كتب : مصطفى عصام
"الحرب النووية القادمة حدث مأساوي لا مفر منه. سوف تدمر على الأقل نصف البشرية، تباعا ستمر على جسد الثروات البشرية الهائلة، ستثير جحيم حقيقي على الأرض، لكنها لن تقضي على الشيوعية".. خوان بوساداس أديب أرجنتيني إيطالي ولاعب كرة قدم سابق (1918-1981).
إنه لأمر غريب بالطبع أن ترتبط الشيوعية بكرة القدم، تلك البقرة الحلوب التي تدر ذهبا لأغلب الأنظمة الرأسمالية، كان أمرا تراثيا أن تندمج كرة القدم مع هوية الطبقة العاملة لفترة طويلة، وبالتالي لم تصل توليفة كرة القدم مع الاشتراكية بحماس كبير. ولكن تصادف أن التقت مساحات بين كرة القدم والشيوعية في رموز كروية لبلاد رأسمالية.
ولكن أولئك اللاعبين كانوا شرسين للغاية في الدفاع عن قضيتهم، فعلى سبيل المثال كان بول برايتنر النجم الأول لألمانيا الغربية طيلة فترة السبعينات يحضر دوما كتابه "الكتاب الأحمر الصغير" أحد أهم الكتابات الشيوعية للزعيم الصيني ماو تسي يونج إلى تدريب ألمانيا الغربية ويعلق صورا في منزله لجيفارا وفلاديمير لينين ويقرأ صحفا وكتابات لفهم الماركسية.
ولكن كرة القدم الشيوعية لم تحرز تقدما واسعا على أرض الملعب بأفرادها المحدودين في البلاد الرأسمالية أو بالمنتخبات العتيدة أمثال الاتحاد السوفيتي والصين على الخريطة الكروية عالميا، لذا احتاج لكيان أوسع من رمز كروي سيندثر مع الاعتزال بعد ذلك، ظهر هذا الرمز مع بدايات الثورة البلشفية في روسيا عام 1915 ويستمر إلى الآن بعد وقت طويل من انهيار الاتحاد السوفييتي وكل ما كان يعتز به، ظل ركن من أركان كرة القدم الإيطالية مثل نادي ليفورنو يحافظ على دعمه للشيوعية متعريا من كل أذنابها، حتى عرف ليفورنو بنادي مسقط رأس الحزب الشيوعي الإيطالي.
للوهلة الأولى، يبدو أن رحلة إلى استاد ليفورنو "ستاديو أرماندو بيكي" هي تجربة كرة قدم عادية متناثرة ويمكنك أن تشاهدها في أي استاد أخر حول العالم. ونادرا ما تباع في الحقيقة التذاكر كاملة لتلك الساحة التي تبلغ طاقتها 19 ألف متفرج، لكن المجموعة التي تقف دوما في المدرجات الخلفية خلف هدف واحد هم الأتباع الأصليين لليفورنو الأكثر صخبا، يتجمعون هناك للغناء والتلويح برايات التشجيع وصيحات الموجات التشجيعية.
مع تصدر الأعلام الحمراء الخاصة بجماهير ليفورنو بالمشهد، لا يمكن تخيل سوى جماهير تحتوي نفس غضب النسخ الاشتراكية القديمة في المدرجات التي رأيناها في مختلف الجمهوريات المتفككة للاتحاد السوفيتي مثل جورجيا وأوكرانيا وكازاخستان، أو ربما تسفر عن أعمال عنف مثل الجمهوريات الاشتراكية الصديقة مثل يوغوسلافيا كما يحدث في مباريات النجم الأحمر وبارتيزان الصربي في زمن ما قبل تفكك يوغوسلافيا.
إلا أن المشهد أو المد الأحمر كما يسمي جمهور ليفورنو تشجيعهم لم يتبع النسخ العنيفة من الاشتراكية ولا من النسخ الاشتراكية الحديثة مثل ظهور أقنعة جاي فوكس بين جماهير فريق سانت بولي "فريق شيوعي قديم يقبع حاليا في هامبورج بألمانيا".
