لكل منا حلم لا يُفارقه ولكننا قد نفارقه.. لا يُغادرنا ولكننا قد نُغادره.. حلمُ يتشكل منذ الصغر، بعضنا قد يكبر ويكبر معه حلمه، والآخر قد يفارقه بلا رجعة مخبئا إياه بين ثنايا النفس قابعا.
خُلقنا وقد اختلفت الأقدار فيما بيننا كاختلاف الخلائق. هناك من يتخلى وهناك من يستمسك بالتلابيب، لكن ماذا إن لم يؤمن أحد بهذا الحلم إلاك؟ ماذا إن لم يثق أحد سواك؟
تتكالب الظروف وتتعدد الأسباب ويظل الفقر جاثما على الصدور مُكبلا للإرادة ومتحكما في المصائر، والأهل لا يثقون ولا يؤمنون، فقط يريدون أن تسير وفقا للمسار المحدد.. المسار الذي لا تريد أن تخطو خطوة واحدة فيه.
لكن من بين الركام سينشد الطفل حلما لا يغادره، وبقدر اليقين سيتصارع مع الظروف والأهل والفقر معا حتى ينشد ما تمناه يوما.. وقد كان، فالسعي يُفتّح أبواب السماء ويُغير الوقائع.
قد وقفت على ناصية الحلم وقاتلت يا ساديو.....
في مدينة سيدهيو بالقرب من ضفاف نهر كازامنس بالسنغال، وفي قرية صغيرة تُدعى بامبالي حيث لا يُعرف هناك سوى الفقر المدقع، وحيث لا ترتفع الآمال والطموحات إلا بقدر ارتفاع أبواب المنازل، عاش ساديو الصغير.
أراد الأهل أن يزرعوا فيه طموحاتهم ورغباتهم هم، فكانت وظيفة المدرس هي الوظيفة المثالية التي يحلم بها الوالدان ولا يحلم بها طفلنا الذي كان قد ولى وجهه صوب الحاج ضيوف ورونالدينيو!
تلك البلدة التي لم تعرف أبدا أي لاعب كرة محترف من قبل كانت بانتظار ماني بعد عدة سنوات - مرت كالضهر - حتى يصبح الأول.. والأهل اعتبروها مضيعة للوقت.
يقول بطل قصتنا: "ولدت في قرية لم يكن بها أبدا أي لاعب محترف من قبل. أتذكر عندما كنت صغيرا أن والداي شعرا أنه يتوجب علي قضاء مزيد من الوقت للاستذكار حتى أصبح مُدرسا".
"أعتقدا أن كرة القدم إهدارا للوقت وأنني لن أكون ناجحا بها أبدا. اعتدت أن أقول لهم: هذه الوظيفة الوحيدة التي ستمكنني من مساعدتكم، أعتقدت أنني أملك الفرصة كي أصبح لاعبا".
وفي سن الـ15 كان عليه أن يبدأ أولى مراحل التخلي في سبيل الوصول لما يتمناه.
سيرحل ساديو عن قريته الصغيرة وعائلته متجاه صوب الشمال باتجاه العاصمة داكار حيث يتعين عليه أن يقطع مسافة 500 ميلا من أجل الخضوع لاختبار في أحد الأكاديميات.
"دائما ما كان هناك دورة كروية في القرية واعتدت على المشاركة بها، اعتدت على لعب الكرة في كل مكان: في الشوارع في الطرق وفي أي مكان تُلعب به، منذ كنت في سن 3 أعوام وأنا أتذكر الكرة أحملها بين يدي. في الدورة أخبرني الجميع أنني أفضل لاعب بالمدينة، ولكن أهلي لم يلتفتوا إلى ذلك إذ لم يهتموا بكرة القدم".
"في قلبي وفي عقلي لم يكن هناك سوى الكرة، في 2002 كانت البلاد تعيش أجواء رائعة بسبب الوصول لأول مرة للمونديال، والانتصار على فرنسا في المباراة الافتتاحية. اعتدت على مشاهدة نجوم بلادي، وتخيل أنني ألعب مكانهم".
"بعد مضي فترة من الوقت حاولت إقناع عائلتي بالتوجه نحو داكار ولكنهم رفضوا ذلك ولم يتقبلوا الأمر، ولكن بقدر ما رأوا من تمسكي بالأمر وأنه لا خيار آخر أضعه أمامي تراجعوا ووافقوا، ثم بدأوا في مساعدتي".
"رحلت متجها صوب العاصمة رفقة عمي حيث كانت الاختبارات. عندما وصلنا كان هناك العديد من الأطفال الذي يرغبون في خوض الاختبار وقد تم تقسيمهم إلى فرق، ولن أنسى أبدا ما حدث لاحقا، يبدو مضحكا في الوقت الحالي".
"عندما حاولت البدء كان هناك رجلا كبيرا. نظر إلي وكأنني في المكان الخطأ، سألني: هل أنت هنا من أجل الاختبار؟ فأجبته بنعم، فأخبرني: مع هذا الحذاء؟! انظر إليه، كيف يمكنك أن تلعب به.. كان الحذاء سيئا حقا، ممزق وقديم.. ثم عاد وسألني: بهذا السروال أيضا؟ أنت حتى لا تملك زيا مناسبا للعب".
