الأسيوطي ودمنهور وفرق مثل هذه، لكن لو مباراة بين ريال مدريد وبرشلونة ستركز أكثر لأن الأجواء مختلفة تماما".
هيثم فاروق محلل قناة beIN sports ونجم الزمالك ومنتخب مصر السابق كان معلقا، اجتاز الاختبارات في 2005، يتفق مع "عم بكر" بالقول:"أول سبب لتراجع المعلق المصري هو البث الحصري للبطولات، المعلق الآن لا يعلق إلا على الدوري المصري".
ويتفق حاتم بطيشة، نصير الأسلوب البسيط الهادئ في التعليق، معلق أون سبورت والمعلق السابق لقناة beIN sports "المعلق المصري ليس أمامه سوى الدوري المصري وهذا يؤثر عليه".
ولا يختلف صاحب الصوت القوي بلال علام معلق قناة السعودية الرياضية "المعلق المصري ليس رقم 1، أحد أسباب تراجعه هو ضعف الدوري وغياب الجمهور عن حضور المباريات وهذا أثر عليه سلبا".
وفي حوار سابق مع قناة نايل سبورت لعلي محمد علي أبرز معلق مصري في beIN sports وصف جيله بـ"المحظوظ" لأنه حين أصبح معلقا كان التلفزيون المصري يبث كل البطولات.
ويشرح صائد المعلومات والإحصائيات طارق الأدور معلق ماسبيرو والذي عمل في قنوات عديدة "حين أقيم أحدا علي النظر إلى ما يعمل به، المعلق الآن لا يوضع في محك قوي، لا يمكن المقارنة بين معلق يعلق على الدوري المصري وآخر يعلق على الدوريات الأوروبية. لهذا السبب لا أحد يتابع المعلق المصري لأن الدوري المصري قيده، هل هناك أحد خارج مصر يشاهد الدوري المصري؟".
ويضيف "وبخلاف ذلك، من 2011 لا يحضر الجمهور المباريات، كأنك الآن تعلق من داخل الثلاجة، كيف ستظهر موهبة المعلق؟ هذا يؤثر أيضا على المعلق لأن الشعوب العربية تميل إلى المدرسة اللاتينية التي يشتد فيها حماس المعلق. أسهم المعلق المصري انخفضت ولم يعد الطلب عليه مثل السابق لأن ببساطة موهبته ليست ظاهرة".
وأحمد الطيب، المشهور بالعبارات السجعية ومعلق قناتي الكاس وbeIN sports، يرى "الجيل الجديد لا يقل عن القديم لكن لا يقدر موهبته، يحتاج للتعليق على بطولات كبيرة".
ويقول أشرف محمود، عاشق اللغة العربية والذي سمي بالمعلق الخليجي، معلق ماسبيرو والمعلق السابق لقناة beIN sports:"الجيل الجديد يقول نفس المرادفات والكلمات التي استخدمها الجيل القديم، لا يقلد بنسبة 100% لكنه تأثر بخلو المدرجات في المباريات".
مثل فيلم خالد تتذكره بمجرد رؤية ممثل معين أو أغنية هي الأفضل في تاريخ مطرب ما، المباراة الكبيرة تظهر موهبة المعلق وتزرع نبتة شعبيته، وهذا نادر حدوثه في الدوري المصري، الذي يفتقد فيه المعلق إلى جمهور يشعل حماسه ويرفع صوته، ولا تحتاج لقاءاته إلى إعداد كثير وثقافة كبيرة لتَبرُز شخصية المعلق.
"وليد سليمان، بيلعب الكورة علطول عالية داخل التمانتاشااااااااااار جووووول، جووووووووول، الحاويان، الحاويان يتألقان فوق بساط 30 يونيو، مفيش حد احسن حد" أشرف محمود - الأهلي والزمالك - الدوري موسم 2014-2015
أسير التشفير
إذا كان الدوري المصري متابعته لا تتطلب سوى فتح تلفزيون المنزل أو ضبط الراديو على الإذاعة الناقلة، فإن كافة البطولات الأخرى لابد أن يدفع المصريون للاستمتاع بها، وهو ما يضطرهم أحيانا لحجز مقعد في المقهى حتى لا يفوتوا إبداع محمد صلاح وسحر ليونيل ميسي وتألق كريستيانو رونالدو، أو حين يلعب الأهلي أو الزمالك أو حتى منتخب مصر مباراة خارج أرض الكنانة.
