كتب : أحمد العريان محمد فوزي
مساكين من يظنون أن كرة القدم مجرد لعبة. هي تجسيد للحياة على عشب أخضر، فيها الخضوع والمجابهة، فيها الخانع وفيها أيضا الثوري المتمرد على الظلم. وقصة تكوين منتخب الجزائر خير دليل.
نحن ثرنا فحياة أو ممات، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر، فاشهدو فاشهدوا فاشهدوا.. يعجبكم نشيد الجزائر الحماسي حين يردده لاعبيهم بألحان الفنان المصري محمد فوزي الخالدة؟ تاريخ تكوين منتخب الجزائر لا يقل حماسة ودورا تاريخيا في استقلال الجزائر عن نشيدها.
إن نظرت للتاريخ، فستجد أن منتخبات العالم تتأسس في أعقاب استقلال الدول، لكن منتخب الجزائر كان مختلفا، فقد تأسس لمساعدة الشعب على نيل استقلاله من براثن الفرنسيين.
وفي الذكرى الـ64 لقيام ثورة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي والتي انطلقت في 1 نوفمبر لعام 1954، يقدم لكم FilGoal.com قصة تأسيس المنتخب الجزائري، والذي كان ركنا من أركان المقامة وثورة الجزائريين على الاستعمار.
مؤتمر الصومام
من هنا بدأت القصة، في العشرين من أغسطس لعام 1956 اجتمع العديد من أعضاء المنظمة الجزائرية السرية بدعوة من عبان رمضان أحد ضباط الصف في الجيش الجزائري.
وخلال الاجتماع الذي استمر لعشرة أيام في بلاد القبائل بجبال أطلس، ناقشوا كيفية استمرار الثورة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، ليتم الاستقرار على إنشاء جبهة التحرير الوطني.
بين أولى قرارات جبهة التحرير الوطني كان إنشاء الاتحاد العام للعمال الجزائريين، والاتحاد العام للطلبة المسلمين.
لم تمر سوى أيام قليلة حتى رأى أعضاء جبهة التحرير أن الرياضة أرض خصبة أيضا للنضال، فلماذا لا ننشر قضيتنا مستغلين كرة القدم؟ ومن هنا ظهرت فكرة تأسيس منتخب للجزائر لأول مرة.
مهرجان الشباب العالمي
في نفس الفترة التي فكرت فيها جبهة التحرير بإنشاء تنظيم رياضي يحمل رايتها وراية الثورة الجزائرية ويمثلها في المحافل الدولية، كان المهاجرون الجزائريون يفكرون أيضا "كيف نساعد بلادنا؟".
أقيم "مهرجان الشباب العالمي" في موسكو عام 1957، وشارك فيه بعض الشبان الجزائريين المقيمين في أوروبا، وبعد العودة من المهرجان فكر هؤلاء الشبان "لماذا لا نملك منتخبا وطنيا للجزائر؟".
كون محمد بومرزاق -أحد اللاعبين الجزائريين القدامى في بوردو وفالنسيان قبل أن يكون زعيما في جبهة التحرير- فريقا من 12 لاعبا يمثلون فريقا جامعيا للمشاركة في المهرجان.
وفي ملعب لينين، وأمام 100 ألف متفرج وفي حضرة زعماء سياسيين كبار أيضا مثل خوريتشوف الزعيم الروسي، خاض أول فريق من الجزائريين مباراة استعراضية رُفع فيها العلم الجزائري خلال محفل عالمي لأول مرة.
وقبل عودة اللاعبين الجامعيين من المهرجان إلى فرنسا، كانت سيرة المباراة التي خاضوها قد سبقتهم بالفعل إلى باريس وتركت صداها لدى الحكومة الفرنسية.
الحكومة الفرنسية شعرت ببداية محاولات لتكوين كيان باسم الجزائر، فكان الحل في العنف، وأولى الخطوات كانت تفتيش منزل أصهار زيتوني عبد الغني أحد أعضاء الفريق.
الانسحاب المفاجئ
فرنسا أدركت أن شيئا ما يحاك في أذهان الجزائريين، لكنهم لم يدركوا خطورته الحقيقية.
خطة الهروب من فرنسا وتكوين منتخب جزائري في تونس كانت قد وضعت بالفعل.
اللاعبون الجزائريون وضعوا خطة للهروب من فرنسا إلى تونس منتصف شهر أبريل من العام التالي، ولكي لا ينكشف أمرهم قرروا التقرب أكثر للفرنسيين.
في شهر مارس من عام 1958 كان المنتخب الفرنسي يخوض مباراة قوية أمام نظيره الإسباني، فاستدعى بول نيكولا المدرب الفرنسي، مصطفى زيتوني مدافع موناكو للعب مع فرنسا في تلك المباراة.
ارتدى زيتوني قميص منتخب فرنسا وخاض تلك المباراة وتألق في فوز الديوك على الإسبان بأربعة أهداف مقابل هدفين.
