كتب : أحمد العريان
لا يحق لأي شخص في العالم لمس كأس العالم إلا إن كان قد حصل وسبق عليه من قبل، أو أن يكون رئيسا لجمهورية.
هكذا هي قدسية كأس العالم حسب التقاليد المتبعة، لكننا لم نصل لتلك المرحلة حتى كان للبعض تضحياته وللصدفة دورها أيضا.
كأس العالم الذي بدأت فكرته عام 1930 على يد جول ريميه رئيس الاتحاد الفرنسي لكرة القدم والفيفا، مر بمواقف عديدة كادت لتعرضه للضياع.
البداية كانت مع قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 ولم يكن وقتها قد أقيم إلا نسختين من البطولة وإيطاليا هي حاملة اللقب.
نائب جول ريميه في رئاسة الفيفا كان إيطاليا هو أوتورينو باريزي والذي قام بدوره على أكمل وجه في حماية الكأس.
باريزي سرق الكأس من متحف الاتحاد الإيطالي لكرة القدم وخبأه في علبة حذائه الخاص تحت سريره حتى لا يسرق جراء فوضى الحرب.
استمر الكأس تحت سرير باريزي حتى انتهت الحرب عام 1945 وبدأ العالم يلتفت لكرة القدم مرة أخرى، وضرورة إعادة إحياء بطولة كأس العالم والتي عادت للظهور عام 1950 في البرازيل.
هكذا أنقذ باريزي كأس العالم في أول تهديد لضياعه، لكن التهديد الثاني كان أشد خطورة.
قبل 52 عاما كانت إنجلترا تستعد لاستضافة كأس العالم، وهي المرة الوحيدة أيضا التي حققت فيها اللقب عام 1966.
لم يكن يتبقى على البطولة سوى أربعة أشهر، حتى وصل كأس العالم بالفعل إلى إنجلترا قادما من البرازيل حاملة اللقب تمهيدا لإقامة النسخة الجديدة من الكأس.
وفي شهر مارس، كان كأس العالم معروضا للعامة في قاعة البريد، لكنه وفي اليوم الثاني من عرضه فقط اختفى من مكانه.
حسب رواية BBC فإن عمال القاعة حصلوا على راحة، ليعودوا ولا يجدوا الكأس وليبقى سارق الكأس غير معروف وقتها.
"لم تكن الأمور احترافية بشكل كبير في هذا الوقت من الزمان مثلما هو الحال الآن، فلا توجد كاميرات مراقبة أو اهتمام كبير مثل حاليا".
"أحد رجال الأمن المخولين بحماية الكأس كان يبلغ من العمر 74 عاما وكل إجراءات الأمن لم تكن كافية".
"نعتقد أن شخصين دخلا من مدخل الطواريء وكسرا زجاج صندوق العرض وسرقا الكأس ثم رحلا في السر"
كانت تلك هي تحليل عملية السرقة التي كتبها مارتن أثيرتون مؤلف كتاب "سرقة جول ريميه"
بدأت التحقيقات
على الفور بدأت التحقيقات وتولت شرطة "اسكوتلاند يارد" الأمر. التحقيقات الأولية كشفت بأن هناك لصين، أحدهما طويل القامة والثاني قصير. وصف لم يكن كافيا بالمرة بطبيعة الحال.
وفجأة، تلقى جوي ميرز رئيس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم ونادي تشيلسي وقتها خطابا موقعا بتوقيع شخص يدى جاكسون.
جاكسون يطلب في خطابه ترك مبلغ 15 ألف استرليني في حقيبة داخل ملعب "ستامفورد بريدج" في اليوم التالي، وأن تكون الحقيبة مغلقة برابطة عنق ليتعرف عليها، على أن يمنحه كأس جول ريميه في المقابل.
جوي ميرز وافق على طلب جاكسون بتوصية من الشرطة وتم تدبير المقابلة، لكنها بالتأكيد كانت فخا وألقت الشرطة القبض على السارق الذي تبين أن اسمه الحقيقي إدوارد بيتشلي وهو ضابط سابق في الشرطة البريطانية.
هكذا ألقت الشرطة القبض على السارق، لكن الكأس مازالت مفقودة.
بمجرد سرقة الكأس كان الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم قد تحرك بالفعل وبدأ سرا خطوة نحت نسخة جديدة من كأس العالم عن طريق النحات سيلفرميث جورج بيرد.
الكلب.. البطل
مر أسبوع على السرقة ولم تجد الشرطة كأس العالم بعد، لكن الصدفة هنا أرادت أن تلعب دورها وتنقذ بريطانيا من الإحراج أمام العالم كله.
دافي كوربيت ترك منزله في نوررود جنوب لندن وخرج لإجراء مكالمة هاتفية رفقة كلبه بيكلز، لكنه لم يكن يعلم أنهما سيصنعان التاريخ وتتصدر صورهما عناوين الصحف العالمية.
"كان بيكلز يجري بجانب سيارة أحد الجيران فركضت خلفه".
"وحين وصلت له وحين كنت أربط الطوق حول رقبته، وجدت لفافة ملقاة في الحديقة ومغطاة بورق الجرائد، لكنها مربوطة بإحكام شديد".
"فتحت جزء صغيرا من الورق، فوجدت درعا مكتوبا عليه كلمات مطبوعة (البرازيل وألمانيا الغربية وأوروجواي).
