إيريك كانتونا.. مانيفستو التاريخ والكرة والحرية

كرة القدم تعطي لحياتك معنى. هذا ما أؤمن به حقا. لكن حياتك وتاريخك ووجودك يعطون معنى لكرة القدم كذلك.

كتب : محمود مصطفى

الإثنين، 22 أكتوبر 2018 - 16:27
إيريك كانتونا

كرة القدم تعطي لحياتك معنى. هذا ما أؤمن به حقا. لكن حياتك وتاريخك ووجودك يعطون معنى لكرة القدم كذلك.

سأتحدث عن بعض الأشياء التي لا أناقشها أبدا، أنا بحاجة لأن أروي لكم قصة شكلت كل شيء في، ووقعت قبل حتى أن أولد.

علينا أن نعود إلى العام 1939، إبان الحرب الأهلية الإسبانية. جدي لأمي كان من برشلونة وحارب ضد الدكتاتور فرانكو حتى النهاية المريرة. مع انتهاء الحرب أصبح رجلا مطلوبا وكانت أمامه دقائق معدودة لكي يستطيع الهرب قبل أن يسيطر جنود فرانكو على المدينة.

كان يتحتم عليه أن يعبر جبال البرانس سيرا على الأقدام لكي يصل إلى فرنسا، ولم يملك رفاهية إلقاء كلمات الوداع، تلك كانت النهاية.. حياة أو موت.

لذا، وقبل أن يرحل، ذهب يبحث عن رفيقته وسألها "هل أنت مستعدة أن تتبعيني؟". كان عمره ٢٨ عاما وعمرها ١٨. كان ذلك يعني أنها ستترك أسرتها وأصدقائها وكل شيء خلفها، لكنها أجابت: "نعم، بالتأكيد".

كانت هذه جدتي.

هربا سويا إلى مخيم للاجئين في أرجيليه-سور-مير على الساحل الفرنسي، حيث تواجد أكثر من ١٠٠ ألف لاجئ إسباني تم قبولهم. هل يمكنك أن تتخيل ما الذي كان سيحدث إن أدار الفرنسيون وجوههم عنهم؟ الفرنسيون تعاطفوا معهم كما ينبغي للبشر أن يتعاطفون مع كل من يعاني.

جدي وجدتي وصلوا فرنسا وليس بحوزتهم شيء. كان عليهم أن يبدأوا حياتهم من جديد. وبعد مرور الوقت، أعطوا اللاجئين فرصة العمل في بناء سد في سانت إيتيان. تلك هي حياة المهاجرين؛ يذهبون أينما يتحتم عليهم ويفعلون ما يجب عليهم فعله.

ذهب جدي وجدتي إلى هناك وصنعوا حياة لأنفسهم. ولدت أمي بعد بضع سنوات ثم انتقلت الأسرة في نهاية المطاف إلى مارسيليا.

هذه القصة تجري في عروقي مجرى الدم. هذه القصة جعلتني الإنسان الذي أنا عليه الآن، لكنها كانت في ذهني مجرد حلم. لم تكن هناك صور لكفاحهم، فقط حكايات. لم يبق شيء من ذلك الزمن يمكن لمسه ورؤيته.

لكن في ٢٠٠٧، عثر على "الحقيبة المكسيكية" الشهيرة الخاصة بالمصور روبيرت كابا في أحد بيوت ميكسيكو سيتي. داخل تلك الصناديق القديمة كان هناك أكثر من ٤٥٠٠ نيجاتيف لصور من الحرب الأهلية الإسبانية كانت ضائعة لأكثر من ٦٠ عاما، كيف وصلت تلك الصور إلى المكسيك؟ لا أحد يعرف.

شعرت بفضول كبير وعندما أقيم معرض للصور في نيويورك ذهبت وزوجتي إليه.

معظم المعروضات كانت عبارة عن نيجاتيف صغيرة للغاية، الآلاف منها، صغيرة لدرجة أنك تحتاج لأن تراها عبر عدسة مكبرة. لكن كانت هناك بضع صور في قلب المعرض حجمها هائل، طولها قرابة ثلاثة أمتار والأشخاص في الصورة يبدون بالحجم الطبيعي. بدا الأمر وكأنك تستطيع أن تلمسهم داخل الصور.

هناك رأيت جدي.

هل هذا ممكن؟ كلا!

لكنه كان أمامي رجلا شابا. كنت مقتنعا أنه هو، لكني لم أستطع أن أكون متأكدا ١٠٠٪، لأني لم أره عندما كان شابا هكذا. لذا عندما نقل المعرض إلى فرنسا بعد أشهر قليلة، اصطحبت والدتي لكي ترى الصورة، ومرة أخرى رأيته رجلا شابا وقلت لأمي: "هل هذا هو حقا؟" وقالت لي أمي "نعم إنه هو عندما كانوا يهربون عبر الجبال".