وفي الشهر التالي وتحديدا في التاسع من شهر أبريل، قرر المدرب الفرنسي استدعاء رشيد مخلوفي أيضا بجانب زيتوني، وهذه المرة ليكون الثنائي ضمن قائمة منتخب فرنسا لكأس العالم 1958 في السويد.
اللعب في كأس العالم هو أعلى شرف يطمح له لاعب كرة القدم، لكن ثمة شرف أكبر سعى له اللاعبون الجزائرون، ألا وهو امتلاك وطن.
في تلك الفترة كانت الحرب تشتد بين الشعب الجزائري والجيش الفرنسي. الحرب بلغت أقصى درجاتها، ولم يعد الانتماء للطرفين ممكنا بعد الآن.
الزيتوني ومخلوفي، وكل اللاعبين الجزائريين في فرنسا تقريبا اتخذوا قرارهم بمغادرة فرنسا وتكوين المنتخب الحزائري.
وفي 14 أبريل من عام 1958 كان بمقدور جبهة التحرير الجزائرية أن تعلن بفخر "عددا من اللاعبين الجزائريين المحترفين غادروا فرنسا وإمارة موناكو من أجل النضال وتلبية لكفاح الجزائر".
الجزائر قضية عالمية
ولأن كرة القدم ليست مجرد لعبة كما قلنا، فقد كان للخبر وقع الذهول على الإعلام الفرنسي.
كتبت ليكيب عن الحادثة "الرياضة أداة رائعة للتقريب بين الأفراد، إنهم يتعلمون في الملاعب كيف يتعرفون ويتفاهمون بأفضل صورة، لكن من العبث أن نعتقد بأنهم من الممكن أن يكونوا في مأمن من تأثير التيارات السياسية أو الاقتصادية الكبرى المولدة للنزاعات العالمية الحالية.. جبهة التحرير المسؤولة عن الحدث المفاجيء الذي جرى ظهيرة يوم الإثنين استوحت المقل من فيدل كاسترو، المتمرد الكوبي الذي قام، كما نتذكر، باختطاف بطل العالم للسيارات مانوال فانجيو. لقد تصرفت بنفس الطريقة، لا شيء يمكن فعلا أن يؤثر في الأذهان بقدر الانسحاب المفاجيء لزيتوني ورفاقه عشية مناقشة البرلمان.. ومباراة دولية كبرى في كرة القدم".
"من غير الُمجد أن ننكر الدوي الذي سيحدثه هذا التصرف. العدوى قد تتوسع، في ذهننا بعض الأسماء الكبيرة لرياضة ألعاب القوى مثل عامر، براقشي، ميمون، وفي الملاكمة مثل حليمي، وحامية، بل وفي السباحة مثل خمون، باعتباره عنصرا من الدرجة الأولى".
هكذا نقلت صحيفة "ليكيب" الفرنسية خبر انسحاب اللاعبين الجزائريين من الدوري الفرنسي، وكذلك أيضا قضية فرنسا بعد هذا الموقف الجليل لم تعد كما كانت قبله، فقد تحولت قضية "استقلال الجزائر" من قضية محلية أو عربية، إلى قضية عالمية تتناول صحف العالم أخبارها في صفحاتها الأولى.
يقول عباس فرحات أحد الزعماء الجزائريين في جبهة التحرير "هذا الفريق أكسب الثورة الجزائرية عشر سنوات".
رحلة الهروب
رشيد مخلوفي لاعب الجزائر يحكي عن رحلة الهروب "يوم السبت 11 أبريل اتصل بي مختار عريبي من جبهة التحرير الوطني، واتفقنا على الذهاب يوم الأحد بعد مباراتي مع فريق بيزييه. لكني للأسف تعرضت لإصابة قوية في المباراة ودخلت المستشفى طوال الليل".
"يوم الإثنين صباحا بدأنا طريقنا أنا وعريبي وكرمالي. لم أتمكن من زيارة أخي في سانت اتيان لتوديعه قبل الرحيل، فأخذنا طريق ليون واصطحبنا معنا من هنا بوشوك الذي وصل متأخرا، ثم توجهنا إلى سويسرا".
"على الحدود قابلنا أعوان الجمارك، لكن التحايل عليهم لم يكن صعبا (نحن في طريقنا للحصول على فترة راحة)".
"وصلنا سويسرا، ولم يكن أمر مقابلة مسؤول التنظيم هناك سهلا، فقد تطلب الأمر يومين بسبب محاصرة الصحفيين لنا -باعتبارنا مشاهير-".
رقصة الحرية
وصل 10 لاعبين جزائريين من فرنسا إلى تونس، ومن هنا سنبدأ فصلا جديدا في قصة تكوين المنتخب الجزائري.
احتاج اللاعبون الجزائريون إلى لاعب جزائري يلعب في تونس لاستكمال المنتخب الجزائري، ثم كان الظهور الأول في شهر يوليو.
