"اذهبوا اختبوا أسفل السرير، احذر يا لوكا جسدك نحيل".
"كنا نظن أننا نلعب، لكن أصوات القذائف والرصاص يمكنها أن تزعج أي أحد، المجنون فقط هو من يشعر بالراحة وسط كل تلك الأهوال".
لم تكن طفولته تقليدية على الإطلاق، والده ووالدته كانا يقضيان معظم الوقت في العمل في المصنع، وجده كان يعتني به، وكان يحبه كثيرا وبالطبع سمي تيمنا به.
مع الوقت الكبير الذي يمضيانه سويا لوكا الصغير أصبح يرتبط بجده كثيرا بعيدا عن ذلك الحب، كان هناك الكثير من الكراهية خارج جدران المنزل.
لوكا مودريتش ولد عام 1985، في دولة يوغوسلافيا، وفي السبعينيات كان النظام الشيوعي في يوغوسلافيا منقسم، ويقود ذلك الانقسام قوميون من كرواتيا وسلوفينيا من أجل منحهم السلطة الذاتية، يأتي ذلك بواسطة قوة معادية قادمة من صربيا.
وفي أعقاب نهاية الحرب الباردة بدأت الأزمات تعصف بيوغوسلافيا، وذلك بعد سقوط جدار برلين في 1989، وقتها بدأت حرب الاستقلال الخاصة بكرواتيا. كل ذلك كان خارج جدران منزل الطفل الصغير لوكا.
بطريقة ما منزل لوكا مودريتش أصبح بؤرة في تلك الحرب وأجبر والده على الانضمام للجيش الكرواتي، ونجح الجيش اليوغوسلافي في حصار الكرواتيين من أجل قطع الاتصالات بينهم وبين الدولة.
في 18 ديسمبر عام 1991، كان لوكا مودريتش في الـ6 من عمره، حينما تم أسر جده الذي ارتبط به كثيرا، وأعدم بدماء باردة مع 6 آخرين.
وفي الأسابيع التالية تم وضع ألغام كثيرة في القرية التي يقطن بها لوكا الصغير الذي فطر قلبه لرحيل جده المقرب منه، وبالقرب من منزله، ولا يوجد أي خيارات لعائلته سوى الرحيل والحياة كلاجئين.
تمكنت عائلة لوكا من الاستقرار في مدينة زادار كلاجئين، وفي خلال 7 أعوام قضوا حياتهم بين الفنادق المختلفة، لكن الحرب طاردتهم.
زادار كانت مدينة قريب من البحر، وكانت مطمعا في حالة عدم الاستقرار السياسي الموجودة في تلك الحقبة، لتبدأ حرب جديدة لمدة عامين، وحرصت عائلة لوكا على الطلب من أطفالها خصوصا لوكا الصغير أن يتصادق مع كافة الأطفال في كل الفنادق لكيلا يشعرون بأي ضيق أو يصابون بعقد لأنهم بعيدين عن كل ما يخص الطفولة وسط كل هذه الحروب.
بدأ لوكا في تفقد المدينة ليتعرف على صديقه الكرواتي المهاجر أيض ماركو أوستريتش، كلاهما كون علاقة مرتبطة بكرة القدم، كونا ثنائيا لا يمكنك أن تشاهده سوى في أفلام الكارتون.
هربا من أهوال الحروب في سن صغيرة وتكبدا الكثير من الخسائر مقارنة بأعمارهم، والآن يركضان والكرة لا تفارق أقدامهما.
"لم نقض ساعة واحدة تقريبا من دون الكرة، لم تكن تفارق أقدامنا، أعتقد أن ذلك أثر علي كثيرا في طريقة لعبي لم تعد الكرة تفارقني". مودريتش
أحد عمال الفندق الذي يقطن فيه لوكا تابعه باهتمام، ولاحظ مهارته، لم تكن الكرة تفارقه مطلقا كأنها تلتصق بقدمه، كان يستعمل كل إنش في قدمه لركل الكرة ببراعة.
بحث العامل عن رقم جوسيب بيالو رئيس نادي زادار، وبالفعل تواصل معه.
"ذهلت من حماسة العامل الكبيرة، واضطررت لكي أستقل سيارة أجرة لكي أصل إلى ذلك الفتى الغامض ذو الأعوام السبعة".