فحتى الآن، عند التفتيش الدقيق على بوابات الاستاد والتفحص في هويات المشجعين، لا يوجد شيء غير تقليدي حول مؤيدي ليفورنو على الإطلاق. الأغاني التي ينشدونها لا تشيد فقط بقدرات أهداف مهاجمهم مثلا أو بتاريخ ناديهم، فالأغاني لا تثني إلا على روح تشي جيفارا الثورية أو تنعي ذكرى وفاة الرئيس الفنزويلي هوجو تشافيز. اللافتات التي يعرضونها لا تقلل من منافسيهم فحسب.
بل تعبر عن تضامنهم مع مشاكلهم في العمل وصعوباتهم التي يواجهونها مع الرأسمالية الطاحنة بإيطاليا وأحيانا تشيد بمنافسي اليوم أصدقاء الأمس مثل "لوكاريللي". الأعلام التي يعرضونها ليست إيطالية الأصل، بل هي روسية كوبية الأصل، أو بالأحرى قد تجد يافطات تؤيد الحركات الثورية للجيش الأيرلندي للاستقلال عن المملكة.. بعض التعاطف مع القضية الفلسطينية.. أو سلة جمع تبرعات من أجل المشردين في هاييتي.
يعتبر مشجعو ليفورنو فخرًا للمد الشيوعي الذي بدأ في التآكل والتساقط منذ بداية التسعينيات، حيث يتم استخدام المباريات على أرضهم كفرصة لإظهار ذلك، كما قاموا بتطوير صداقات مع زملائهم من الجناحين اليساريين في أندية مثل مارسيليا وبيشتكاش وسيلتيك وأيك أثينا، ففي حين توجد منافسات شرسة مع الفرق الإيطالية مثل لاتسيو وفيرونا، الذين يميل أتباعهم إلى أن يكونوا في أقصى اليمين السياسي. هذه العلاقات تعزز شخصية ليفورنو السياسية، وأصبح من الصعب الآن تصور تمييع أو تفتيت هويتها الجماعية.
كيف بدا ليفورنو متفردا؟!
أصبحت إيطاليا دولة وأمة موحدة فقط في عام 1861، حيث يمثل تاريخ مدينة ليفورنو الخاص به بشكل مثالي الوجود السابق للأجانب للبلاد في عصر ما قبل الاتحاد باعتباره خليطًا من الأعراق المختلفة التي سكنت إيطاليا وحكمتها سلالات مختلفة. تم بناء ليفورنو كحصن ساحلي لحماية البيزنطيين بإيطاليا من الهجوم عليهم وخصوصا من المد الإسلامي البحري في القرن الحادي عشر، ثم أصبحت ليفورنو ملكا لمملكة جنوى تارة ثم مملكة فلورنسا تارة أخرى قبل أن تصبح مدينة منفصلة في حد ذاتها.
في الفترة التي كانت تحت سيطرة فلورنسا، بدأت النزعات السياسية ذات الميول اليسارية في الظهور، فقد قامت عائلة ميديسي التي حكمت مملكة فلورنسا لأربعة قرون من القرن الثالث عشر الميلادي، ببناء ميناء جديد في ليفورنو لتحسين التجارة وشجعت التجار المهاجرين من أي خلفية أو ديانة للانتقال إلى المدينة وجعلها وطنهم. فجمعت بعضا من شتات اليهود، الأتراك، الفرس، المغاربة، الإغريق والأرمن، وخلقوا خليطًا من مختلف الأعراق والأديان.
وعلى الرغم من الخلفيات المتنوعة، سرعان ما تعزز الإحساس القوي من التآلف والوحدة بين مواطني ليفورنو الجدد، على الرغم عمل معظمهم فيما بعد أيامًا طويلة وصعبة مثل عمال الموانئ أو الصيادين. لم يكن العمال خائفين من الاحتجاج ضد رؤساءهم الأثرياء إذا شعروا بأنهم يعاملون معاملة غير عادلة، وعندما أدى توحيد إيطاليا إلى فقدان ليفورنو مكانتها كميناء حر، أظهر سكان تلك المدينة معارضتهم لتلك الوحدة من خلال مظاهراتهم علنا.
