كتب : عادل كُريّم
"إنه طفل.. لا يمتلك أي روح قتالية ولا يشعر بالمسئولية.. ستكون مشاركته مخاطرة"..
قبل مونديال السويد 1958، ضم مدرب البرازيل فيثنتي فيولا الشاب إيدسون أرانتيس دوناسيمنتو الشهير بإسم "بيليه" لتشكيلة منتخب السيليساو. بيليه الذي كان في السابعة عشرة من عمره فقط كان سيصبح أصغر لاعب يشارك في تاريخ كأس العالم، لكن مستواه الرائع مع فريق سانتوس في عام 1957 والذي توجه بلقب هداف دوري باوليستا أقنع فيولا بضمه للمنتخب.
بيليه كان قد أصيب في نهاية مشوار الدوري في ركبته، لكن فيولا أصر على ضمه للمنتخب وتأهيله قبل السفر للسويد. لكن أمرا آخر هدد "الفتى الأسمر الصغير النحيل" (كما وصف بيليه نفسه) بالمشاركة في كأس العالم وكتابة سطور البداية لقصة أسطورية.
عقب خسارة لقب كأس العالم 1950 على أرضها، بكارثة "ماركانازو" الشهيرة حين تغلبت أوروجواي على البرازيل أمام 200 ألف متفرج في ملعب ماراكانا لتخطف منها لقب المونديال، كان البرازيليون يعرفون أن الصدمة لن تنتهي إلا حين يفوز منتخب بلادهم بكأس العالم.
"نهائي 1950 كان مثل نهاية حرب. حرب خسرتها البرازيل وسقط منها عشرات الضحايا".. بيليه
من أجل هذا الحلم بدأت البرازيل في إعداد منتخب جديد، لكنها اصطدمت مجددا في مونديال سويسرا 1954 بفريق المجر الذهبي لتخسر في ربع النهائي. وقبل مونديال السويد 1958 تم تعيين لاعب السباحة وكرة الماء السابق جواو هافيلانج رئيسا لاتحاد الرياضات في البرازيل، ليقوم بمهمة رئيس اتحاد الكرة في البلاد أيضا.
هافيلانج كان رجلا أكاديميا، فقرر تشكيل لجنة فنية لدراسة كيف يمكن أن يذهب منتخب البرازيل للسويد ويعود بكأس العالم. وقررت اللجنة إخضاع لاعبي المنتخب لاختبارات بدنية ونفسية وطبية مكثفة، وجاءت النتيجة كارثية.
كل لاعبي المنتخب تقريبا كانوا يعانون من أمراض طفيلية وسوء تغذية وفقر دم "أنيميا". الكثيرون جدا منهم عانوا من أمراض في الأسنان.. إلا أن الفقرة الأهم كانت تختص بالدكتور جواو كارفالياس.
الطبيب النفسي عقد جلسات مطولة مع لاعبي المنتخب الذين اختارهم فيولا، وخرج بتقرير صدم المدير الفني في إثنين من أهم لاعبيه.
"بيليه مجرد طفل. لا يشعر بالمسئولية الكبيرة التي تنتظره ولا يملك أي روح قتالية. مشاركته في حدث كهذا ستكون مخاطرة كبيرة لن يحتملها..
"أما جارينشا فلديه اختلال ذهني. هو ليس عاقلا بالدرجة الكافية للعب لمنتخب بلاده". هكذا خرج تقرير كارفالياس.
بعض الحكايات تقول أن كارفالياس أجلس جارينشا وطلب منه أن يقوم برسم أول شيء يدور في ذهنه، فقام برسم دائرة كبيرة تخرج منها بعض الخطوط، وحينما سأله الطبيب هل قمت برسم الشمس، رد قائلا "لا، هذا زميلي في بوتافوجو كارانتينيا".
فيولا تسلم التقارير ويبدو أنها أصابته ببعض القلق. سافر إلى السويد بتشكيلة ضمت الثنائي بيليه وجارينشا، لكنه أبقاهما خارج القائمة الأساسية للمباراة الأولى أمام النمسا، في وقت لم يكن هناك فيه احتياطيون أو تبديلات في المباريات.
