كتب : لؤي هشام
كثيرون مروا من فوق البساط الأخضر، وكثيرون أبدعوا وتألقوا ليبقوا في الذاكرة، وكثيرون حضروا في تلك اللحظات التي صُنع فيها المجد ليأخذوا حيزا من المشهد، ولكن قليلين هم من ظلوا خالدين عابرين لكل ذلك في جميع الأزمنة.
هؤلاء الخالدون لم يصنعهم إنجاز عابر أو لقطة لا تُنسى حملت الكثير من المعاني وقتها، وإنما صنعتهم الموهبة الكبيرة والتفرد في أسلوب اللعب، وإلى جوار ذلك كانت شخصيتهم دائما حاضرة ليُضرب بهم المثل عبر العصور بما قدموه وحققوه على ذلك العشب الأخضر.
"أن تلعب مثل.." سلسلة يقدمها FilGoal.com مع قدوم المونديال تخليدا لهؤلاء المختلفين في الأرض الذين كان تفردهم ورؤيتهم المختلفة على أرض الملعب سببا في إعجازهم، ومحاولةً لوضعك في الصورة من الداخل بأعينهم وأعين من عرفوهم.
طالع أيضا:
(أن تلعب مثل كيمبس.. رجل حول المونيمونتال إلى كولوسيوم)
(أن تلعب مثل بيليه.. جينجا البرازيل المتكامل)
(أن تلعب مثل مارادونا.. "أسوأ أبولو وأفضل ديونيسوس")
(أن تلعب مثل جارينشا.. "عندما يدخل الملعب كان يحوله إلى ساحة في سيرك")
(أن تلعب مثل بوشكاش.. لاعب ربما أتى من المستقبل)
_ _
جوسيبي مياتسا.. إل جينيو
من بين كل لاعبي ذلك الزمان ظل اسمه الأشهر والأكثر تذكرا حتى الآن، ومن بين كل لاعبي جيله في ذلك التوقيت كان الأكثر تفردا ومهارةً.
إن طُلب منك أن تذكر اسم لاعبا واحد في حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي فلن يكون هناك سوى اسم واحد للتذكر.. جوسيبي مياتسا.
أسطورة إيطالية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. مع فريق إنترناسيونالي حقق الكثير والكثير من الألقاب ومع الأتزوري كان واحدا من ثلاثة لاعبين فقط حققوا المونديال مرتين.
ولكن البطولات وحدها لم تكن من صنعت شهرته وخلوده حتى الآن بل ما هو أبعد من ذلك.. أسلوب اللعب، المهارة الفردية، السرعة الكبيرة، القوة البدنية والذهنية، كل ذلك كان عوامل مساعدة.
لكن الأهم أن روح الابتكار التي امتلكها لم تُقارن بأي من لاعبي جيله، ومراوغاته التي شوهدت لأول مرة جعلته محفورا في أذهان عشاق الكرة حتى وقتنا الحالي.
"إنه جوسيبي مياتسا، تم تصعيده من فريق الناشئين وسوف يلعب اليوم من البداية".. كانت تلك كلمات المجري أرباد فايس مدرب إنتر في سبتمبر عام 1927 للاعبيه المصدومين من قراره.
وسرعان ما علم الجميع لماذا صمم فايس على البدء بالفتى صاحب الـ17 عاما.. لقد سجل ثلاثية "هاتريك" في أولى مشاركاته مع الفريق.
وصحيفة "لا جازيتا ديللو سبورت" عنونت في تقريرها عن المباراة "مولد نجم جديد.. إنه سريع وذكي ونشط". لم يكن أمرا معهودا أن تصف صحيفة لاعب بالنجم في أولى مشاركاته.
ولكن بالتأكيد جوسيبي الذي أُطلق عليه إل باليلا من قبل أحد زملائه في الفريق بسبب سنه الصغير كان يستحق أكثر من ذلك.
هل تعرف تلك الحركة التي تكون فيها في مواجهة حارس المرمى ثم تضع الكرة جانبية وتتخطى الحارس لتسديدها في الشباك الخالية؟ حسنا، تلك المراوغة كانت ماركة مسجلة باسم مياتسا
ماركة مسجلة أخرى باسمه وهي إيهام الخصم بالتسديد ثم المرور بالكرة من جانبه، وقد كانت حركة معتادة من مياتسا في الكثير من المباريات.
تسهب شبكة ESPN في وصف "بيبين" وما تمتع به من قدرات "لم تكن فقط موهبته التهديفية هي من جعلته لاعبا رائعا، لقد امتلك أيضا قدرة كبيرة على التحكم في الكرة كان ليحسده عليها ليونيل ميسي نفسه".
"كان لاعبا متكاملا استخدم عاطفته وشغفه ليرقص التانجو التي ساعدته على انعطفاته وتحولاته الشهيرة في أرض الملعب.. لم يكن اللاعب الأطول ولكن الأفضل في ألعاب الهواء كما امتلك رؤية ملهمة في أرجاء الملعب".