يرى حاتم بطيشة تأثيرا سلبيا للبث الحصري بالقول:"سيطرة شمال إفريقيا ظاهرة لن تستمر، بدأت مع التشفير وتغير عادات المشاهدة لأن الناس أصبحت تتابع المباريات مع بعضها البعض في المقاهي، أصبح المعلق في حاجة لرفع صوته ليسمعه الناس. ذوق المتلقي تغير. بات مطلوبا الآن الصراخ والصياح وهذا عكس المدرسة المصرية في التعليق. هذه ظاهرة ولن تطول لأن كثيرا باتوا ينفرون من هذا الأسلوب، شعروا باصطناع الأمر. تغير ذوق المتلقي جعله غير قادر على التفرقة بين الجيد والرديء، بات مفروضا عليه تعليق رديء على أنه جيد، فلم يعد يعرف كيف يفرق، وهذا حدث في مجالات أخرى غير التعليق".
ويتفق معه علي محمد علي بقوله في حوار سابق مع FilGoal:"حدث تغير كبير في الذوق العربي، لكن دائما على المعلق الحفاظ على أمر بديهي هو الحياد والموضوعية".
على الجانب الآخر، يرى أشرف محمود أن المعلق المصري لا يزال رقم 1 بسبب لغته ولكن "التشفير لم يتركه وحده على الساحة، لا تستطيع القول إن هناك مدرسة مسيطرة لأن التعليق فن تختلف فيه الأذواق مثل الغناء".
ويفسر تغير الذوق بالقول:"معلقون كثر يحصلون على فرص كبيرة بعكس غيرهم لكن لديهم خلل كبير في تقنية التعليق. هناك نظرية في الإعلام اسمها الإلحاح تجعل المستمع يعتاد أمرا من كثرة سماعه على غرار مقولة خطأ شائع خير من صحيح مجهول. فيقول معلق تعبيرا سمجا لكن مع كثرة تكراره تجد نفسك تقبله، وفجأة يشعر هذا المعلق بنفسه وكأنه حقق شيئا، والغريب أنك تستفتي الناس فتجدهم يختارونه أفضل معلق! رغم أن الخبراء يرونه لا يصلح!".
وأحمد الطيب يرى أن المعلق المصري لا يزال يحافظ على مكانته بالقول:"التعليق المصري بخير وبلغ منزلة عربية لم يصلها عاملون في مجالات أخرى. فقط يتأثر بتعصب بعض الناس. الجمهور العربي يفضل المعلق المصري على معلق بلده".
لعب البث الحصري للبطولات دورا كبيرا في تغير النغمة التي تحبها الأذن بإجبارها على أصوات معينة تنتهج أسلوبا جديدا. أسلوب فُرض فصار معتادا، ومع تكراره في مباريات كبيرة، اعتقد كثيرون أنه النموذج الأمثل للتعليق، وهو ما أضر آخرين متشبثين بالتلقائية، أو بالأحرى يحاولون السير على خطى من سبقهم.
"يا سلام يا وليد قصير مكير، إلى جدو، وليد سليمان، لالالالالالالالا..لالالالالالالالا، ايه يا راجل انت ده، ايه اللي انت عامله ده، ثنائية، ثنائية تاريخية، الله عليك، أرواحنا تناديكم، الكاس الله يخليكم، شكرا عملتوا اللي عليكم" أحمد الطيب - الأهلي والترجي التونسي - نهائي دوري أبطال إفريقيا 2012
أسير المجاملات
مع بث قنوات مصرية معدودة للدوري المصري فقط وجد المعلقون أنفسهم يتسابقون بشراسة للقبض على الميكروفون، مما عبد أرضا خصبة للمجاملات والعلاقات. ووصل الأمر أيضا إلى الرشوة. نعم، الرشوة، للتعليق على مباراة.
يقول بلال علام:"المحسوبية والشللية تتحكم في الأمر، هل يعقل أن محمد السباعي رحمه الله كان يجلس في منزله وغيره لا يفقه شيئا يعلق؟".
تحكم المجاملات والعلاقات في اختيار المعلقين ليس وليد السنوات العجاف للقنوات المصرية، وإنما ذكره أشرف محمود في كتابه "فن التعليق الرياضي" حين قال إن "الرشاوى الخدمية والمالية والعلاقات تتدخل في توزيع المباريات".
