كتب : لؤي هشام
كثيرون مروا من فوق البساط الأخضر، وكثيرون أبدعوا وتألقوا ليبقوا في الذاكرة، وكثيرون حضروا في تلك اللحظات التي صُنع فيها المجد ليأخذوا حيزا من المشهد، ولكن قليلين هم من ظلوا خالدين عابرين لكل ذلك في جميع الأزمنة.
هؤلاء الخالدون لم يصنعهم إنجاز عابر أو لقطة لا تُنسى حملت الكثير من المعاني وقتها، وإنما صنعتهم الموهبة الكبيرة والتفرد في أسلوب اللعب، وإلى جوار ذلك كانت شخصيتهم دائما حاضرة ليُضرب بهم المثل عبر العصور بما قدموه وحققوه على ذلك العشب الأخضر.
"أن تلعب مثل.." سلسلة جديدة يقدمها FilGoal.com مع قدوم المونديال تخليدا لهؤلاء المختلفين في الأرض الذين كان تفردهم ورؤيتهم المختلفة على أرض الملعب سببا في إعجازهم، ومحاولةً لوضعك في الصورة من الداخل بأعينهم وأعين من عرفوهم.
طالع أيضا.. (أن تلعب مثل بيليه.. جينجا البرازيل المتكامل)
طالع أيضا.. (أن تلعب مثل مارادونا.. "أسوأ أبولو وأفضل ديونيسوس")
مانويل فرانشيسكو دوس سانتوس.. فقط جارينشا
وكأنه كُتب على شهر أكتوبر أن يكون شاهدا على مولد عظماء اللعبة. قبل أن يأتي بيليه ومارادونا كانت صرخة مانويل الأولى تدوي إلى الدنيا، في الثامن والعشرين من عام 1933 أي قبل قدوم الجوهرة السمراء بست سنوات.
أسرة فقيرة ووالد متزوج من 5 نساء وأكثر من 14 أخا، الأب قرر أن يسميه مانويل ولكن شقيقته روزا قالت إنه يشبه طائر الجارينشا الصغير وأطلقت عليه الاسم الذي ظل ملتصقا به إلى الأبد بعدما لاحظت أن حجمi أقل من أقرانه في نفس العمر.
حسنا، بداية القصة لا توحي بأي شيء مبهر أو حادثة طريفة.. فتى من أسرة فقيرة يُفضل اللهو دائما في الشوارع رفقة أصدقائه، كسول في عمله الذي طالما تهرب منه في طفولته وكالعادة كرة القدم كانت جزءا أساسيا في حياته كي يتهرب من كل ما يعكر صفو حياته.
الكل يدرك ما فعله بيليه في مونديالي 58 و62 ولكن في الظل كان هناك رجل آخر فضل أن يكون متواريا من خلفه فكل ما يعنيه هو مداعبة تلك الكرة والاستمتاع بمراوغة المنافسين دون أن يضع في اعتباراته أي حسابات أخرى.
جارينشا وصفه البعض بـ"المراوغ الأفضل في تاريخ كرة" بسبب قدرته الكبيرة على وضع المدافعين في موقف حرج وإظهارهم أمام الجميع في مظهر الأغبياء.
"في تاريخ كرة القدم لم يجعل أحدا أكثر منه الناس السعداء".. يؤكد الكاتب الأوروجوائي إدواردو جاليانو أن رغبة جارينشا كانت الاستمتاع والإمتاع، لا أكثر ولا أقل، ولهذا ربما اكتفى بأن يكون في ظل بيليه.
قدرته على خلق فرص من الفراغ كانت كبيرة، سرعة ومهارة وقدرة كبيرة على التحكم بالكرة وقرارات غير متوقعة تفاجئ الخصم دوما.. تسديدات قوية بكلا القدمين وبراعة في تسديد الركلات الحرة.
عرضياته بوجه القدم الخارجي كانت ماركة مسجلة باسمه وإلى جوار كل ذلك ظلت مراوغاته المتواصلة هي العلامة الأبرز في مسيرته الكروية ولهذا ربما لقبوه بـ"سعادة الناس" في إشارة إلى ما أكده جاليانو في وصفه سابق الذكر.
"بينما بيليه يتذكره البعض باللاعب الأكثر تكاملا في تاريخ اللعبة كان يلقى الضوء على زميله جارينشا باعتباره المناضل الذي لا يمكنه أن يفوت فرصة لكي يظهر خصمه مثل الأبله، ربما كان أفضل مراوغ في تاريخ اللعبة".
هكذا تتحدث مجلة فور فور تو البريطانية عن النجم البرازيلي في اختيارها لأفضل 100 لاعب في تاريخ كرة القدم على الإطلاق، وهي القائمة التي احتل جارينشا بها المركز الـ11.
هل تعرف تلك المراوغة التي يتحرك فيها اللاعب تاركا الكرة في مكانها فيخدع اللاعب الخصم الذي يتحرك مع جسده، قبل أن يعود الأول إلى الكرة مجددا؟ تلك كانت مراوغة ابتدعها مانويل دوس سانتوس.
