كتب : إسلام مجدي
يمكنك أن تسأل كل لاعب من جيل كرواتيا الحالي وحده عما يرغب في تحقيقه وستجد الإجابة واحدة: محاكاة جيل 1998 الذي حقق أكبر وأفضل إنجاز للكرة الكرواتية.
ذلك الجيل الذي ضم واحدا من أفضل هدافي أوروبا هو دافور سوكر والذي يشغل منصب رئيس الاتحاد الكرواتي لكرة القدم وروبرت يارني وسلافين بيليتش ونيكو كوفاتش وزفونيمير بوبان وغيرهم.
لطالما كان هناك تساؤلا لما ظل ذلك الإنجاز وليد روحا كبيرة نابعة من استقلال كرواتيا عن يوغوسلافيا ولما لم يعد هناك جيل جديد يمكنه أن يحاكي من سبقه؟
البداية كانت من جيل ضم داريو سرنا وماكو بابيتش ونيكولا سافاريتش ونيكو كرانيشار ودانييل برانييتش وإدواردو، ذلك الذي خرج من دور المجموعات ليورو 2004.
قبل الاتجاه إلى الحديث عن الجيل الحالي، علينا تذكر واحدا من أهم أسباب نجاح كرواتيا في 1998 وهو ما غاب عنهم بعد ذلك، ميروسلاف بلاجيفيتش مدرب المنتخب من 1994 وحتى عام 2000، الرجل الذي قال يوما :"التحفيز بالنسبة للاعبي المنتخبات عامل أساسي مثله مثل التكتيك وخطة اللعب".
كان مدربا مثاليا لكرواتيا، كما تحدث سلافين بيليتش عن الأمر قائلا :"ربما إن منحتنا أرسين فينجر أو أليكس فيرجسون أو فابيو كابيللو لم يكن لينجح الأمر مطلقا، لكن بلاجيفيتش؟ لقد كان أبا لنا جميعا، حفزنا لنفعل المستحيل وقد كان".
نجح جيل كرواتيا في أول ظهور له بكأس العالم في ترك بصمة لا تنسى عبر التاريخ لكن بعد ذلك؟ لم يحدث.
لسنوات عديدة استمرت المواهب الكرواتية في إبهار أوروبا، سوكر وبوبان وروبرت بروسينتشكي وصولا إلى الجيل الحالي، واستمر السؤال لماذا لا تتخطى كرواتيا دور المجموعات؟ ما المشكلة؟
رغم جودة هؤلاء اللاعبين وامتلاك الدولة لعدد رائع من الأكاديميات التي تحرص على تنشئة المواهب في أفضل بيئة ممكنة عانت الدولة من الفساد الكبير سواء في مسابقة الدوري أو على صعيد المنتخب، الكثير من المشاكل وقضايا غسيل الأموال وقضايا فساد كانت دائما موجودة.
لم تكن كرواتيا بقوة إنجلترا وإيطاليا وفرنسا وبقية الدول لا على صعيد السكان أو المكانة أو التوجه الإعلامي، وبالتالي الأزمات تتطلب حربا شاملة للقضاء عليها وليس مجرد تسليط الضوء وحلها فورا.
ما حافظ دائما على وجود لاعبين رائعين في كرواتيا هي الأكاديميات التي نشأ منها عدد لا بأس به من اللاعبين لكن استمرت العديد من المشاكل هناك التي تسببت في تعطيلها كرويا وحالت دون تألق جيلين منذ كأس العالم 98.
هناك سبب واحد أضر تماما بكرواتيا، زدرافكو ماميتش الرجل الذي وصف يوما أنه القلب النابض للكرة الكرواتية، لكن هل كان كذلك؟
قال عنه بلاجيفيتش :"لقد نشأ منذ طفولته كمشجع لنادي دينامو، ولم يكتب له أن يصبح لاعب كرة قدم قط، ولمدة أعوام طويلة كان يحب الفريق ويحاول التدخل في شؤونه بشتى الطرق".
حاول ماميتش كثيرا التوصل لطريقة للدخول إلى نادي دينامو حتى نجح في ذلك في الثمانينيات، بعد صداقة مع بلاجيفيتش الذي سمح له بالتواجد داخل النادي.
ومع الوقت تدرج في المناصب حتى أصبح رئيسا للاتحاد، منذ ذلك الحين وقالت العديد من التقارير أنه يتدخل بشكل سافر في النادي والمنتخب والدوري، وقراراته دائما مشكوك في صحتها.
سلوك ماميتش كان دائما عنيفا ومثير للجدل، دائما ما كان يهاجم الصحافة التي ترى أن ثرائه الفاحش والسريع مثار شك.
في أكثر من مناسبة هدد واعتدى على صحفيين فقط لأنهم سألوه عن الادعاءات ضده، ووجه إهانات للجميع سواء لفظيا أو بدنيا. بجانب تضارب المصالح لسلطته في نادي دينامو وسلطته في الاتحاد، كما أن شقيقه الأصغر زوران كان مدربا للنادي وعمل كمدير رياضي وابنه الأصغر ماريو ماميتش هو وكيل لاعبين قوي للغاية سيطر على الفريق عبر قوة والده.