والرشاوى يؤكدها مصدر داخل ماسبيرو رفض ذكر اسمه، يحضر مباريات كثيرة بسبب طبيعة عمله ويتواصل مع معلقين كثر، فروى لـFilGoal "كنت أجلس ذات مرة في سيارة البث الخارجي خلال لقاء بالإسكندرية وفوجئت بالمعلق يأتي ليترك شيئا مثل هدية أو ما إلى ذلك للشخص المسؤول عن توزيع المعلقين. معلقون آخرون كان هذا الشخص (مخرج) يمنحهم مباريات كثيرة أو لقاءات بعينها فحين يأتي موعد حصولهم على المستحقات يتركون له بعض المال. مباريات عديدة كان يعلق عليها شخص وتسجل في الدفاتر باسم معلق آخر لا يعمل أساسا، وفي النهاية لا تعلم من الذي حصل على المقابل المادي للمباراة!".
ومعلق شهير رفض ذكر اسمه سألناه لماذا المباريات الكبيرة يحتكرها معلقون معينون فأجاب:"الشركات الراعية تتدخل في اختيار المعلقين وهذا قضى نهائيا على مبدأ الكفاءة".
ومعلق آخر رفض أيضا ذكر اسمه روى "كنت أعلق باستمرار على مباريات كبيرة وفجأة باتت لقاءات الأهلي أو الزمالك حكرا على معلقين اثنين، وحين سألت الشخص المسؤول قال إن شعبيتهما هي السبب، لم تعد الكفاءة هي المعيار".
المجاملات قضت على الكفاءة، أوصدت الباب في وجه معلقين لحساب آخرين معدودين، وبات أطول سبيل إلى الميكروفون هو الاتكاء على الموهبة.
"لو ظبط البوصلة الأباتشي هتبقى الفووووووووووز، أخيرا، أخيرا بقى، أخيرا بقى الأباتشييييييييييي، يا شيكا يا شيكا يا شيكا يا شيكا، لأ لعيب يا شيكا، الأباتشي بيعلنها للزمالك، مع شيكابالا الزمالك لا يعرف المستحيل" بلال علام - الزمالك وسموحة - الدوري موسم 2011-2012
أسير فرصة مفقودة
ندرة المباريات ووفرة المعلقين حجبتا الأصوات الجديدة، بات الميكروفون ملتصقا بقلة معدودة منذ سنوات، فتبخرت فرصة الموهوب، حتى وإن كان أقدر على أداء المهمة.
في مداخلة هاتفية سابقة لفهمي عمر، الرئيس الأسبق للإذاعة المصرية والرئيس الحالي للجنة التعليق والبرامج الرياضية بماسبيرو، مع أحمد شوبير في إذاعة الشباب والرياضة قال:"كثير من المعلقين لا يصلحون صوتا وأداء، منهم من عليه الاحتجاب، كفى، سنه وصحته لا يساعدانه".
استمع إلى المكالمة التي تعود إلى فبراير 2014.
والموقف تكرر مع معلقين آخرين في أوقات قريبة، يقول محمد الجندي:"كنت مكلفا بالتعليق على مباراة لمنتخب مصر للشباب أمام كينيا في الإذاعة، وفوجئت برئيس قناة نايل سبورت يتصل بي قبل اللقاء بدقائق قائلا: كابتن عايزين نضم عليك عشان نذيع الماتش عندنا. رفضت تماما".
وبالنسبة للؤي رشاد، معلق في ماسبيرو أيضا، دخول الملاعب يبقى المعضلة الأكبر فيقول:"هي أزمتي الكبرى، سواء ذهبت بسيارتي أو بدونها أو مع سيارة الإذاعة أو التلفزيون، دائما هناك مشكلة في الكشوفات تجعل دخول الملاعب عسيرا، وبالأخص في مباريات الأهلي والزمالك رغم أني لم أعلق على كثير منها".
ويضيف "كبائن المعلقين تكون مكشوفة في بعض الملاعب، أعذر المسؤولين عنها، لكن في ملاعب أخرى تكون صغيرة مغلقة ولا جهاز تكييف فيها فتكون في الصيف مثل غرفة الساونا، ورغم ذلك أجدها مهملة تماما مثل استاد كلية الشرطة. في إحدى المرات في الملعب الفرعي لاستاد الدفاع الجوي اضطررت لاستخدام علبة مناديل كاملة لأنظف الكابينة قبل المباراة! هذا بالإضافة لضعف الخدمات في الملاعب إذا أراد المعلق أن يشرب أو يأكل شيئا، لا أنسى مباراة علقت عليها في ملعب بورسعيد كانت في بطولة الكونفدرالية، ذللت بحثا عن الماء، علقت على المباراة كاملة دون رشفة ماء تعينني".