وفي إطار هذا السياق السياسي والاجتماعي، تشكل الحزب الشيوعي الإيطالي في ليفورنو عام 1921. حيث انفصل أنطونيو جرامتشي وأماديو بورديجا، العضوان اللذان أبديا استياءًا من حزب بارتيتو سوسيتيستا الحاكم، ليشكلوا المجموعة الجديدة، متعمدين اختيار مكان ولادة ثوري حيث سيحقق لقضيتهم الدعم الفوري. فيما بعد تم حظر الحزب من قبل النظام الفاشي لبينيتو موسوليني بعد عدة سنوات، لكنه استمر - مع المدينة التي أنشأ فيها - للعب دور رئيسي في حركة مقاومة الأمة ضد الفاشية. وحتى يومنا هذا، تنتخب ليفورنو بانتظام كل المرشحين اليساريين في كل من الانتخابات، وهذا راجع إلى ترسخ هويتها الاشتراكية بقوة.
كان تسييس مجموعات مشجعي كرة القدم في إيطاليا هو نتيجة مباشرة لإقليم ليفورنو وتاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية. من عام 1946 حتى عام 1992، فاز الحزب الديمقراطي المسيحي بأكبر عدد من الأصوات في كل انتخابات واحدة لكل من المجلسين التشريعيين في البلد، ومن حيث الموقع الوسطي سياسيا وآرائهم التي كانت تسمح لهم بمناشدة الناخبين من اليمين عبر الطيف السياسي، وهو بالطبع ما تعارض مع هوى مشجعي كرة القدم الإيطالية المخالفين دوما للحكومات الممثلة من الحزب الديمقراطي المسيحي، فأصبح ميلهم واضح لليسار.
مع مرور الوقت، أدى هذا إلى خيبة الأمل والإحباط بين قطاعات الناخبين، كانت إعدادات الكنيسة الواسعة للديمقراطيين المسيحيين مع حتمية نجاحهم بالانتخابات يعني أن المواطنين شعروا بأن وجهات نظرهم لم تكن ممثلة بشكل حقيقي، وأن الحياة اليومية أصبحت مسيسة بشكل متزايد. كما سعى الناس منافذ أخرى لمعتقداتهم الإيديولوجية. أصبحت كرة القدم واحدة من الوسائل الرئيسية للتعبير، وبدأت الأندية الكلاسيكية في إحياء الهويات السياسية أو تكثيفها على أساس التاريخ الاجتماعي الفريد لبلدتها أو مدينتها أو عبر حكاياتها المجيدة في تلاحم السياسة مع كرة القدم.
كان لدى العديد من النوادي الأخرى في إيطاليا عادات في إظهار الدعم لليسار، ولكن في الألفية الثالثة تلاشت تلك العادات وأصبحت جزءا من الماضي حيث لا شيء من هذا القبيل مثلا يحدث في العاصمة روما، فمثلما كانت الأندية الإيطالية متطرفًة في معتقداتها الاشتراكية مثل نادي لاتسيو أحد رموز دعم الفاشية.
فإن المجتمع قد تغير للنقيض مرة أخرى في الثمانينيات نحو رفض ولفظ الأفكار الاشتراكية والقومية، ومرة أخرى تضامنت كرة القدم مع هذا التغير، وكما أعلنت النيوليبرالية وجماعات رفض المهاجرين التحول إلى اليمين السياسي في أوروبا، انضم إليهم جماعات الألتراس بإيطاليا كذلك، حيث خرجت الألوية ومجموعات التشجيع إلى رواجها بالمدرجات وبدأت في التحول أكثر فأكثر إلى أسلوب قديم في التشجيع يشبه المجموعات الإنجليزية الكاثوليكية المتحفظة قبل عصور الهوليجانز، لكن شيئا مثل ذلك لم يتم مع ليفورنو.
لوكاريللي الأكبر.. رسول طبقة البلاشفة.
معظم المشجعين الشباب يحلمون يومًا ما بتمثيل نادي طفولتهم، ولم يكن كريستيانو لوكاريللي بالطبع استثناءًا. فقد ولد لوكاريللي في ليفورنو في عام 1975، وأدرك طموحه الدائم في عام 2003 عندما وقع عقدا مع ليفورنو ودفع نصف ثمن الصفقة من جيبه الخاص لينتقل من تورينو إلى نادي الطفولة الخاص به.
ففي عام 2000 أصبح فريق ليفورنو رمزا للسياسات اليسارية ومعارضة السياسات الإيطالية التي سيطر عليها سيلفيو برلسكوني.