أقيمت دورة مغاربية في تونس، ولعب منتخب الجزائر أول مباراة تحت اسم "فريق جبهة التحرير" أمام تونس، وانتصر الجزائريون بأربعة أهداف مقابل هدف واحد.
المنتخب الجزائري فاز أيضا على المغرب بهدفين مقابل هدف، وما كان ذلك إلا بداية لملحمة جزائرية كبرى.
في العام التالي ومع توافد اللاعبين من فرنسا ومن الجزائر، كانت جبهة التحرير تمتلك منتخبا جزائريا من 32 لاعبا في تونس.
سفراء للجزائر في العالم
انطلق ثوريو الجزائر الكرويين في رحلة طويلة مدتها ثلاث سنوات، يجوبون فيها ثلاث قارات، ناشرين فكرتهم "نريد الحرية للجزائر".
يقول مصطفى معزوزي مهاجم فريق جبهة التحرير "أعجز عن وصف شعوري تجاه تلك الفترة، لقد شعرنا بالفخر للمشاركة في الثورة الجزائرية، وازددت فخرا عندما شعرت الحكومة الفرنسية أن هروبنا بمثابة صفعة على وجههم".
"على مدار أربع سنوات، عشنا حياة من الترحل. خضنا عشرات المباريات وحققنا العديد من الانتصارات وكونا ذكريات رائعة لا ننساها".
"لم تكن انتصاراتنا معجزة، فنحن منتخب مكون من أفضل لاعبي كرة القدم في الجزائر".
من بوخاريست إلى هانوي، مرورا ببغداد ووبكين صوفيا وطرابلس وبيلجراد. يتجول المنتخب الجزائري عبر البلاد ويعرف مئات الآلاف من الناس بمآس الجزائر، كأفضل سفير للبلاد.
ضد الفيفا
فرنسا لم تقف مكتوفة الأيدي أمام التحرك الجزائري، فضغطت على الفيفا التي كان يترأسها وقتها آرثر دريوري، ليصدر قرار بمنع المشاركة في المباريات أمام منتخب الجزائر "أي منتخب يستقبل فريق جبهة التحرير على أرضه سيكون معرضا للتجميد".
بعض الدول تراجعت ورضخت للفيفا، لكن دول مثل يوغوسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا، وورمانيا، والمجر، وبلغاريا، والصين، وفيتنام الشمالية، والمغرب، وتونس وليبيا تمسكوا باستضافة الجزائر.
في أحد المرات كان منتخب جبهة التحرير في بوخاريست عاصمة رومانيا يلعب مباراة بحضور 90 ألف متفرج. وبسبب الأداء الرائع للمنتخب الجزائري، طالبت الجماهير بمباراة أخرى، وهذا ما حدث بعدها بأيام قليلة.
على مدار سبع سنوات ظل المنتخب الجزائري يناضل على أرض الملعب. يتنقل من دولة لأخرى من أجل البحث عن الحرية للبلاد ونشر الفكرة وسط رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم بضغط فرنسي، حتى جاء الخامس من يوليو لعام 1962.
للجزائر منتخبها رسميا
نالت الجزائر استقلالها أخيرا، وأخيرا أصبح لها الحق في تكوين منتخبا جزائريا رسميا تحت مظلة الاتحاد الدولي لكرة القدم.
لم يكن الاستقلال عن فرنسا سهلا، فقد راح ضحيته مليون ونصف المليون شهيد رووا بدمائهم تراب الجزائر.
وانضم المنتخب الجزائري إلى الفيفا رسميا عام 1962، وخاض المباراة الأولى أمام بلغاريا يوم 6 يناير 1963 على أرض الجزائر بملعب 10 أغسطس في العاصمة، تقديرا لما قدمته بلغاريا من دعم للجزائر أثناء الثورة.
لم يكن نشيد الجزائر الوطني الجزائري قد اعتمد حينها، لكنه أصبح عنوانا لكل مباريات محاربي الصحراء منذ اعتماده في 1963، وبكلماته المعبرة عن لُحمة الجزائريين في صُنع ثورتهم.
قسما بالنازلات الماحقات
و الدماء الزاكيات الطاهرات
و البنود اللامعات الخافقات
في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات
و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...
نحن جند في سبيل الحق ثرنا
و إلى استقلالنا بالحرب قمنا
لم يكن يصغى لنا لما نطقنا
فاتخذنا رنة البارود وزنا
و عزفنا نغمة الرشاش لحنا
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
و طويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب
فاستعدي وخذي منا الجواب
ان في ثورتنا فصل الخطاب
و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...
نحن من أبطالنا ندفع جندا
و على أشلائنا نصنع مجدا
و على أرواحنا نصعد خلدا
وعلى هاماتنا نرفع بندا
جبهة التحرير أعطيناك عهدا
و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...
تم الاستعانة ببعض المقتطفات من كتاب "ملحمة الرياضة الجزائرية" في التقرير.