دخول الملاعب لطالما كان أزمة عانت منها أيضا أجيال سابقة، يقول حاتم بطيشة متعجبا "لم يتغير الأمر منذ 20 عاما؟ منذ أن بدأنا نعلق؟ أتذكر أني كنت أذهب إلى مباريات كثيرة رفقة كابتن بكر رحمه الله، كنا نقف أيضا على الأبواب".
وفي النهاية، يلام المعلق. صوته رديء، ولا يعرف المتلقي أنه يعلق بواسطة الهاتف.
أداؤه سيء، ولا يعرف المتلقي أن يدا ممسكة بالميكروفون وأخرى تحمل أوراقه، عذرا لا يوجد طاولة.
نظره ضعيف، ولا يعرف المتلقي أن أمامه شاشة ربما حجمها مشابه لهاتفه الجوال.
تركيزه قليل، ولا يعرف المتلقي أن الجمهور قاب قوسين أو أدنى منه.
يستغيث المعلق المصري من نظرة دونية إلى مهنته، ظروف صعبة عليه تقبلها رغما عنه ليقوم بواجبه، رغم أنه المنوط بالمهمة الإعلامية الأهم حين تتجه أنظار الجميع إلى المباراة. وفي النهاية، يتحمل خطأ غيره، وأيضا، يحصل على الفتات.
لا يوجد في مصر تعليم أكاديمي أو دورة جامعية لمن يحلم بالعمل كمعلق، يتيح له تزيين موهبته بالعلم والمعرفة ليكون أقدر من غيره.
لكن معظم المعلقين الأجانب يدرسون التعليق قبل العمل به، كثير من الإنجليز المشهورين اجتازوا دورة البث الصحفي في جامعة Nottingham Trent مثل كيفن هاتشارد (قناة RTE) وآدم سامرتون (قناة BT Sports) ومارك سكوت (شبكة BBC) وفيل بلاكر (قناة SKY Sports).
"عبد الله السعيد، على القائم الأووووووووول، هيااااااااااااا، هيا هيا هيا هياااااااااا، يا كهرباااااااااا، كهربهم يا كهربا، محمود كهربا يأتي بالهدف القاتل" علي محمد علي - مصر والمغرب - ربع نهائي كأس إفريقيا 2017
أسير الشُح
مهنة ثانوية = أجر زهيد.
حصول المعلق المصري على الفتات يجعله رغما عن أنفه مضطرا للعمل بمهنة أخرى ليستطيع الإنفاق على نفسه وأسرته.
لا يتفرغ فقط للميكروفون، وإنما يصبح التعليق غالبا مهنته الثانوية وليست الأساسية، ودون شك، يؤثر ذلك على جودة عمله.
المثير للانتباه، أن القيمة المالية للتعليق كانت أفضل منذ 60 عاما. رغم فارق السنوات الضوئية بين اللعبة في الخمسينيات وهي تبحث عن شعبية عبر أثير الإذاعة، وبين كرة القدم الآن التي أصبحت تجارة وصناعة تدر دخلا لا حصر له.
هذا ما كشفه فهمي عمر في حواره مع الأهرام الرياضي.
قال فهمي، الذي دخل الإذاعة في منتصف القرن الماضي وتقاعد في 1988:"لابد أن نعود للبداية في الخمسينيات، كان المعلق يحصل على 15 جنيه، يذهب ويعود من المباراة في سيارة خاصة، ويحصل على بدل سفر محترم يكفيه وأسرته لشهر كامل. لابد أن يعطي ماسبيرو للمعلق ما لا يقل عن 3000 جنيه في المباراة ويزيد الأجر إلى 5000 جنيه لجذب النجوم السابقين للعبة".
يحكي هيثم فاروق كيف كان ينفق من ماله ليعلق فيقول:"كنت أسافر من الإسكندرية للقاهرة لأعلق، كنت أصرف في اليوم تقريبا 250 جنيها، وفي المقابل أحصل من الإذاعة على 50 جنيها في المباراة. أقاربي كان يقولون لي ما الذي تفعله؟ ضعف المقابل المادي هو الذي جعل لاعبي كرة القدم يعزفون عن التعليق".
وكشف أشرف محمود في كتابه "فن التعليق الرياضي" أن المعلق بنهاية القرن العشرين وبداية القرن الـ21 كان يحصل في المباراة الواحدة على 48 جنيها من التلفزيون، 68 جنيها من الإذاعة و110 جنيهات من نايل سبورت.