في البداية اعتقد بيالو أنه جاء من أجل أوستريتش. لكنه فوجئ بلاعب آخر قصير القامة ويؤدي "الكثير من السحر".
عرض بيالو الفرصة على لوكا مودريتش أن يضمه لمدرسته وأكاديمية كرة القدم، ومع نهاية الحرب، لم تكن هناك الكثير من الأموال التي تأتي للعائلة، قرر لوكا أن يساعد عائلته. أراد أن يرد الدين بطريقة ما إلى جده.
لم يكن لوكا يتمتع بجسد رياضي على الإطلاق، قصير القامة ونحيل ويشعر بالبرد معظم الوقت، وأهم ميزة لديه هي قدرته اللانهائية على التحكم في الكرة والإيقاع.
في سنه الصغيرة تلك تلحظ جيدا الأمر. كما قال بيالو :"لوكا كانت لديه لمسة دقيقة لم أر مثلها في حياتي قط".
مدربه الجديد في مدرسة الشباب دوماجوي باسيتش ذهل من قدراته، وتنبأ له بمستقبل كبير، ثم اتفق معه توميسلاف باسيتش رئيس الأكاديمية.
مودريتش وصف بعد ذلك توميسلاف باسيتش بـ"والدي في عالم الرياض". قرر الرجل أن يصقل عقل مودريتش قبل جسده، وعلمه كيف يتحرك ويتفادى الالتحامات البدنية القوية خاصة وأنه لن يقوى عليها، ليجعله مثل العقل المتحرك، ثم بعد ذلك اتجه لتعزيز قدراته البدنية ما يجعله قويا كفاية إن تعرض لأي التحام.
تطوره كان ثابتا ومذهلا، في عمر الـ12 خاض فترة معايشة في نادي هايدوك سبليت الذي يعشقه للغاية، لكن لسوء حظه النادي لم يحبه كثيرا ورفض ضمه وقالوا له :"أنت صغير البنية ولن تقوى على تمثيل فريقنا". حسب وصفه.
انفطر قلب لوكا، وشعر أنه لن يلعب كرة القدم مجددا، خاصة وأن ناديه الذي يشجعه قد رفضه، نظر مليا للأمر وقرر اعتزال كرة القدم.
توميسلاف باسيتش حاول إقناع الفتى الصغير بالعدول عن قراره، وقرر أن يساعده أكثر، حدد له تحد جديد وهو صقل قدراته البدنية بشكل أفضل بجانب طريقة تفكيره، وقرر تأجير مدرب خاص له لكي يعدل من قدرات جسده.
مع كل تلك التدريبات تحول لوكا تماما، وطلب نادي دينامو زاغرب ضمه، كما لفت أنظار أندية بارما وإنتر ميلان ويوفنتوس، جميعهم كانوا يعلمون أن تلك الموهبة لا تعوض، لكن باسيتش كان يرى أن لوكا سيقضي على نفسه لو رحل مبكرا في هذه السن إلى إيطاليا.
عانى لوكا في بداياته من عدم قدرته على التكيف بعيدا عن عائلته، وأراد النادي أن يحصل على أقوى صورة لمودريتش في الأداء، لذا وفروا له الجانب النفسي مع الأداء، وفي صيف 2003 قرروا إعارته إلى نادي زرينيسكي موستار في الدوري البوسني، وفي ذلك الوقت كان الدوري هناك قاسيا وعنيفا للغاية، وبدلا من أن يصاب أو يحدث له مكروه، تألق مودريتش بشكل غير معقول.
"في تلك الفترة اكتشفت قوة في عقلي لم أعلم قط أنها موجودة".
"كنت صامتا معظم الوقت ومحترما، البعض وجد سلوكي مستفزا، فكرت أكثر بعقلي ولعبت أقل بقدمي، كلمة السر كانت في التحركات والتفكير أهم من الركض طيلة الوقت، يمكنك أن تكون في كل مكان بالملعب لكن عليك أن تفعل ذلك بعقلك أولا".
تألق مودريتش وتطور كثيرا حتى انضم لمنتخب كرواتيا تحت 21 عاما، وقرر دينامو الحفاظ عليه فوقع معه على عقد يمتد لمدة 10 أعوام، مع مبالغ مالية ضخمة لكي يمكنه أن يصرف على عائلته كذلك، خاصة وأنهم ضحوا بالكثير ليصل إلى ما وصل إليه.