كان يفعلها مرارا وتكرارا ليأخذ مراقبه معه قبل أن يعود إلى الكرة مجددا تاركا من يراقبه في وضع حرج أمام الجماهير التي تسخر منه، لكن ما يفعله لم يتوقف عند هذا الحد.
وضع الكرة بين القدمين من وضع الحركة، التحرك يمينا ويسارا مرة تلو الأخرى قبل أخذ الكرة إلى الاتجاه المعاكس، تهدئة السرعة ثم الانطلاق بأسرع ما يمكن رفقة الكرة، تهيئة الكرة إلى الداخل ثم تمريرها أمامه وصنع عرضية.. كل ذلك كان مسجلا باسم جارينشا.
تخيل أنه كان يفعل كل ذلك وهو يعاني من عيب خلقي. كانت قدم جارينشا اليسرى أطول من قدمه اليمنى بستة سنتيمترات حتى أن وصفه الأشهر بالبرتغالية كان "الملاك ذو الساقين الملتويين" أضف إلى ذلك معاقرته الدائمة للكحوليات والتدخين بشراهة.
"حينما كان يدخل أرض الملعب كانت تتحول إلى ساحة في سيرك، والكرة كانت حيوانه المروض، قام جارينشا بتربية حيوانه الأليف والكرة، ومعا خلقوا مثل هذا الأذى لدرجة أن الناس ماتوا ضحكًا (على المنافسين)".
"قفز فوقها، وركض حولها، وخبأ نفسه بعيدا، ثم تخطى هذا وجعله يركض خلفها، وفي الملعب كان خصومه يصطدم بعضهم ببعض".. واصل جاليانو حكاياته عن اللاعب البرازيلي من منظوره الأدبي.
كان ماني جارينشا أيضا من القلائل الذين سجلوا هدفا من ركنية مباشرة، ويملك 4 أهداف بهذه الطريقة في مسيرته.
تسديداته الخاطفة والمفاجئة كذلك كانت دوما حاضرة في المونديال، في 62 فاجئ الإنجليز جميعا بتسديدة صاروخية سكنت في "بيت الشيطان" كما يقولون، وأمام بلغاريا كان ما يظل وجه قدمه الخارجي علامة مميزة في ركلاته الحرة.
يتحدث زميله في المنتخب ديالما سانتوس كيف أن جارينشا كان هدف إمتاع الجماهير وإسعادهم وأنهم أدركوا ذلك سريعا، ويقول: "جارينشا كان يملك روحا طفولية، كان إجابة الكرة لتشارلي شابلن".
أما رفيقه في الملاعب بيليه فيتحدث عن أنه كان الأعظم في مركز الجناح الأيمن الذي اعتاد اللعب فيه معظم مسيرته بجانب مركز المهاجم أيضا "كان الأفضل وما يفعله بالكرة لم يكن أحدا قادرا على فعله، لولاه لما حققت كأس العالم 3 مرات".
وهنا يسهب ميل هوبكينز ظهير المنتخب الويلزي في وصف الطائر الصغير وكيف كانت مواجهته.
ويشرح "كان أخطر من بيليه في هذا الوقت، كان ظاهرة وقادر على دمج السحر. كان من الصعب معرفة في أي اتجاه سوف يذهب بسبب قدميه وأنه كان يرتاح لليسرى مثل اليمنى لذا بإمكانه القطع إلى الداخل أو الاتجاه نحو الخط".
ما قدمه الثنائي في نهائي 58 أمام الاتحاد السوفييتي تم وصفه بـ"الثلاث دقائق التي غيرت تاريخ كرة القدم".
روح جارينشا الطفولية كانت دوما السبب في المتعة التي يقدمها، ولا يوجد سوى هذا الموقف الذي حدث مع بيليه لكي يضعك في الصورة التي كان عليها صاحب البشرة السمراء القادم من حي باو جراندي.
في الطريق نحو كأس العالم 1958، اضطر جارينشا إلى إزالة اللوزتين وجلس يشاهد الإبرة تدخل بسهولة في فمه.. فقد الكثير من الدم، وعندما عاد إلى منتخب بلاده كان قد فقد الكثير من وزنه، سأله بيليه عما إذا كان على ما يرام حينها ابتسم جارينشا وأجاب "لقد حققت حلم الطفولة الآن استطيع تناول الأيس كريم".
جارينشا لعب الكرة بالطريقة التي عاش بها حياته.. إسعاد نفسه دون النظر إلى أي اعتبارات.
طالع كل تغطية FilGoal.com وتقارير كأس العالم من هنا
*مصادر:
The Joy of Six: the Brazilian national football team
BBC Documentary 2017 - Garrincha - Brazil's Greatest Player
Garrincha has a ball
FourFourTwo's 100 Greatest Footballers EVER: No.11, Garrincha
Garrincha, the never forgotten genius of Brazilian football
GARRINCHA: THE JOY OF THE PEOPLE