وفي اللحظة التي يكتب فيها هذا التحقيق، يحصل المعلق في المباراة على 300 جنيه من التلفزيون، و200 جنيه من الإذاعة.
وفي المتوسط، 1000 جنيه في نايل سبورت، و2000 جنيه في أون سبورت.
"تتعلق آمال المصريين بمتعب وزكي و وحييييييد، وهو والجول، والجول الرابع، الجول الرابع لمنتخب مصر، لسة بقول لحضراتكم، يا يا يا على الجمال" طارق الأدور - مصر وكوت ديفوار - نهائي كأس إفريقيا للشباب 2003
المتفرغون للتعليق في مصر لا يتجاوز عددهم أصابع يد واحدة، لكن يقول بلال علام إن "في السعودية 60% تقريبا من المعلقين متفرغين تماما للمهنة".
ضعف المادة مع ندرة الفرصة أجبر معلقين على قبول العمل دون مقابل، وهو ما ينتقده أحمد الطيب بالقول:"الجيل الجديد من المعلقين يقبل العمل ببلاش، لابد أن يقدروا أنفسهم ويطلبوا مرتبات جيدة. المعلق الذي يعمل دون مقابل في قناة عليه أن يفضحها".
يروي أحمد عبد الرازق (معلق في ماسبيرو) "المسؤولون عن اختيار معلقي المباريات في قناة نايل سبورت تواصلوا معي في الموسم الماضي وقالوا نريد أن نسمعك في مباراة، وبعدما اقتنعوا بقدراتي أبلغوني أني معهم بشكل مستمر. كنت أعلق ولا أتقاضى أجرا وفوجئت بمعلق آخر بدأ العمل في القناة في نفس الفترة لكنه يحصل على مستحقاته، عندما استفسرت عن الأمر قالوا: ده جاي من فوق! علقت على ما يقرب من 20 مباراة ولم أقبض جنيها، وحين طلبت مالي من الشركة الراعية قالوا لي: اللي راح راح".
الأمر تكرر مع عبد الحميد حافظ الذي يقول:"علقت على مباريات عديدة في نايل سبورت خلال موسم 2015-2016 وعندما كنت أسأل عن أجري لا أحصل على جواب. بعد أشهر قررت التوقف لأني لن أعمل دون مقابل وحين أعلنت المشكلة تواصل معي مسؤول الشركة الراعية لأحصل على مالي. لم أدخل القناة من وقتها".
FilGoal تواصل مع مسؤولي نايل سبورت للاستفسار لكنهم فضلوا عدم الرد.
لكن مصدر آخر داخل ماسبيرو، رفض ذكر اسمه، على علم بمشكلة المعلق أحمد عبد الرازق قال إن الأخير وافق على العمل دون مقابل.
وفي أون سبورت، تأكد FilGoal من أكثر من معلق أن تعاملهم المالي مع القناة يتم بنظام التدريب دون مقابل أو بالتعليق على المباريات بالقطعة.
تتم هذه الاتفاقات بين الطرفين، لكن ماذا عن المستقبل الذي يحفز المعلق أو يكفل له الاستقرار؟
حاولنا التواصل مع مسؤولي القناة لاستيضاح نظام عمل المعلقين ومستقبل المتدربين لكن فضلوا عدم الرد.
وفرة المعلقين جعل بعضهم يقبل العمل بدون أجر، وهو أمر صب في مصلحة قنوات تحاول التقليل من نفقاتها.
في دول أخرى، أجر المعلق يعكس قدر مهنته. في إنجلترا مثلا قالت صحيفة ميرور إن معلق شبكة BBC يحصل في المتوسط على 175 ألف جنيه إسترليني سنويا، 6 أضعاف متوسط دخل المواطن الإنجليزي في 2017.
بينما معلق كرة القدم الأمريكية (الرجبي) يصل راتبه أحيانا إلى مليون دولار في الموسم! وفي الولايات المتحدة يحاولون دائما جذب النجوم القدامى للعبة للعمل كمعلقين.
وفي الدوري السعودي يحصل على المعلق على 1500 ريال (7000 جنيه مصري تقريبا) في المباراة الواحدة وهو ما كشفه بلال علام الذي يقول أيضا:"قناة دبي الرياضية حين بثت الدوري الألماني كانت تمنح المعلق في المباراة 2000 درهم (9500 جنيه مصري تقريبا)".
