كتب : مصطفى عصام
بعد التأهل لكأس العالم في إيطاليا 1990، وورود خبر وقوع مصر في المجموعة السادسة مع هولندا بطلة أوروبا 1988 بهدف ماركو ڤان باستن الإعجازي في السوڤيتي داساييف، وإنجلترا بقيادة العجوز بيتر شيلتون (مخترعة كرة القدم)، أيرلندا القادمة بقوة تحت قيادة جاك تشارلتون (شقيق السير بوبي تشارلتون).. توقع الكمبيوتر وقتها بأن ينسحق الفريق المصري من بلد (الجِمال- Camels) و الأهرامات كما صورتها أمام الفريق الهولندي بقيادة ثلاثي ميلان (ماركو ڤان باستن- رود خوليت- فرانك ريكارد) والمدافع الصلد رونالد كومان بثمانية مقابل هدف.. بل من فرط الدقة توقعت محرز هدف مصر الوحيد (طاهر أبو زيد).
الأقدام الهولندية أعلى الصورة ضمن ملصق دعائي لدعم المسيرة البرتقالية (الكروية لا السياسية) نحو حصد أولى ألقاب المونديال بعد محاولتين كانتا قاب قوسين أو أدنى نحو اللقب لولا (استبسال الألمان وفاشية اللاتينيين ببيونيس أيرس وكلاهما على أراضيهما).
المصريون لم تتوفر لهم الدعاية الكافية اللهم غير "المحلية" كعادتنا كما توافر في فشل "صفر المونديال".. صفحة وحيدة بألبوم Panini الشهير مثله مثل الكاميرون مثل كل دول العالم الثالث عكس القوى الكروية (صفحتان)، وكذلك لم تكف تشبيهات الصحافة العالمية عن وصف المصريين بركوب البغال، وكي الطرابيش، ارتداء الجلباب، وإنتاج أقطان قصيرة التيلة تحاك بها بدل بريطانية حديثا.. وطويلة التيلة في صناعة بنادقها لحراسة إمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس قديما.
ويبدو أن لقطات المصورين الأجانب التي تولت تغطية أحداث هامة في مصر مثل حفلات أم كلثوم قديما، تطهير مجرى القنال، زيارة نيكسون للإسكندرية، هزيمة مصر في رباعية المنزه، عالمية السادات وتصدره أغلفة المجلات، جنازتي عبد الحليم وأم كلثوم، حادثة المنصة، فوز الخطيب بأفضل لاعب في إفريقيا، البعثة المصرية نحو أوليمبياد لوس أنجلوس، زيارة المنتخب الإنجليزي لمصر مطلع 1986، أمم أفريقيا 1986.
كلها لم تكن كافية لنقل صورة حية عن الواقع المصري!
اتجهت مصر للدعاية بنفسها لنفسها، فأنتج مهندس مصري ألبوم (شديد) مماثلا لألبوم Panini، لمصر فقط، ذاكرا كل نجوم المشوار حتى مَن شملهم الاستبعاد مثل ياسر فاروق، بدر رجب، أو نجم التصفيات الذي غيبته إصابة مروعة "هشام عبد الرسول".. ومن يكمل الألبوم يمكنه أن يحصل على فرصة مع أربعة أفراد لإيطاليا لمشاهدة الفريق المصري.
عمال الطباعة، استولوا على أصول الصور وبيعت بالسوق السوداء، و نزل بديلا لها صور رديئة الجودة، وفشلت فكرة الدعاية ولكنها لاقت رواجا محليا.
صدق أو لا تصدق..
قام شديد قناوي مدافع المنيا برفع قضية ضد أحمد المقدم صاحب ألبوم الفراعنة في كأس العالم بسبب وضع لسمها علي غلاف الألبوم.."ألبوم شديد".
استعان التليفزيون الإيطالي بخدمات العميل س-18 (ليس المذكور بروايات رجل المستحيل لنبيل فاروق)، بل هو تندر على (سمير الإسكندراني) ليقدم أغنية ضمن ريبورتاج دعائي لكل الدول المشاركة بكأس العالم.. فقدم مقطوعة Feelings الشهيرة ـ Albert Morris.. والتي انتهت بجملته الشهيرة على أضواء الشموع.
