كتب : زكي السعيد
"أُفضِل خسارة مباراة واحدة بتسعة أهداف، على أن أخسر 9 مباريات بهدف واحد".
_فويادين بوشكوف
في فترة الإعداد لموسم 1980/1981، دون أغلب نجوم الفريق، وقبل خوض عدد كاف من الحصص التدريبية، سافر ريال مدريد لمواجهة بايرن ميونيخ وديا.. وخسر بنتيجة 9-1!
الفريق الإسباني حامل لقب الثنائية المحلية والعازم على استعادة اللقب الأوروبي الغائب في الموسم الجديد صعق جماهيره بتلك الخسارة الفادحة الأكبر للفريق ربما في عصر الألوان بأي مناسبة رسمية أو ودية؛ إلا أن المدرب فويادين بوشكوف خرج بعد المباراة بكل هدوء وصرّح: "أفضل خسارة مباراة واحدة بتسعة أهداف، على أن أخسر 9 مباريات بهدف واحد".
جماهير ريال مدريد أغلبها لم يفهم التصريح، واعتبرته استفزازيا من الرجل اليوغوسلافي، فكيف لأي خسارة بهدف نظيف أن تكون أفضل من الخسارة بتسعة أهداف؟
سيتوجب عليهم الانتظار لبضعة أشهر حتى يدركون ما رمى إليه بوشكوف..
فاجعة بلد الوليد
25 أبريل 1981
الجولة الأخيرة من الدوري الإسباني
ريال مدريد ارتحل إلى بلد الوليد بعد 3 أيام فقط من التأهل إلى نهائي دوري أبطال أوروبا على حساب إنتر ميلان الإيطالي. الفريق الملكي احتاج الفوز على بلد الوليد، وانتظار تعثر منافسه ريال سوسيداد بالخسارة على أرض سبورتنج خيخون، حتى يفوز بلقب الدوري.
تحت الأمطار الغزيرة وفوق العشب الموحّل تأخر سوسيداد 1-2 أمام جماهيره الكثيفة التي ارتحلت غربا إلى مقاطعة أستورياس طمعا في اللقب الأول تاريخيا، وفي الوقت عينه، تقدم ريال مدريد 3-1 وبدا أن الموسم المثير سينتهي ملكيا.
لوحة ورقية يدوية علوية في ملعب خوسيه زوريّا الخاص بنادي بلد الوليد كانت تشير إلى نتيجة المباراة الأخرى الجارية بنفس التوقيت، ولاعبو ريال مدريد أمكنهم ملاحظة أن نتيجة اللوحة تشير إلى تأخر سوسيداد منذ مطلع الشوط الثاني دون تغيير.
قبل انتهاء المباراة مباشرة، قام المدرب بوشكوف بإخراج الحارس أجوستين رودريجيز، وأقحم المخضرم ميجيل أنخيل جونزاليس بدلا عنه في لمحة أقرب إلى الاحتفالية، وبعد لحظات، أطلق الحكم صافرته التي اعتبرها لاعبو ريال مدريد إذنا بإطلاق الأفراح.
ما حدث في الثواني اللاحقة ليس مفهوما تماما حتى اللحظة، بعض الأقاويل تفيد بأن أحد الأشخاص أطلق شائعة انتهاء المباراة الأخرى على خسارة سوسيداد، كما مرجح أن لاعبي ريال مدريد استنتجوا بديهيا أن المباراة الأخرى انتهت على النتيجة المشار إليها في اللوحة الورقية بما أن المباراتين في نفس التوقيت، ولم يفطنوا أن الشوط الثاني في خيخون لم ينطلق في اللحظة عينها مع مباراتهم.
ريال مدريد لم يتصدر الدوري قط طوال المشوار، وفوزه باللقب بتلك الطريقة كان ليكون إعجازيا.. خوانيتو يقفز هنا وهناك، الهيستيريا مسيطرة على لاعبي مدريد غير المصدقين لعودتهم المستحيلة في صراع اللقب، حتى أتتهم الصدمة.. هناك في ملعب المولينون، قبل 12 ثانية على نهاية المواجهة، سجل رامون زامورا هدف التعادل لسوسيداد وأعاد فريقه لصدارة الدوري في اللحظة الأخيرة.. مدريد احتفل ببطولة لم يظفر بها في النهاية!
بعد شهر في باريس
لا شك أن كارثة بلد الوليد قبل شهر، ألقت بظلالها على نهائي دوري أبطال أوروبا أمام ليفربول الذي لعبه فريق ريال مدريد لأول مرة منذ 1966، اللاعبون سافروا باريس بسيقان محطمة بعد أن اختبروا تجربة الخسارة الأسوأ على الإطلاق.