وقال المعلق الشهير رؤوف خليف في حوار مع قناة تونسية إن "المعلق المنتمي للدرجة الرابعة في beIN sports يحصل على 8000 دولار في الشهر (138 ألف جنيه مصري تقريبا)".
بينما أوضح حاتم بطيشة "المعلق الجديد في beIN sports قد يصل أجره الشهري إلى 20 ألف ريال (95 ألف جنيه مصري تقريبا)، وهذا بخلاف بدل السكن".
"حازم إمام، لطارق لحازم، حازم هو والجول، لحسااااااام، جووووووووووول، يا سلام يا حازم يا سلام يا حسام، الله الله الله" أحمد شوبير - مصر وبوركينا فاسو - نصف نهائي كأس إفريقيا 1998
النجوم
مواليد السبعينيات ومن أبصر الدنيا بعدهم، نشأوا على صوت الراحل الرائد محمد لطيف، ومن بعده علي زيوار ومحمود بكر وحمادة إمام وميمي الشربيني وآخرين بعدهم اتجهوا للتعليق بعدما غادروا ميادين كرة القدم بلا رجعة.
التعليق، ارتبط معهم بنجوم كرة القدم القدامى. من علق منهم ومن لم يعلق رغم حصوله على الرخصة مثل عبد الرحيم محمد (رحمه الله) وأسامة نبيه.
تركت نجومية وشهرة معلقي الثمانينيات والتسعينيات أثرا سلبيا على من خلفهم، والذين كانوا مطالبين بعمل شاق يعوض افتقادهم لشعبية نجوم كرة القدم السابقين.
ميمي الشربيني لاعب الأهلي السابق يرى أن العامل بكرة القدم أولى من غيره فيقول:"يفضل أن يدخل مجال التعليق شخص يعمل في كرة القدم، يا حبذا لو كان نجما سابقا لأن هذا يساعده في مهمته".
معاناة ما بعد جيل النجوم أول من واجهها كان جيل 1998 الذي ظهر للنور مع نشأة قناة نايل سبورت. أشرف محمود وعلي محمد علي وحاتم بطيشة وطارق الأدور وأحمد الطيب كانوا في مهمة شاقة مرهقة لأنهم دخلوا كبائن التعليق وبجوارهم نجوم المهنة.
يقول أشرف محمود:"نحتنا في الصخر لأننا لم نكن لاعبين مشهورين مثل من سبقونا، لم يكن مقبولا منا كلاما يقوله القدامى. استغلينا بداية وجود الإنترنت في مصر وتميزنا عن غيرنا بتقديم المعلومات".
ويختلف حاتم بطيشة عن رأي الشربيني بالقول:"ليس شرطا أن يكون المعلق لاعبا سابقا لأن هذه مهنة إعلامية ليس لها علاقة بممارسة كرة القدم. جيل 98 حقق نقلة نوعية لأنه استغل المعطيات بشكل صحيح وتعامل جيدا مع الأدوات المتاحة له".
"استنى المساندة، يجيله العراقي، يسند يسند، ودي اووووووو جوووووووول، جوووووووووووول، عبد الله بيكا، بيكا يا بيكا شيكا بيكا يحطها حلوة، حلوة حلوة حلوة" الراحل محمد السباعي - الأهلي والمصري - نهائي كأس مصر 2016-2017
جيل 98 دخل ماسبيرو فوجد كأس العالم يعرض في شاشة، واليورو في أخرى، وثالثة تبث دوري أبطال أوروبا، وبطولات عديدة لا حصر لها. حضر مباريات محلية وقارية كثيرة في ملاعب مكتظة بالمشجعين. اقتنص الفرصة، فذاع صيته ولمع اسمه وكبرت شعبيته، فتهافتت القنوات عليه.
ثم اندثرت المباريات شيئا فشيئا، حتى صار المعلق المصري يقف في طابور طويل خلف زملائه منتظرا دوره في لقاء بالدوري المصري.
أسرته بطولة واحدة فقدت رونقها، وقيده مستمع غيرت لهجات غير مصرية مزاجه.
أحبطته مجاملات، ولهث خلف فرصة نادرة.
أهمله مسؤول، وصفده زميل محتكر للميكروفون.
أنفق ليُسمَع صوته، ولم يقدر أحد مهنته.
الكروان ذو الصوت العذب الجميل أصبح أسيرا، مكمم فمه، ومدفونة موهبته. تركه الجمهور، بحثا عن غيره.
بحثا عن كروان، ليس مكبلا بأصفاد غير مرئية.