كان حدثا مذهلا.

تخيل لو لم ينجح جدي في الهرب، تخيل لو لم تتبعه جدتي. ربما لما وجدت أمي ولما وجدت أنا أيضا. عموما، هذه فقط نصف حكايتنا، هناك صورة أخرى شكلت حياتي.

جدا والدي كانا أيضا مهاجرين أتوا إلى فرنسا من سردينيا (إيطاليا) في ١٩١١ هربا من الفقر. وبعد ثلاث سنوات على وصولهما استدعي جد أبي للخدمة في الحرب العالمية الأولى حيث تعرض لهجمات بالغاز جعلته يقضي عامه الأخير وهو يدخن لحاء الكافور كي يتمكن من التنفس بشكل طبيعي.

ابنه، جدي، قاتل مع الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية، وعندما عاد من الحرب أصبح بناءا. في نهاية المطاف تمكن من ادخار نقود تكفي لشراء قطعة من الأرض فوق تل بضاحية في مارسيليا عندما كان أبي مراهقا.

تلك الأرض كان بها كهف صغير، وكانت الأسرة تحتاج مكانا تعيش فيه بينما يبني جدي المنزل، إذا أين عاشوا؟ نعم، عاشوا داخل الكهف لعامين، والشيء الوحيد الذي كان لديهم من أجل التدفئة هو الموقد. تبدو هذه كأحد أساطير العائلات عن "أيام زمان"، لكن هناك بالفعل صورة من شتاء ١٩٥٦ يظهر فيها جداي وأبي في الكهف ملتحفين الأغطية من أجل قليل من الدفء.

جدي خرج بالأسرة من الكهف على مدار سنوات، في البداية بنى غرفة ثم شرفة صغيرة ثم منزلا لوالدي، وهو المنزل الذي كبرت فيه. هذا ما ورثته، هذا ما يجري في دمي.

إحدى أولى ذكرياتي هي حمل ١٠ جوالات من الرمل أعلى التل إلى المنزل الذي كان لا يزال يشيد، بعد مهمة كتلك كانوا يسمحون لي بلعب الكرة. خلال النهار كان والدي يعمل في المنزل، وليلا كان ممرضا في مستشفى للصحة النفسية، لكن حتى هذا الجزء من تاريخي له معنى خاص.

كان هناك سبب وراء أن يصبح أبي ممرضا وأن يعمل في تلك المستشفى بالتحديد، السبب هو أن أباه الروحي كان أحد النزلاء في المستشفى.

كان اسمه سوفيه وكان شقيق جدي وكان سجينا لخمس سنوات خلال الحرب العالمية الثانية. بعد تلك الأهوال وصدمة التجربة أصبح نزيلا في مستشفى إدوارد تولوز. والدي كان مقربا جدا إلى سوفيه لدرجة أن معاناته جعلته يريد أن يصبح ممرضا للصحة النفسية ليعمل في نفس المستشفى التي يرقد بها أباه الروحي ويعني به كل ليلة.

هذه هي عائلتي، هذا هو تاريخي، هذه هي روحي.

لقد عشت في مختلف أرجاء العالم، في الواقع تمكنت العام الماضي من شراء أرض زراعية في سردينيا لكي أتواصل مع جذور أسرتي، لكني سأظل أحب مارسيليا من كل قلبي من أجل كل تلك الذكريات التي شكلتني. ستظل مارسيليا دائما مدينتي.

عندما يسألني الناس لماذا لعبت الكرة على طريقتي، هذه هي الإجابة: كرة القدم تعطي الحياة معنى، صحيح، لكن الحياة بدورها تعطي كرة القدم معنى.

أكاد لا أناقش تلك الحكايات الشخصية، وبالتحديد حكاية الأب الروحي لوالدي، فهو أمر صعب وعندما أتحدث عنه يبدو الأمر كما لو أن الملائكة تتحدث بدلا مني.

إلا أنني أشارككم بعضا من تاريخي لسبب هام.

نحن نعيش في زمن ينتشر فيه الفقر والحرب والهجرة. أصبح هناك حول العالم الكثير من البشر ممن لا يمكنهم حتى شراء كرة، وهم أكثر بكثير ممن لا يمكنهم دفع ٢٠٠ يورو لمشاهدة مباراة في البريميير ليج أو ٤٠٠ يورو كل عام لمشاهدته على التلفاز.