"استطاع أن يلعب بكلتا قدميه، وكان عبقريا فيما يخص قدراته على التمرير بدقة.. كل هذه الإمكانيات لم تعن تسجيل أهداف لا تعد ولا تحصى فقط وإنما صناعة الكثير لزملائه أيضا".
يتحدث الأديب الإيطالي الشهير لويدجي فيرونيلي عن جوسيبي قائلا: "لقد رأيت أيضا بيليه يلعب، ولكنه لم يحقق ما حققه مياتسا من أناقة في أسلوب اللعب".
فيرونيلي حكى واقعة تثبت المهارة الكبيرة التي تمتع بها جوسيبي "يوما ما شاهدته يفعل أحد الأشياء المذهلة، أوقف الكرة بركلة خلفية ثم رفع إياها مترين في الهواء قبل أن يوقفها بكل هدوء على وجه القدم مراوغا المدافع ومسددا بكل قوة ودقة في المرمى معلنا عن هدف".
واقعة أخرى في موسم 33 كان بطلها حارس يوفنتوس جيامبيرو كومبي الذي دخل في رهان مع مياتسا مرتين. الأول أن "بيبين" لن يستطيع تكرار الهدف سابق الذكر من فيرونيلي بعدما فعلها مياتسا في تدريبات المنتخب الإيطالي قبل عدة أسابيع.
والرهان الثاني حول أنه لن يتمكن من تسجيل هدفا في شباكه بالطريقة الشهيرة التي يراوغ فيها الحارس إلى الجانب ثم يضع الكرة في الشباك.
هل تعلم ما حدث؟ كومبي خسر كلا الرهانين.. مياتسا سجل هدفا مطابقا للذي فعله في التدريبات ثم سجل هدفا آخر بعد مراوغة المدافع وكومبي بنفس الطريقة التي ذكرها الأخير. بعدها كومبي هب واقفا ليصافح جوسيبي ويحييه.
المهارة الكبيرة والثقة في النفس، الأهداف بطريقة الماركة مسجلة، السرعة في اتخاذ القرار والتسديدات القوية والدقيقة.. كانت تلك السمات من بدأت في صناعة أسطورة مياتسا الشخصية.
ولكنها لم تتوقف عند هذا الحد بل وقف جنبا بجنب إليها الذكاء التكتيكي الذي سبق زمانه.
بدأ مياتسا مسيرته الكروية في مركز المهاجم الصريح ولكن لاحقا وبعد مرور عدة أعوام وبناء على قرار المدرب الأيقوني فيتوريو بوتزي شارك جوسيبي كمهاجم ثان يوفر المساحة والمساندة للمهاجم الصريح.
وكان قادرا أيضا على اللعب كلاعب وسط مهاجم وهو ما فعله مع اقتراب مسيرته من النهاية مستغلا رؤيته ودقة تمريراته، ولم يتوقف عند هذا الحد فقط بل لعب أيضا كجناح أيمن وجناح أيسر مستغلا قدرته على اللعب بكلتا قدميه.
بوتزو وصف إسهامات لاعبه قائلا: "لقد ولد كمهاجم، رأى المباراة وفهم اللعبة. يوزع الكرات بلطف ويساعد على التحول الهجومي.. أن تملكه في فريقك يعني أن تبدأ المباراة متقدما بهدف نظيف".
"هدف على طريقة مياتسا" و"مراوغة على طريقة مياتسا" هي عبارات شهيرة بين الجماهير الإيطالية للتعبير عن روعة الهدف المسجل أو المراوغة.
وعدم التزامه خارج الملعب لم يمنعه من مواصلة التألق بل كان السبب في حمايته.. مياتسا كان مفرطا في تناول الكحوليات والتدخين - اللاعب الوحيد من إنتر الذي سمح له بذلك - وإقامة العلاقات الجنسية لدرجة أن مسؤولي ناديه كان يضطروا في العديد من الأحيان لجلبه إلى المباراة من سريره أو من أحد الفنادق.
جوسيبي حكي بنفسه إحدى الوقائع قائلا: "لحسن الحظ انا أعيش بجوار الملعب، وأعتدت أن أذهب إلى هناك مسرعا، كان زملاءي والمدرب ينظران لي باستنكار. كان متبقي 5 دقاق فقط على بداية المباراة لذا استبدلت ملابسي سريعا ونزلت لأرض الملعب".
"كنت أسمع مدرب إنتر يقول (سوف نتعامل معه بعد المباراة، سوف نكتشف ما الذي يفعله) ولكنني سجلت 3 أهداف وبعد المباراة لم يتحدث أحدهم بأي كلمة".
يقول بيبينو بريسكو نائب رئيس إنتر: "مياتسا كان عظيما ولا يمكن هزيمته حتى وإن كان أحيانا يثير الأزمات بنشاطاته الجنسية التي لم يكن يضاهيا سوى حب الكرة، التي كان يفعل بها أشياء في أرض الملعب تجعلك فاغر الفم من الدهشة".
الصحفي الإيطالي الشهير جياني بيريرا وصف إبداعات أفضل لاعب في مونديال 38 بعبقرية: "كان اللاعب الإيطالي الوحيد الذي وقف إلى جوار موهبة البرازيليين والأرجنتينيين".