وجهت اتهامات إلى عائلة ماميتش أنهم يفضلون الدفع بلاعبي دينامو فقط في المنتخب لكي يتم تسويقهم وبيعهم إلى أندية أوروبية كبرى ولا يهم ما سيحدث للكروات. كما اتهم ماميتش بأنه السر وراء تفكيك اتحاد اللاعبين المحترفين لكيلا يكون هناك من يسأله عن سبب عدم حصول اللاعبين على أموال.
الكرة الكرواتية تراجعت بشدة، وأصبحت حالات التألق للمحترفين نابعة من الصدفة فقط، في ظل سطوة ماميتش، وأي لاعب يحترف خارج كرواتيا يتم التشكيك في زمته واعتباره مواليا لماميتش.
الغريب أن جماهير دينامو لا تحب ماميتش كثيرا ونادرا ما يتم ذكر اسمه على أنه مشجع للنادي، في أي لحظة ورغم قوته وهيمنته على الكرة الكرواتية، إلا أنه لا أحد يحب الحديث عنه. حتى أنه قام بوضع أكثر من 2000 مشجع لنادي دينامو في القائمة السوداء وحرمهم من حضور المباريات في المدرجات. وبعد هذا القرار ظهر نشيد أصبح فيما بعد مألوفا ضده يحتوي على العديد من السباب.
وبسبب ماميتش أصبح ملعب ماكسيمير الخاص بنادي دينامو والذي يتسع لـ40 ألف مشجع لا يجد حتى 1000 مشجع للتواجد فيه، ويرجع ذلك لعزوف الجماهير عن مشاهدة المباريات ومقاطعتهم لنظام ماميتش الديكتاتوري في حكم كرة القدم بكرواتيا.
ولم يتمد تأثير ماميتش على جماهير دينامو فقط، وصل الأمر إلى جماهير الفرق الأخرى مثل نادي هايدوك سبليت، الذين كانت تتم رفض تذاكرهم وإلقاء القبض عليهم بتوصية من ماميتش دون أن يرتكبوا أي جرم.
بالنظر إلى معاناة الكرة هناك تأثر المنتخب بشدة، وأصبحت الجماهير فجأة تغني أناشيد فاشية في المدرجات حتى في المباريات الودية ضد دول ليست على عداء معها حتى مثل النرويج.
الجماهير أهانت ماريو بالوتيللي في يورو 2012 بهتافات عنصرية، وفي 2014 قام جوسيب سيمونيتش بإلقاء تحية ممنوعة في إشارة للفاشية الكرواتية، ثم إلقاء صليب معقوف في مباراة ضد إيطاليا وتم عقاب الاتحاد الكرواتي. والغريب أنها كانت مباراة بلا جماهير لأن الجماهير كانت معاقبة نظرا لأنهم ارتكبوا العديد من الأشياء التي لم يجد لها أحدا تفسير.
فيما بعد أجرت عدد من الصحف الكرواتيا مثل "كرواتيا ويك" تحقيقات مع الجماهير، اكتشفوا من خلالها أنهم قاموا بذلك لأنها كانت الطريقة الوحيدة لطلب النجدة، أن يتم الضغط على الجميع من خلال تصعيد الأمر دوليا، أن يعشر المجتمع أن كرواتيا في خطر وتعاني من الفساد لسنوات عديدة، وتجبر اتحاد الكرة على الاستقالة، كانت هجمات ممنهجة بالتعاون مع اللاعبين للتخلص من الفساد.
بعض الجماهير الأخرى قالت إن ذلك الصليب المعقوف كان جزء من حرب سياسية بين الأحزاب.
أداء المنتخب الكرواتي طيلة الأعوام الماضية عكس كل ذلك الفساد، ربما هناك العديد من المواهب والكثير من علامات الاستفهام حول الأداء، لكن كما يقولون إن عرف السبب بطل العجب.
خروج من دور المجموعات من كأس العالم 2002 و2006 ثم غياب عن نسخة 2010 وتأهل صعب للغاية لكأس العالم 2014، وكالعادة دور المجموعات كان أقصى ما يمكن لهم الوصول إليه.
اللاعبون شعروا بإحباط كبير وظهر ذلك جليا في 2014 حينما وصلت الأمور إلى قمة الفساد في كل شيء، قبل أن تنفرج الأزمة تماما وتبدأ محاربة الفساد.
نيكو كوفاتش مدرب كرواتيا السابق لاحظ أن لاعبيه لا يقدمون المستوى المنشود، إلا أن مودريتش رد وقتها قائلا :"لا يجب عليك أن تتساءلوا عن مستوانا في ظل الظروف الراهنة".
بالطبع ماميتش كان يضغط على كل مدرب للدفع بلاعبي دينامو لتسويقهم وبيعهم والحصول على نسبته، وآخر المدربين الذين عينهم كان أنتي كاتشيتش والجماهير لم تكن سعيدة أبدا خاصة وأن ذلك يعني أن اختيار اللاعبين سيتم بمعرفة ماميتش فقط.