"أخبرته أنني قدمت بأفضل ما لدي، وأنني فقط أريد اللعب وأن أظهر نفسي.. أتذكر ملامح وجهه عندما رآني ألعب، كان متفاجئا. سار تجاهي وأخبرني: سوف اختارك مباشرة، سوف تلعب في فريقي.. وبعدها ذهبت إلى الأكاديمية".
"عمي ساعدني كثيرا ولكنه لم يكن الوحيد في البداية، ذهبت للعيش مع عائلة لا أعرفها، عائلتي عرفوا شخصا يعرف تلك العائلة، أخذني إليهم للعيش معهم، وقد راعوني حقا، وفعلوا كل شيء لمساعدتي على التفكير في الكرة فقط.. حتى رحلت إلى ميتز".
رحل ساديو صوب ميتز، كان واثقا من قراره لدرجة أنه لم يخبر أهله في البدء أنه اتخذ القرار بالفعل.. بدأ الحلم يتخذ مسارا جديا. ناد درجة ثانية فرنسي حيث أعين الكشافين متواجدة وحيث أول سُلمة في الدرج.
مع ميتز لم يحتج ماني إلى الكثير من الوقت لإثبات موهبته. عام واحد فقط مر قبل أن يصمم ريد بول سالزبورج النمساوي على التعاقد معه.. الرحلة تتخذ خطوة أخرى تصاعدية في الطريق إلى القمة.
انتقل إلى صفوف الفريق النمساوي مقابل 4 ملايين يورو ليصبح أغلى لاعب يبيعه النادي الفرنسي في تاريخه.. وفي النمسا كان الوضع مشابها لما في فرنسا.. تألق ومهارات وأهداف غزيرة.
في موسم 2013-14 كان السنغالي في أبهى صوره. 3 هاتريك وثنائية الدوري والكأس المحلية مع سالزبورج.. حينها أتت الخطوة التي تعين عليه فيها أن يتخذ قرارا حاسما.
بروسيا دورتموند ظهر في الصورة. يورجن كلوب أُعجب بما يقدمه ساديو ويريد ضمه إلى أسود الفيستفالين، لكن المفاوضات انتهت سريعا بعدما تعنت سالزبورج في مطالبه.
يحكي ماني عن تلك الخطوة "كنت متحمسا للغاية عندما علمت برغبتهم في ضمي، اعتدت على مشاهدة فريقهم. لكن الأمور لم تسر والمفاوضات انتهت وشعرت حينها بإحباط كبير.. لكن هكذا هي الحياة، لا شيء يأتي بسهولة".
"أخبرت نفسي بمواصلة العمل الشاق أكثر وأكثر وبالتأكيد وقتها سوف يأتي شيئا كبيرا".
ساوثامبتون وسبارتك موسكو أرادا أيضا الحصول على خدماته. عرض في الدوري الإنجليزي، وآخر مغري للغاية من الجانب الروسي حيث العرض والراتب المضاعف.. لكن الحظ وإن أتى فلن يكون إلى جوارك طوال الوقت.
ماني اتخذ القرار. سأنضم إلى القديسيين، وسالزبورج رفضوا بإصرار. العرض الروسي أضخم بكثير.. لكن ساديو تمرد وقرر الانقطاع عن التدريبات حتى وافق ناديه أخيرا على الرحيل.
وفي إنجلترا بدأت الرحلة التي يعرفها الجميع. تألق وإبهار وانتصارات حتى ظهر الحمر في الصورة بعد موسمين فقط، وهذه المرة كلوب كان متمسكا.
ليفربول يريده أن ينتقل إلى مقاطعة ميرسيسايد وساوثامبتون لم يمانع.. سيصبح أغلى لاعب إفريقي في ذلك الوقت مقابل 34 مليون إسترليني.
يتحدث الطفل الذي بات شابا ناضجا الآن: "ذهبت إلى ساوثامبتون ثم لعبت جيدا وعندها أرادني كلوب مجددا.. الآن أنا محظوظ بما يكفي للعمل مع أحد أفضل مدربي العالم. ما حدث كان قدرا، وسعيد لأنني أتعلم منه طوال الوقت".
في أول مواسمه مع الريدز انفجر ماني كالعادة وسجل 13 هدفا وصنع 8 خلال 29 مباراة، ليتوج بأفضل لاعب في الفريق في ذلك العام.
بعدها - الموسم الماضي - كان السجل يرتفع أكثر، 20 هدفا وصناعة 9 أهداف.. كان ذلك موسم الثلاثي الهجومي الناري رفقة محمد صلاح وروبيرتو فيرمينو.
ليفربول وصل إلى نهائي دوري أبطال أوروبا، ولكنه خسر النهائي أمام ريال مدريد بنتيجة 3-1، والهدف الوحيد سجله الدولي السنغالي الذي حمل آمال الفريق على عاتقه بعد إصابة صلاح.