"مزقت الجانب الآخر من اللفافة، فوجدت سيدة تحمل طبقا فارغا. كنت قد شاهدت صور كأس العالم في التلفاز فتعرفت عليه فورا، ليبدأ قلبي في التراقص فرحا". دافي كوربيت يروي واقعة إيجاده للكأس المفقودة
المشتبه به الأول
كوربيت ذهب سريعا لنقطة الشرطة، لكن القصص التاريخية لا تكون بتلك السهولة دائما، فهم لم يصدقوه في أول الأمر.
"وضعت الكأس على مكتب الضابط وقلت له (أعتقد أنني وجدت كأس العالم)".
"أذكر كلماته حين قال لي (العالم لا يبدو لي بهذه السهولة يا ابني)".
وصل أحد المخبرين أخيرا وأخذ كوربيت إلى مقر "سكوتلاند يارد".
"فجأة وجدتهم يستجوبوني وعرفت أنني الآن أصبحت المشتبه به الأول لسرقة الكأس".
"استمر الأمر ساعة أو أكثر حتى اقتنعوا ببراءتي وأعادوني إلى منزلي، وهناك كان ما لا يصدق. كل صحافة العالم كانت مصطفة أمام منزلي تريد مقابلتي.
بمجرد إعلان الشرطة إيجاد الكأس وعن هوية من وجدها، حتى أصبح دافي كوربيت وكلبه بيكلز هما هدف الصحافة الأول.
أيام كالأحلام
حصل بيكلز على ميدالية شرفية من رابطة الدفاع الوطني عن الكلاب، وعلى العديد من الجوائز الأخرى.
بيكلز أصبح نجما تليفزيونيا وحصل على دور في فيلم سينمائي اسمه "The Spy with a Cold Nose".
"حصل على جائزة كلب العام الإيطالي وظهر في برنامج بلو بيتر وماجبي" دافي كوربيت عن كلبه.
كوربيت أيضا لم يكن أقل حظا من كلبه، فحصل على مكافأة 5 آلاف استرليني من رعاة البطولة وشركات التأمين على الكأس.
ولأن صورة بوبي مور الأيقونية التي يظهر فيها حاملا لكأس العالم بعد فوز إنجلترا في النهائي على ألمانيا ما كانت لتظهر لولا دور كوربيت وكلبه بيكلز، فقد تم دعوة الثنائي إلى عشاء احتفالي بعد النهائي.
"ذهبت إلى الفندق رفقة كل هؤلاء المشاهير. كنت أشعر بحرج شديد لكنني حاولت التغلب على الأمر".
"زوجات اللاعبين أنفسهن كانوا هناك لكنهن لم يكونن مدعوات للحفل، لم يسبق لي أن التقيط بهذا العدد من النساء الغاضبات من قبل".
"بعد ذلك خرج المنتخب الإنجليزي إلى الشرفة وكان الشارع مكتظا بالجماهير المتحمسة. ذهبنا معهم ومسك بوبي مور ببيكلز ورفعه للأعلى نحو الجمهور، ليرد الناس بالهتافات للمنتخب ولبيكلز".
اللحظات السعيدة لا تدوم طويلا
لكن ومع الأسف، اللحظات السعيدة لا تدوم طويلا..
اشترى كوربيت منزلا جديدا في ساري بأموال المكافأة، وكان أيضا شاهدا على محاكمة بيتشلي سارق الكأس الذي ذهب إلى السجن في وقت لاحق.
استمتع كوربيت بالمنزل الجديد، لكن بيكلز مات بعد سنة واحدة من إيجاد الكأس في عام 1967 في حادثة مآساوية بالمنزل الجديد.
يقول كوربيت "كان بيكلز كلبا رائعا إلا أنه لم يحب القطط يوما".
"كان بيكلز رفقة ابني في الخارج حين وجد قطة تعبر الحديقة. ترك ابني وركض وقتما كان الطوق مربوطا بقوة حول عنقه".
"بحثنا عنه فوجدناه في الجزء الخلفي من الحديقة ميتا ويبدو أن كسر عنقه".
بيكلز الآن مدفونا في حديقة منزل كوربيت ومكتوبا على لافته فوقه "بيكلز.. من وجد كأس العالم 1966".
سرقة جديدة للأبد
مات بيكلز وبفضله احتفظ العالم بكأس جول ريميه من الضياع حتى احتفظت البرازيل بالكأس مدى الحياة عام 1970 بعدما أصبحوا أول فريق يحصل على الكأس للمرة الثالثة في التاريخ، ولتبدأ النسخة الحالية من كأس العالم تهدى للفائز منذ مونديال 1974.
وفي عام 1983 تعرض كأس العالم للسرقة مرة أخرى من متحف الاتحاد البرازيلي لكرة القدم من قبل أربعة رجال محكوم عليهم غيابيا، لكنه اختفى هذه المرة للأبد.
أثناء محاكمة السارقين اعترفوا أنهم أذابوا الكأس وباعوه كسبائك ذهب ليختفي الكأس للأبد. لكن الاتحاد الدولي لكرة القدم صنع نسخة جديدة من الكأس وأهداها للبرازيل مرة أخرى.
أما النسخة المطابقة للأصل التي قام النحات سيلفرميث جورج بيرد بنحتها للاتحاد الإنجليزي قبل أن يجدوا الكأس الأصلية، فقد تم بيعها في مزاد عام 1997 وهي الآن بأحد المتاحف في مانشستر.