جماهير كرواتيا غضبت بشدة، وتظاهروا خارج المقاهي ونددوا بذلك الاختيار المثير للجدل بلافتات قالت :"لا مزيد من مباريات المنتخب الوطني ستعرض هنا". وقام ما يقرب من 20 ألف مشجع بشن هجمات على صفحة الاتحاد الكرواتي لكرة القدم على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك.
ماميتش ربما كان مشجعا مخلصا لنادي دينامو، لكنه لم يحب النادي أو المنتخب كما يجب، وأعماه الفساد عن أي شيء وأضر كثيرا بمنتخب كرواتيا ووضع ضغطا رهيبا على الدوري والمنتخب.
ومن يمكنه أن ينقذ كرواتيا في هذا الوقت الشائك؟ لا أحد.
"لا يمكن فقط أن تستبدل زدرافكو ماميتش، يجب أن يستقيل الاتحاد وكل من في الإدارة لكي يتم إعادة هيكلة النظام، نظرا لأن من يحكمون هم ماميتش وأصدقائه".
جذور الفساد تشعبت للغاية في الكرة الكرواتية ومع الوقت دفع المنتخب الثمن بشكل فادح، وتورط اللاعبين في الأمر سواء بعلمهم أو بدون علمهم، حتى أن الأمر وصل إلى لوكا مودريتش أحد أفضل لاعبي الجيل الجديد في الكرة الكرواتية وواحد من أبرز اللاعبين في تاريخ الدولة.
ويأتي تورط مودريتش في القضية نظرا لأن ماميتش وشقيقه بجانب مدير نادي دينامو السابق تم اتهامهم بالحصول على نصف مبلغ 21 مليون يورو قيمة صفقة انضمامه خلسة وقيل إنه تم تسلم المبلغ بواسطة النادي لكن اكتشف أن 50% منه لم تصل النادي. ليس هذا فقط وجد أن مودريتش مطالب بدفع 20% من رواتبه وما يجنيه إلى ماميتش طالما يعلب وذلك حسب أليكساندر هوليجا صحفي كرواتي تحدث عن القضية.
وأشار هوليجا إلى أنه ليس مودريتش فقط الذي يقع تحت سلطة ماميتش الفاسدة بل ماتيو كوافاسيتشو وماريو ماندزوكيتش وغيرهم.
اللاعب الوحيد الذي وقف وجها لوجه وحارب ماميتش كان إدواردو لاعب أرسنال السابق والبرازيلي الأصل، والذي تم حرمانه من مواجهة البرازيل في كأس العالم 2014، وقالت تقارير صحفية إن ذلك جاء كعقاب لأنه تخطى سلطة ماميتش.
في نهايات عام 2015 ومع بدايات 2016 بعد أعوام من تشعب الفساد، تم القبض على زدرافكو ماميتش وشقيقه زوران ودامير فربانوفيتش هؤلاء الذين دمروا الكرة الكرواتية لفترة طويلة، وتم توجيه تهم إليهم باختلاس المال من نادي دينامو زاغرب، وكان كل من لوكا مودريتش وديان لوفرين شهود إثبات في القضية ضد منظمة الفساد.
نادت العديد من الجماهير بتولي بوبان مهمة رئاسة الاتحاد وتشكيل لجنة من أبطال 98 لإنقاذه، لكن بوبان رفض ذلك لأنه كان مترددا للغاية وقال :"من الواضح أنني لا يمكنني فعل ذلك، أنا محبط للغاية لأنني لا يمكنني العمل مع الاتحاد الكرواتي لكرة القدم".
مع تخلي الجميع عن الفكرة تم انتخاب المرشح الوحيد لفترة رئاسية ثانية، دافور سوكر والذي يقود الاتحاد الكرواتي منذ عام 2012. وتظل النقطة المضيئة أنه كان من عين زلاتكو داليتش في منصبه وتواجد طيلة الوقت مع لاعبي المنتخب لدعمهم.
"أنا متشوق للغاية لتجديد فترتي، نعلم جميع أهمية الاستمرارية في عالم كرة القدم، حققنا أهدافا كبيرة في الاتحاد، ووصلنا إلى كأس العالم ونظامنا تطور كثيرا".
"علاقاتنا في الوطن تتطور".
الكثير من لمسات التطور بدأت في الظهور فعليا، ومعنويات اللاعبين في كأس العالم واضحة إذ أنهم وصلوا للمربع الذهبي أخيرا.
ما دفع الجماهير للشعور بارتياح كبير هو وجود لاعب وحيد فقط من دينامو زاغرب هو دومينيك ليفاكوفيتش صاحب الـ23 عاما، أما بقية اللاعبين فهم محترفين عدا فيليب براداريتش لاعب ريكيا. وأيضا ابتعاد ماميتش تماما عن المشهد هو ورجاله ومواجهتهم لتهم الفساد، وشعور الجماهير أن كل الموجودين في المنتخب حاليا يحتاجون للفرصة خاصة وأنهم أبناء الجيل الذي نجح في إبعاد ماميتش عن الصورة.