إلا أن الفريق مر بظروف محبطة إضافية، لاعب الوسط الشاب ريكاردو جايّجو مصاب ولن يلحق بالمباراة، بالتالي لا مفر من إشراك الألماني أولي شتيليكه الذي سيلعب بإصابة في الركبة. شتيليكه خسر نهائي دوري أبطال أوروبا عام 1977 أمام ليفربول وقتما كان لاعبا في صفوف بوروسيا مونشنجلادبخ.. فأل سيء.
أما الحارس ماريانو جارسيا ريمون فكان مصابا بدوره، مما وضع المدرب بوشكوف أمام اختيارين، إما الدفع بالشاب أجوستين (21 عاما) صاحب الخبرة القليلة، أو إشراك المخضرم ميجيل أنخيل (34 عاما) الذي لم يلعب كثيرا هذا الموسم. في الأخير وقع الاختيار على اليافع أجوستين خصوصا أنه حرس مرمى الفريق في نصف النهائي أمام إنتر.
مشكلة أخرى واجهت ريال مدريد في خط الهجوم، النجم خوانيتو عانى من إصابة في الركبة بدوره واضطر للتحامل والمشاركة، أما الأزمة الكبرى فتمثلت في قضية الإنجليزي لوري كننجام.
كننجام حضر إلى ريال مدريد في صيف 1979 بصفقة قياسية قادما من وست بروميتش ألبيون، وفي موسمه الأول صنع العجب العجاب وكان اللاعب الأفضل في الفريق بلا جدال.
في الموسم التالي، 1980/1981، تعرض كننجام لكسر في الإصبع، وغاب لعدة أشهر تخللها العديد من الخلافات مع الإدارة.
قبل النهائي بأسبوعين، ظهر كننجام على العشب الأخضر أخيرا في مباراة اعتزال بيرّي القائد السابق للميرنجي، وشارك في 45 دقيقة، لكنه لم يكن جاهزا للعب مباراة ريال مدريد الأهم في ذلك الموسم، كان ذلك جليا.
أحد المسؤولين في إدارة ريال مدريد هاتف كننجام قبل المباراة وأخبره نصا: "إن لم تلعب المباراة، فمستقبلك بريال مدريد سيكون مهددا".
إدارة ريال مدريد امتلكت يقينا أن لاعبي ليفربول يخشون كننجام بعد أن شاهدوا ما هو قادر على فعله في وست بروميتش، وبالتالي مشاركته ولو بساق واحدة كانت ضرورية لهم.. وهو ما تحقق، وبدأ كننجام المباراة أمام مواطنيه.
قبل المباراة بعدة أيام، تعرض البنك المركزي في برشلونة لعملية سطو كبرى شغلت الشارع الإسباني، ولكن مع اقتراب المباراة، ومع حقيقة أن ريال مدريد لم يفز بدوري أبطال أوروبا منذ 15 عاما، بدأت الضغوط في التزايد على لاعبي الميرنجي.
إذاعة "كادينا سير" الإسبانية خصصت طاقما مميزا لتغطية المباراة، يقوده الصحفي الإسباني الشهير خوسيه ماريا جارسيا، ويرافقه في التحليل أساطير ريال مدريد السابقين: ألفريدو دي ستيفانو، فرنيتش بوشكاش، أمانسيو أمارو.
ليفربول المتوج بلقبي 1977 و1978 امتلك تشكيلة مميزها تمتعت بخبرات أوروبية كبيرة، في مقابل فريق أغلبه تخرج من أكاديمية ريال مدريد.
كيني دالجليش، تيري ماكديرموت، سامي لي، فيل تومسون.. لا، بوشكوف لم يخش أيا من هؤلاء، بل أرّقه لاعب الوسط الاسكتلندي رقم 11: جرايم سونيس.
سونيس كان قائدا لوسط ليفربول، يتحكم في نسق المباراة ويقرر وجهة الهجمات، والمدرب اليوغوسلافي أولى له اهتماما أكثر من أي لاعب آخر في صفوف الريدز، وبالتالي لجأ إلى حيلة غريبة.. خوسيه أنطونيو كاماتشو الظهير الأيسر لريال مدريد -على الورق- سيهجر مركزه خلال اللقاء، ويتقدم لوسط الميدان حتى يراقب سونيس. إذا ما شاهدت المباراة، ستتعجب من ظهير أيسر ريال مدريد الذي يلعب بعيدا جدا عن مركز الظهير.. بوشكوف اختار اللعب بـ10 لاعبين وخسارة كاماتشو على طريقة كرة اليد، فقط لأجل إيقاف سونيس.