وقرر أن يشتري لهم شقة. "أردت أن أنهي 13 عاما من اللجوء، لم نمتلك منزلا قط وعانينا من أهوال الحرب، كنت أسعى لتقديم حس الأمان لهم".
مع تحرر عقله تماما من أي عبء أسري، سطع نجمه في سماء كرواتيا، أظهر قدرات لم يمتلكها لاعب وسط في تلك الحقبة، الذكاء والتحركات والأهم التحكم التام في إيقاع اللعب والكرة.
مع تألقه اللافت، لاحظ نادي توتنام وبعد متابعة لأشهر كثيرة قدراته، مدير الكرة في ذلك الوقت دامين كومولي تحدث عن كيفية ضمه قائلا: "شعرنا أننا كلما انتظرنا لكما زادت فرص خسارتنا للاعب بقدراته، إن لم نتحرك في ظرف 3 أيام كان سيضيع علينا عمل عام كامل، أخبرت ليفي بذلك".
"ليفي سيظل ليفي لقد أغلق معي الهاتف وحصل على طاقمه واتجه في طائرة خاصة إلى كرواتيا واتصل بي في الثالثة فجرا يقول لي تمت الصفقة، لدينا مودريتش".
أرسين فينجر مدرب أرسنال كان له رأي مختلف في مودريتش، كان يرى أنه من الصعب أن يتكيف على أجواء الدوري الإنجليزي خاصة وأنه لاعب خفيف الوزن وشكك في قدراته كثيرا.
في ذلك الوقت برشلونة حاول ضم مودريتش كذلك، وبعض مسؤولي النادي أعجبوا بقدراته، لكن التوجه العام في النادي لم يكن من أجل التفكير في المستقبل، وببساطة رفضوا خدمات اللاعب ليعود محبطا وينضم إلى توتنام.
خواندي راموس مدرب توتنام في ذلك الوقت قرر اللعب بمودريتش في مركز الجناح، لكنه لم يكن قرارا صائبا قط، وبعده تولى هاري ريدناب المهمة، وكان يتفهم جيدا قدرات مودريتش فوضعه كمحور للعب في وسط الملعب.
تألق مودريتش والبقية من التاريخ وصل ريال مدريد وحصد الألقاب وكتب تاريخا لا ينسى.
مع كل هذا التألق كان المنتخب الكرواتي مخيبا للآمال في كل بطولة كأس عالم، بعد ما قدم في نسخة 1998، لم يقدم أي شيء آخر.
ومؤخرا تألق جيل مودريتش في ملاعب أوروبا، أصبح هناك إيفان راكيتيتش وماريو ماندزوكيتش وغيرهم من المواهب سواء شابة أو ناضجة.
هذا الجيل لم يتمكن من تقديم شيء يذكر في مونديال 2014. لكن في 2018 كسرت اللعنة أخيرا.
"أعتقد أن لدينا جيلا جيدا جدا من اللاعبين، لدينا لاعبون في أندية كبيرة ولا يلعبون هناك فقط بل هم عناصر مؤثرة للغاية في تلك الأندية، لذا من الصحيح والجيد أن يكون هناك توقعات كبيرة لنا".
"لو أن بإمكاني مقايضة بعض ألقابي مع ريال مدريد بالمجد مع منتخب كرواتيا سأفعل ذلك".
من معاناة الحرب إلى التألق في سماء أوروبا. هل يتمكن مودريتش أخيرا من كتابة التاريخ الذي تمناه في كأس العالم؟
اقرأ أيضا:
مودريتش.. لاجئ تعلم سحر الكرة وسط الحرب
أنت المدرب.. اختر تشكيل إنقاذ الأرجنتين أمام نيجيريا
بلال يحدد لـ في الجول 6 قرارات سيتخذها إن كان رئيسا لاتحاد الكرة بعد توديع المونديال
"النينجا بدأ تحديا جديدا".. رسميا - إنتر يضم ناينجولان
تقرير - الفيفا سيفتح تحقيقا مع صلاح لمعرفة سبب عدم حضوره المؤتمر الصحفي