"وكأني شراااااااااع وسط موووووج الضياااااااااااع".
لم يبدأ طاهر ابو زيد المباراة فضاعت فرصة التنبؤ بالهدف الوحيد.. ولعب الفريق المصري لقاء من أجل الشهرة والاستمتاع بكرة القدم، تلاعب قائد المنتخب جمال عبد الحميد بفرانك ريكارد، صوّب مجدي طلبة الكرة قوية منفردا بعد عرضية إبراهيم حسن فأضاع فرصة التقدم المفاجئ فأعادها بعد ثلاث سنوات ضعيفة برأسه من عرضية الكأس أمام زيمبابوي.. فأضاع فرصة التأهل لكأس العالم من البداية بأمريكا ٩٤.
أتى الفرج لهولندا أخيرا بكرة ضالة في الدقيقة ٥٦ لم يستطع شوبير أن يضع لها حدا، بدت نبوءة التمانية مضللة، الفريق المصري كافح بشرف، وتيقن ذلك الجمهور البرتقالي، فجاءت فرحته كما بالصورة.
أما النهاية فنترك وصفها كما سردها شابا بلغ وقتها الخامسة عشر من عمره، الأستاذ أحمد حسين يسرد عن وصفه لهديره بالقاهرة.
لا ينتظر الجميع في مصر إلا وصول عقارب الساعة لتشير نحو الدقيقة ٩٠، قطعها نبأ في الدقيقة 83 كان هاني رمزي يعيد الكرة إلي هشام يكن ليكرر الجملة التي لعبها المنتخب خمس مرات خلال هذه المباراة بأن يرسل كرة طويلة خلف الدفاعات الهولندية محاولاً استغلال فارق السرعة بين حسام حسن ذو الثلاثة والعشرين عاماً وثلاثي دفاع هولندا كومان وروتييس وفان تيجلين، وبالرغم من أن هذه الجملة (اتهرست) خلال المباراة، إلا أن التمريرة هذه المرة كانت عمودية جعلت حسام يتوجه مباشرة نحو المرمي، وكان واضحاً أن نشاط حسام طوال المباراة قد انهك ثلاثي الدفاع الهولندي وجعلهم غير قادرين علي اللحاق بحسام وهو ما دفع رونالد كومان للامساك بفانلة حسام خارج منطقة الجزاء، ليسقط حسام داخلها ويحتسب الحكم الإسباني ضربة الجزاء.
أعرف الكثير من المتفرجين الذين أغمضوا عيونهم، أو أداروا وجوههم للشاشة لحظة تسديد الضربة، بخلاف من خرجوا إلي الشرفة ولم يدخلوا إلا بعد أن رجت صرخات الفرح سماء البلاد.
لكن ما يبقي في الذاكرة هو صوت الراحل فايز الزمر وهو يستبق الأحداث هاتفاً (جووووووووون) قبل صوت الكابتن بكر، وقبل أن تعانق الكرة الشباك.
لم ينتظر أحد أن يطلق الحكم صافرته كي يبدأ الاحتفال، فليلتها كانت المرة الأولي التي تحتفل بها الجماهير بهذه الكثافة وحتى مطلع الفجر بالرغم من أن اليوم التالي -الأربعاء- هو يوم عمل، وكأنما اتفقت الجماهير بشكل تلقائي أن يكون هتافهم المفضل هو (جوهاااراااي....جوهاررررري).
وللمرة الأولي لم يكن الثناء منصباً علي المهاجم الهداف، ولا الحارس العملاق، لكن علي اللعب الجماعي الذي كان ورائه مخطط استراتيجي قدير هو محمود الجوهري.
انتهى المونديال فيما بعد، ولا زالت ذكرى هولندا تداعب كل مصري، ولم يتبق للطرف البرتقالي ذكرى سوى فشله بعبور ألمانيا المتحدة أخيرا، وبصقة ريكارد لرودي فوللر.