في يوم 18 مايو عام 1968، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة الحاسمة. وقتها لم يكن قد مر سوى 20 عاما بالتمام والكمال على انتزاع حق مغتصب بالدولة الوليدة إسرائيل على أراض فلسطينية أصيلة برعاية الأمم المتحدة، إلا أن أبناء الشاه بطهران ينتظرهم شغف أخر، مجد أول مرة سينتظرونه صباح باكر 19 مايو، ولكن هذا المجد سيمر على جسد من، سيكون لطيفا من أنه سيمر على جسد إسرائيل، ولكن عبر بوابة كرة القدم، أي ما يمثل تطبيعا حرا.
ربما يكون وقتها هاجس كرة القدم يقل عن نظيرته في أمريكا الجنوبية، المكسيك، إيطاليا، بريطانيا العظمى أو حتى مصر، لكن منذ تاريخ 19 مايو بدأ الهوس يرتفع، أو قل بالأحرى بعد ثلاثية إيران في مرمى بورما على حد بصر 30 ألف متفرج بملعب أمجدية، اقترب الحلم أكثر فأكثر، التتويج بأولى بطولات كأس أسيا التي تستضيفها طهران عام 1968 بمشاركة بورما وإسرائيل وهونج كونج والصين، ومقاطعة بالطبع من الدول العربية.
بحلول عام 1968، كانت الكرة الإسرائيلية في قمة الكرة الأسيوية منذ ما يقرب لعقد من الزمان، فعلى الرغم من أن إسرائيل كانت منشغلة بقضايا العدوان الثلاثي مع الحليف إنجلترا وفرنسا عام 1956، إلا هذا لم يمنعها من أن تسجل مشاركتها الأولى في أولى بطولات كأس آسيا في نفس العام وتكون الوصيف لكوريا الجنوبية، وتكررت الوصافة مع نفس العقدة عام 1960، قبل أن ينجحوا في تأمين الكأس لصالحهم عام 1964 في تل أبيب على حساب العقدة الكورية الجنوبية.
الفريق الإسرائيلي تألف من مجندين بنفس الجيش، يتراوحون تارة بين العدوان سواء في ساحة الحرب أو بكرة القدم، أغلبهم من يهود فقراء –سافارديم- أو أجانب كمثل مدرب الفريق يوسف مريموفيتش من قبرص ونجمها الأول مردخاي شبيجلر من أصول سوفيتية وكل هؤلاء ساهموا في الظهور الأول والوحيد لإسرائيل بكأس العالم جنبا إلى جنب مع ابنها الحكم إبراهام كلاين عام 1970 بالمكسيك، قبل أن يسجل مردخاي شبيجلر هدف إسرائيل الوحيد في تعادلها الشهير أمام السويد وأداءا بطوليا سابقا أمام جياسينتو فاكيتي ورفقائه الطليان وأمام الفريق الأوروجوائي.
من ناحية أخرى كانت إيران لازالت في طور الاعداد لسنوات مجيدة أخرى ستقضيها بالكرة الأسيوية حتى ميعاد الإطاحة بالشاه من الثورة الإسلامية بطهران عام 1979، لازالت كرة القدم تحتل في عهد الشاه مقعدا خلفيا بكثير وراء المصارعة الحرة أو الرياضة الوطنية الخاصة بالبلاد التي تقارع بها ميداليات السوفييت وروسيا والولايات المتحدة، في البداية أبدت طهران حساسية من مشاركة إسرائيل بالأمم الأسيوية فلم تشارك رغم توجيه الدعوة أعوام 1956 و1960 و1964.
ولكن بطولة 1968 المشاركة كانت إرغاما فحسب كونها مستضيفة للبطولة، والتوجهات الإسرائيلية الإيرانية فحسب لم تأخذ المنعطف الحالي من التوتر وأجواء الاستعداء، فهناك تعاون استخباراتي أمني وتبادل للطاقة مع توترات خاصة مع الرئيس جمال عبد الناصر، ومواقف مشتركة معادية للشيوعية والعروبة التي تفرضها أحلام التيار السوفيتي على المنطقة، وحتى مع توالي الإسلاميين لاحقا وتصاعد الخطابات الصادمة بين الطرفين، إلا أن هذا لم يمنع تعاونا خفيا لطهران في الحرب العراقية الإيرانية ذات الثماني سنوات ضد صدام حسين.