كرة القدم أحد أعظم المعلمين في الحياة، وأحد أعظم مصادر الإلهام، لكن النموذج التجاري للكرة يتجاهل القسم الأكبر من العالم.

الأحياء الفقيرة تحتاج كرة القدم كما تحتاج الكرة الأحياء الفقيرة. علينا أن ندعم نموذجا أكثر استدامة وإيجابية وشمولا لكرة القدم، وأنا سأفعل أي شيء للمساعدة في ذلك.

لهذا انضممت لحركة "الهدف المشترك" كأول موجه لهم. مهمة الهدف المشترك هي تخصيص ١٪ من عوائد الكرة العالمية للجمعيات الخيرية التي تنشر كرة القدم، وهناك أكثر من ٦٠ لاعبا مرة تعهدوا بالفعل بدفع ١٪ من رواتبهم، والجميل في الأمر أن هؤلاء اللاعبين ينتمون لأندية كبيرة وصغيرة ومن الرجال والنساء ومن دوريات من حول العالم.

الكرة يجب أن تكون ملكا للناس، ولا ينبغي أن تكون هذه فكرة طوباوية فليس هناك سبب يجعل القوى الكبرى في اللعبة في يومنا هذا لا يستطيعون أن يجتمعون لدعم الجانب الاجتماعي للكرة.

كلنا، أغنياء أو فقراء، مهاجرين أو مواطنين من الجيل العاشر، نجد المتعة الخالصة في مباراة لكرة القدم. كلنا نتحدث نفس اللغة ونشعر بنفس الأحاسيس.

لطالما، أتلقى نفس الأسئلة حول مسيرتي الكروية: "كيف كان اللعب لفرق يونايتد هذه؟ لماذا نجحت كل هذا النجاح؟".

والناس يريدون إجابة معقدة بعض الشيء، أظنهم يريدون أن يعرفوا سرا ما، لكن الإجابة بسيطة للغاية. سير أليكس فيرجسون كان أستاذا في أمر واحد: عندما كنا ننزل إلى الملعب بعد ساعات وساعات من العمل، كان يسمح لنا بأن نكون أحرارا. كنا نشعر بالحرية الكاملة لنتحرك ونلعب كيفما نريد. لم أكن لأتحمل كرة القدم بأي طريقة أخرى.

ماذا تعني الكرة إن لم تعن الحرية؟

لذا من فضلكم، اسمحوا لي أن أسأل نفس السؤال البسيط لأولئك الذين يديرون اللعبة العالمية: اللاعبون والوكلاء والرعاة واللجنات.

ماذا تعني الكرة إن لم تعن الحرية؟ ماذا تعني الحياة إن لم تعن الحرية؟ ما الذي تعنيه الحياة؟

أظن أننا جميعا يمكننا أن نتفق أن بوسعنا أن نفعل المزيد من أجل الإنسانية.

الآن أنتم تعرفون تاريخي. جئت من أسرة من المهاجرين والثوار والجنود والعمال. لم نملك الكثير عندما كنت طفلا، لكن بالنسبة لي حقيقة الحياة هي أننا نجد المتعة في لحظات قصيرة.

ربما في نزهة بسيطة مع الأسرة و ثلاثة جوارب ملفوفة في شكل كرة ومربوطة بخيط حذاء، نلعب الكرة تحت الشمس ونرقد على العشب ونتأمل كل شيء ولا شيء.

عندما تركت كرة القدم في سن الثلاثين، هل تعرفون ماذا فعلت؟ كان شيئا خاصا جدا بالنسبة لي: ذهبت لأعيش في المدينة التي اضطر جداي للهرب منها في ١٩٣٩.

ذهبت لأعيش في برشلونة.

----------------------

لم نرغب في وضع أي مقدمة قبل سرد كلمات إيريك كانتونا. لا نريد تشويه رسالة نجم مانشستر يونايتد بكلمات مبتذلة. فقط نقلنا الرسالة الدرامية كما هي..

المصدر: ?What Is the Meaning of Life

اقرأ أيضا

مؤتمر كارتيرون: لم نأت إلى الجزائر للدفاع.. الأهلي جاء بتواضع كبير وثقة أكبر

بالفيديو - أزمة جديدة في ريال مدريد.. راموس يضرب زميله بالكرة في تدريبات الفريق

بيرت تراوتمان - النازي الصالح الذي قهر الموت بعنق مكسور

"أرسين مَن؟".. قصة لم تقرأها بعد عن فينجر ورحلة للبحث عن متعة كرة القدم

حازم إمام لـ في الجول: أقدر جماهير الزمالك.. لكنني أرد جميل شوبير

سطيف 88 – هروب إلى البرتغال.. و"أخطاء فريدة" ضد طبيب نفسي جزائري