البعض يقول أن تقرير كارفالياس كان السبب، لكن آخرون يؤكدون أن بيليه لم يكن قد تعافى بعد من إصابة الركبة، كما أن فيولا وجهازه الفني كانوا غاضبين من جارينشا. في مباراة ودية أمام إيطاليا في فيورنتينا قبل شهر على انطلاق كأس العالم، راوغ جارينشا أربعة مدافعين وحارس مرمى إيطاليا، وبدلا من أن يسجل في المرمى الخالي عاد مرة أخرى للخلف ليراوغ مدافع آخر ثم يسجل.. تصرف ربما اعتبره فيولا وجهازه دليل آخر على الخلل الذهني الذي يعاني منه جارينشا، بحسب تقرير كارفالياس.
الفوز على النمسا 3-0 في المباراة الأولى دفع فيولا للاستمرار في إبعاد بيليه وجارينشا عن المباراة الثانية أمام انجلترا التي انتهت بالتعادل السلبي. كان هذا يعني أن البرازيل عليها أن تهزم الاتحاد السوفييتي في المباراة الأخيرة، في وقت كان فيه الفريق السوفييتي (المتوج بذهبية أولمبياد ملبورن 1956) أحد أفضل فرق العالم.
هنا قرر فيولا تجاهل نصائح الطبيب النفسي.. بعض التقارير تقول أنه أخبره بالفعل "هل تعلم، أنت محق تماما فيما قلت. لكنك لا تعرف شيئا عن كرة القدم". التقارير نفسها تؤكد أن لاعبي البرازيل طالبو فيولا بضرورة إشراك بيليه وجارينشا في المباراة الأخيرة، وأن المدرب استجاب لهم بالفعل.
الطريف أن بيليه ظهر في الملعب بالرقم 10 رغم أنفه. الاتحاد البرازيلي أرسل قائمة اللاعبين إلى الفيفا دون تحديد أي أرقام للاعبين.. ليقوم الفيفا بتحديدها بنفسه، ومنح الرقم 10 لبيليه الاحتياطي في هذا الوقت بالرغم من أن القاعدة وقتها كانت تمنح الأرقام من 1 إلى 11 للتشكيلة الأساسية. صدفة كتبت البداية لأشهر رقم في تاريخ كرة القدم لاحقا.
أصبح بيليه أصغر لاعب يشارك في تاريخ كأس العالم حين لعب أمام الاتحاد السوفييتي وهو في سن 17 عاما و234 يوما (رقم تحطم لاحقا عام 1982 على يد لاعب أيرلندا الشمالية نورمان وايتسايد الذي شارك في مونديال إسبانيا 1982 أمام يوغسلافيا وهو في سن 17 عاما و41 يوما). مرر بيليه الهدف الثاني الذي سجله فافا لتفوز البرازيل بثنائية، وقبلها قدم جارينشا عروضا ساحرة.. ليقرر فيولا أن يستمر الثنائي بيليه وجارينشا في مباراة ويلز بربع النهائي.
لم يكن بيليه قد تعافى تماما، وبدلا من أن يشارك زملائه العشاء الاحتفالي خضع لجلسات علاج على ركبته المصابة. لكنه عاد أمام ويلز ليسجل "أكثر هدف لن أنساه طيلة مشواري".. هدف المباراة الوحيد الذي قاد البرازيل إلى نصف النهائي أمام فرنسا. أمام الأخيرة سجل بيليه هاتريك ليقود بلاده للنهائي حين لعب "بروح طفل وعقل محارب مخضرم" كما وصفته الصحافة البرازيلية، وكأنها ترد على تقارير الطبيب النفسي.
في النهائي أمام البلد المضيف السويد سجل بيليه هدفين، أولهما كان واحدا من أروع الأهداف في تاريخ كأس العالم.. أما الثاني فكان في الدقيقة الأخيرة ليؤكد به أن البرازيل أصبحت بطلة العالم أخيرا ومحت عار هزيمة ماراكانا. ومع اطلاق الحكم الفرنسي موريس جيجي صافرة النهاية سقط بيليه على الأرض فاقدا للوعي، قبل أن يجري إليه جارينشا ويعيده للوعي مرة أخرى، ومن حوله بقية الفريق الذين حملوا "الطفل الذي لا يشعر بالمسئولية ولا يملك روحا قتالية" على الأعناق.
وقتها كان بيليه يبكي بلا توقف، فيما كانت نظرات جارينشا الحائرة والمليئة بالفرحة في نفس الوقت وكأنها رسالة إلى كارفالياس.. "نحن أبطال العالم.. ما رأيك الآن أيها الطبيب"؟