لا يتوقف كلوب عن إظهار كلمات المديح مرارا وتكرارا "إنه لاعب مذهل للغاية. لم يكن لدي أبدا أي رأي آخر فيما يخص ذلك".
وبينما كان الجميع يوجه أنظاره صوب صلاح وفيرمينو في الموسم الماضي كان كلوب يظهر ليعيدها إليه مرة أخرى "من الطبيعي أن نتحدث عن محمد وروبرتو، ومن الطبيعي أيضا أن يتناسى الناس أحيانا إسهامات زميلهما، ولكنني لا أفعل ذلك".
وأما عند تألقه هذا الموسم فلا يشعر المدرب الألماني بالاندهاش "من الواضح أنه لا يجب عليّ التحدث عن ذلك، فهو يعرف ذلك، والجميع يعرف ذلك ولا أريد التحدث عنه.. ذكروني بعد الموسم وسأغني أغنيتي الخاصة به إذا لزم الأمر".
"إنه جيد حقًا، إنها لحظة جيدة وهدفي أن تستمر لفترة طويلة، وهذا ما أسعى إليه حقًا".
خلال الموسم الجاري سجل ماني 20 هدفا وصنع 4 خلال 38 مباراة بجميع المسابقات.
يعود كلوب ويسهب موضحا سبب إيمانه بما يقدمه السنغالي "أنت بحاجة إلى شخص قادر على اللعب في المساحات الصغيرة، يمكنه أن يتقدم من الخلف، يتأقلم مع الضغط الدفاعي، يتميز بالذكاء في التعامل مع الكرة، كل هذه الأشياء".
ويُضفي بُعدا تكتيكيا "لدينا لاعبين آخرين يمكن أن يلعبوا في هذا المركز ولكن ليس لديهم سرعة وإمكانات ساديو، من الواضح. لعب ماني في مراكز مختلفة في مسيرته ومعنا كذلك، لذلك لم يكن لدي شك في أنه سيلعب بشكل جيد في مركز المهاجم".
وبينما كان صلاح الذي انفجر مسجلا 44 هدفا موسم 2017-18 يعاني من غياب التسجيل لعدة مباريات، لم يجد كلوب أفضل من ضرب المثل بساديو ماني.
"يلعب ساديو بهذا المستوى بشكل دائم، لكنه الآن يتواجد دائما في المكان المناسب وفي الوقت المناسب".
"الشيء الوحيد الذي فعله ماني عندما لم يكن يسجل كثيرا هو العمل والعمل والعمل. هذا هو بالضبط ما يجب على صلاح القيام به، الشيء نفسه بالضبط، العمل فقط، والقيام بالأشياء الصحيحة، والأهداف ستأتي مرة أخرى".
يجلس ساديو وهو يشاهد مجموعة من أهدافه الرائعة عبر مسيرته.. ترتسم على ملامحه علامات الحرج، وتظهر ابتسامة خجولة وناصعة لمن يبدو التواضع على مُحياه.
لا يشعر ماني أنه يستحق كل هذا التقدير، ويخجل حين توجه إليه كلمات المديح مباشرة، ينظر في الأرض ولا يُثني على نفسه.
يعود بالذاكرة إلى تلك الأعوام التي مضت ويسترجع "العديد من اللاعبين المهاريين الذين نشأت معهم لم يحظوا بفرصة التحول للاحتراف مثلي. أعلم أن الأشياء الصعبة كانت مهمة بالنسبة لي كي أنجح".
"افتقدت عائلتي كثيرا، افتقدت أمي وإخوتي ولكن لكي أكون لاعبا فكل ما احتاجه هو أن أعلم أن تلك الأيام الصعبة ساعدتني على النجاح".
"عندما تكون طفلا صغيرا تظن أنك تعرف كل شيء عن الكرة ولكني تعلمت بعد ذلك الكثير: أساليب مختلفة وفنيات مختلفة، وكيف تصبح لاعبا متكاملا، منذ أيامي في الأكاديمية وحتى الآن".
"أنا شخص يحب أن يسمع، يحب أن يشاهد، يحب أن يتعلم، مازلت صغيرا وأبني نفسي لذا أرغب في التطور. كل يوم هو فرصة جديدة للعمل الجاد والاقتراب من النجاح".
"الآن أنا هنا بدون ندم، أعيش أحلامي".
** المصادر:
- How I went from torn boots and shorts on Senegal's streets to a Liverpool
- Unstoppable
- THE MOMENTUM MAN
- 'They never believed': Sadio Mane admits parents said he was 'wasting time'
- Sadio Mané’s Impressive Season Start
اقرأ أيضا:
في الجول يكشف كيف يفكر جروس للقاء المقاولون
هل يحافظ النحاس على سجله الرائع ضد الزمالك؟
تشكيل الزمالك المتوقع - مفاضلة في الدفاع وعمر السعيد يقود الهجوم أمام المقاولون
في حضور متعب.. تعرف على إجراءات قرعتي ربع ونصف نهائي الأبطال والكونفدرالية
كلوب ينصح صلاح: عليك القيام بما يفعله ماني
إينو يختار لـ في الجول الأفضل ومفاجأة الموسم ومدرب لم يظهر بالشكل المتوقع