قبل انطلاق المباراة مباشرة، في النفق المؤدي لأرض الملعب، شعر لاعبو ريال مدريد بالخوف من ليفربول المرشح، فيما انشغل لاعبو ليفربول بتغطية شعار ماركة "أومبرو" الراعية على أقمصتهم بأشرطة لاصقة بعد أن دخل النادي في صراع حاد مع الاتحاد الأوروبي في شؤون الدعايا والإعلان كاد يُخرج اللاعبين الإنجليز عن تركيزهم.
أما النهائي على ملعب حديقة الأمراء في باريس يوم 25 مايو 1981، فكان واحدا من أسوأ المباريات النهائية في تاريخ دوري أبطال أوروبا، حتى أن لاعبي الفريقين لم يستمتعوا بها كثيرا. ريال مدريد لعب بتحفظ كبير أمام أقوى فريق في القارة، وليفربول بدا عاجزا عن فك شفرة الدفاع المدريدي.
كارلوس سانتيانا مهاجم ريال مدريد وهدافه الأول لا يذكر أنه تحصل على فرصة تسجيل صريحة خلال المباراة.
الطريف أن أخطر فرصتين لريال مدريد في اللقاء كانتا بواسطة خوسيه أنطونيو كاماتشو الذي استفاد من مركزه المتقدم في الملعب، فسدد بشكل مباغت وغريب في الشوط الأول، والكرة مرت مباشرة إلى جوار قائم ليفربول الأيمن، قبل أن يهدر الفرصة الأبرز في الشوط الثاني.
كاماتشو الذي كان قريبا من سونيس معظم أوقات اللقاء، وجد نفسه إذ فجأة في مواجهة مرمى راي كليمنز حارس ليفربول، انفراد صريح من وسط الملعب، فرصة إن سنحت لواحد من ثلاثي الهجوم (سانتيانا، خوانيتو، كننجام) لانتهت هدفا على الأرجح، إلا أنها سنحت للظهير الأيسر الذي حاول الابتكار ولعب الكرة من فوق الحارس، فخرجت عالية.
أما الألماني شتيليكه، فقام لاعبو ليفربول بتضييق الخناق عليه. شتيليكه كان لاعبا متكاملا يجيد القيام بعدة أدوار في وسط الملعب، يفتك الكرات ويبني اللعب ويساند زملائه، إلا أن ركبته لم تسعفه كثيرا في تلك الأمسية، وحظى برقابة قاسية من سامي لي.
يقول سانتيانا:
"شتيليكه المسكين مر بوقت عصيب في ذلك اليوم، ليس بسبب إصابته فقط، بل بسبب سامي لي الذي كان لاعبا في ليفربول وحضر لاحقا للعب في صفوف أوساسونا، أسميناه "رجل الحليب" لأن بشرته كانت بيضاء للغاية، وقد قام بمطاردة شتيليكه بطول الملعب في ذلك اليوم، لم يبعده عن ناظريه للحظة واحدة، بدا أنه سيتبعه حتى دورات المياه، كان قويا وقصيرا وسريعا، وضّع شتيليكه في سلسلة مفاتيحه. كانت رقابة فردية صارمة، وشتيليكه لم يكن في أفضل حالاته".
أما الإنجليزي كننجام الذي كان مصدر هلعِ للخصوم في الموسم السابق، فلعب كالشبح في مواجهة ليفربول، ورؤيته غير قادر على إكمال انطلاقاته بدت واضحة للحضور، حاول أن يقوم ببعضِ من خدعه في بداية المباراة، ومع مرور الدقائق نسي المشاهدون أنه في تشكيلة ريال مدريد من الأساس.. قرار إشراكه كان طامة على الفريق.
مع الحاضر الغائب كننجام، والرقابة المشددة على شتيليكه ماكينة وسط الميدان، وخسارة كاماتشو على الظهير لصالح إيقاف سونيس، وانعزال سانتيانا في الهجوم، بدا أن أفضل آمال ريال مدريد ستكون بالوصول إلى أوقات إضافية، إلا أن عنصرين آخرين في تشكيلة الفريق مرا باليوم الأسوأ في مسيرتهما المهنية: الحارس أجوستين رودريجيز، والظهير الأيمن رافاييل جارسيا كورتس.
في الدقيقة 82، وبعد أن أهدار ريال مدريد فرص التقدم، جاء الوقت لدفع الثمن، رمية تماس لليفربول على الجهة اليسرى، الجناح راي كينيدي ينفذها في اتجاه الظهير آلان كينيدي، وفي لحظة توقف فيها الزمن، حاول جارسيا كورتس إبعاد الكرة، فما أبعد سوى الهواء، ليجد كينيدي نفسه في مواجهة جانبية مع الحارس المدريدي أجوستين الذي توقع عرضية وترك زاويته الضيقة مفتوحة، فعاقبه كينيدي وسدد بقوة، مقتلعا الكأس ذات الأذنين في مباراة عصيبة.