فبين عامي 2001 و 2006 كان برلسكوني في فترة ولايته الثانية كرئيس وزراء إيطاليا (كان يشغل أيضًا المنصب في الفترة من 1994 إلى 1995). يسيطر على أقطاب الإعلام للترويج للسياسات اليمينية، ومن ثم كرئيس لنادي إيه سي ميلان الذي جعله رمزا كرويا للسياسة اليمينية الشعبية التي هيمنت على في إيطاليا.
هذا هو الوقت الذي عوقب فيه دي كانيو مهاجم لاتسيو بغرامة 10000 يورو بعد أن شوهد يحتفل بالهدف مع التحية الفاشية للمدرجات. تسببت قضية دي كانيو في إثارة غضب عالمي، خاصة بعد أن تلقى كريستيانو لوكاريللي بطل ليفورنو الأوحد، الذي أيد علنا الشيوعية، غرامة قدرها 30 ألف يورو للاحتفال بهدية رفعتها القبضة اليسارية التحية الشيوعية.
كان كريستيانو لوكاريللي "الأخ الأكبر لأليساندرو لوكاريللي أسطورة بارما" بطلًا لجمهور ليفورنو خلال أربعة مواسم قضاها مع الفريق منذ 2003 وحتى 2007، حيث تزامل خلال موسم 2004-2005 مع شقيقه الأصغر بـ20 شهرا أليساندرو.
ولكن كريستيانو نال حب الجمهور ليس بسبب مآثره على أرض الملعب حيث سجل 92 هدفا بقميص ليفورنو في 147 مباراة وحاز معاهم لقب هداف الدوري موسم 2004-2005، ولكن بسبب معتقداته السياسية والاجتماعية واستعداده للتعبير عنهم. قدم نفسه للجمهور الإيطالي من خلال الكشف عن قميص تي جيفارا بعد تسجيله في مباراة دولية مع المنتخب الإيطالي تحت 21 سنة ضد منتخب مولدوفا، وهو ما أدى إلى إقصائه من المنتخب الإيطالي حيث حاولت سلطات كرة القدم الابتعاد عن الجدل غير الضروري ورفع الحرج أمام برلسكوني.
دار لوكاريللي في رحلة أخرى إلى شاختار وإلى بارما بل وعاد إلى ليفورنو على سبيل الإعارة موسم 2009-2010 حتى انتهى به الاعتزال بنابولي عام 2012 ليبدأ رحلة جديدة في التدريب.. ورحلته الثانية مرت من خلال شعار نادي ليفورنو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حملة بعنوان:
“Il vero Cristiano ce l’abbiamo noi”.. كريستيانو الحقيقي لدينا.
كان ذلك شعار حملة الفريق على مواقع التواصل الاجتماعي بصورة تجمع بين كريستيانو رونالدو في خلفية صغيرة والصورة الأكبر لكريستيانو لوكاريللي.. مدرب ليفورنو الجديد عام 2018
بعد هبوط الفريق إلى دوري الدرجة الثانية الإيطالي من الدوري الإيطالي الممتاز موسم 2012-2013، ظل ليفورنو ومعجبيه تحت أضواء أقل ليسارهم بالمدرج، من المؤكد أن عبادتهم لكاسترو وجيفارا والتعهدات بالتضامن مع البروليتاريا في جميع أنحاء العالم ليست رائجة للظهور بعام 2019، ولكن الأكيد ستستمر تلك التأكيدات العقائدية حتى لو كانوا هم الأشخاص الوحيدون داخل العالم يؤمنون بالشيوعية.
أدت أعمال المشجعين أحيانا إلى إيقاع النادي في مشاكل في الماضي، حيث أدى الاستهجان من قبل بعض مؤيدي ليفورنو خلال تكريم الجنود الإيطاليين الذين قتلوا في العراق إلى إدانة واسعة النطاق.
على الرغم من إصرار مشجعي ليفورنو على أنهم كانوا يعبرون فقط عن رفضهم لمشاركة إيطاليا في الحرب، ولكن للأفضل أو الأسوأ، من غير المرجح أن تخفض مجموعة أمارانتو من شأن إلهامها السياسي لعقيدة ليفورنو السياسية في أي وقت قريب. قد لا تتألق كرة القدم دائماً وسيفقد ليفورنو بالتأكيد نصيبه العادل من المباريات، لكن وفقاً لأتباع النادي والأغنية الشيوعية الشيلية الشهيرة، فإن "الشعب متحداً لن يهزم أبداً".