سكرات الهزيمة
إدارة ريال مدريد أقدمت على لافتة غريبة، وصرفت مكافآت الفوز المقدرة بـ 525000 بيزيتا إسبانية للاعبين رغم الهزيمة.. لكن الأموال لا تشفع كثيرا في مثل تلك الخسائر.
يقول خوان سانتيستيبان مساعد بوشكوف عن أجواء غرفة خلع ملابس ريال مدريد التي امتلأت بالدموع بعد اللقاء: "خيّم الجزع، كنا قريبين من الفوز، استحق الفتية قدرا كبيرا من الإشادة بوصولهم للنهائي، ولكن شعور الخسارة يكون كما لو أن أحدهم سلب شيئا منك، تلك الحقيقة ظللت على كل الأمور الأخرى".
إيسيدرو دياز لاعب وسط مدريد واصفا الهزيمة: "إنها أعظم إحباط في حياتي".
ويقول سانتيانا: "أقمنا في فرساي، بعيدا عن ضوضاء باريس، مما أعطاني وقتا للتفكير في النهائي، الكيفية التي سنلعب بها، وشعوري عندما أرفع الكأس؛ أما عندما ترى المنافس هو من يفعل ذلك، فإن روحك تغادرك، تصفّق لهم، ولكنك تفكر في الوقت عينه: كان واردا أن أصير أنا الفائز.. من الصعب أن تخسر مباراة نهائية".
لاعبو ريال مدريد دفعوا ثمن تلك الهزيمة نفسيا وماديا بأشكال شتى..
لوري كننجام الذي كان مهددا بالرحيل إن لم يشارك، انتهت مسيرته مع ريال مدريد بالفعل ودمرته إصابات الإصبع والركبة التي تعامل معها الجهاز الطبي للنادي بشكل خاطئ، فقد الجناح الإنجليزي بريقه، والذي قال عنه رون أتكينسون -مدربه في وست بروميتش- يوما ما أنه "يمكنه الركض على الجليد دون أن يترك أثرا لأقدامه".
في السنوات التالية وحتى حلول عام 1989، لعب كننجام لـ7 أندية مختلفة بحثا عن هويته التي فقدها في العاصمة الإسبانية بعد أن كان نجما خارقا في بداياته، إلا أن حياته الحزينة على المستوى الكروي والشخصي انتهت يوم أن نسي ربط حزام الأمان، وطار من زجاج سيارته في 15 يوليو 1989.
مصير سيلتهم زميله خوانيتو الذي توفي بدوره في حادث سيارة عام 1992 بعد أن انتهت مسيرته مع ريال مدريد عام 1987 في أعقاب اعتدائه الغاشم على لوثر ماتيوس لاعب بايرن ميونيخ بنصف نهائي دوري أبطال أوروبا وإيقافه 5 سنوات من قبل الاتحاد الأوروبي.. أنهى مسيرته الحافلة دون الفوز بدوري أبطال أوروبا حاله حال سانتيانا، كاماتشو، فيسنتي ديل بوسكي.
أما جارسيا كورتس، فعند عودته لمنزله في مدريد، وجد أن عائلته قد سجلت المباراة على شريط فيديو.. أمسك الشريط، وقام بإلقائه من النافذة.
الحارس أجوستين اتجه إلى نهر السين بعد المباراة، وقف على حافته، نظر إلى ميداليته الفضية، وقام برميها في قاع النهر، محاولا قتل أي ذكرى ممكنة عن كرة اخترقت زاويته الضيقة.. هو اعترف قبل أشهر قليلة أنه لم يشاهد هذا الهدف مطلقا طوال 37 عاما مضت!
فيما انحدرت مسيرة المدرب بوشكوف مع ريال مدريد، ولم يتمكن من السيطرة على لاعبيه الذين تملكهم الإحباط لخسائر موسم 1981 الغريبة، فرحل بمنتصف الموسم التالي بعد أن أعطى درسا لجماهير ريال مدريد.. أن الخسارة بنتيجة 1-0 يمكن أن تكون أكثر ألما من الخسارة بتسعة أهداف.
بوشكوف سيخسر نهائي دوري أبطال أوروبا مجددا بعد 11 عاما كمدرب لسامبدوريا، وريال مدريد سيضطر إلى الانتظار 17 عاما حتى يلعب مباراة نهائية أخرى.