أعظم شرف قبل 1968 للكرة الإيرانية كان المركز الثاني الهزيل بدورة الألعاب الأسيوية عامي 1951 و1966، أضف للمشاركة الهزيلة بأوليمبياد طوكيو عام 1964، أرادوا عام 1968 أن يحرزوا لقبهم الأول فحسب.
على الرغم من أن القضايا الرياضية كانت أقل الشاغلين على الأقل بالنسبة للبعض على الجانب الأخر من المنطقة بالشرق الأوسط عام 1967 بعد حرب العرب مع إسرائيل في يونيو، إلا أن كان هناك مخاوف إسرائيلية من أن يوجه الإسلاميين والشيوعين ضربة قاصمة للبعثة الإسرائيلية في طهران طيلة أجواء البطولة، وهو ما كشف عنه الجهادي السابق “عزت شاهي” في مذكراته: "الإسلاميون كانوا ينوون القيام بحركة مثلما فعلت جماعة أيلول الأسود بالبعثة الإسرائيلية الرياضية بأوليمبياد ميونيخ 1972، ولكن اكتشفوا بأن الردود من قبل الشارع بطهران ستكون سلبية وستؤثر على شعبية الإسلاميين بإيران".
عزت شاهي الذي فجر نفسه لاحقا في مكتب الخطوط الجوية الإسرائيلية بطهران، أوضح بأنه لم يكن من قبيل المصادفة من أن قوات الأمن ستكون بأقصى حالات الاستنفار حول منتخب إسرائيل من قبل ومن بعد.
تلاشت أجواء التوتر والخوف السياسي وانتقلت للرياضة، حين تقابل الفريقين وجها لوجه في ملعب أمجادية بطهران بأعين 30 ألف متفرج يتقدمهم شاه طهران وهناك مثلهم حول الاستاد، وأعداد أخرى هائلة تتابع حول المذياع وتنتظر توارد الصيحات من الاستاد ليؤثر دواها في الشوارع، قدرت الصحف الإيرانية أن 15 مليون مواطنا سيتابعون المباراة لأول مرة على التلفاز بالأبيض والأسود.
مر الشوط الأول في النهائي بين الفريقين دون حدث كبير، حتى أحرزت إسرائيل هدفها الأول القاتل في الدقيقة 56 عبر جيورا شبيجل بتمريرة حاسمة من موردخاي شبيلجر، تشبه هدف إسرائيل القاتل أمام استراليا في أول تأهل لها بكأس العالم، وكذلك حين أخذ الفريق بعيدا لربع نهائي أوليمبياد مكسيكو سيتي عام 1968.
مممود بياتي مدرب الفريق الإيراني فيما سيبدو أنه سيكمل اللقاء مكتوف الأيدي تحت أنظار الشاه حين علم بإصابة هدافه هوميون بزادي وسيضطر للخروج، إلا أن حقن مسكنة جعلته يكمل المباراة، فاحرز هدف التعادل في الدقيقة 75، بل ومرر هدف الفوز بالدقيقة 86 بعد بضعة تمريرات ثم تسديدة بعيدة سكنت المرمى، جعلت زئير المشجعين يدوي كصوت المدافع والقنابل، فقد أذاقوا إسرائيل المر لأول مرة ولكن عبر الرياضة، ونالوا شرف رفع الكأس لأول مرة.
بدأت الكرة الإيرانية من وقتها عصرا مزدهرا من على أجساد الفريق الإسرائيلي، الفوز بثلاث بطولات للأمم أعوام 1968 و1972 و1976، بل وبطولات أخرى مثل ذهبية دورة الألعاب الأسيوية عام 1974 والمشاركة بميونيخ 1972 ومونتريال 1976 وسط استمرار مقاطعة العرب، وتأهلت لأول مرة في تاريخها لكأس العالم 1978، وعاشت بسببها اسكتلندا أوقاتا عصيبة ونالت خسارة مشرفة أمام طاحونة النجوم الهولندية.
ستتواجه إيران وإسرائيل لأخر مرة مجددا عام 1974، وستمر إيران مرة أخرى وتفوز على أرضها أيضا بذهبية الألعاب الأسيوية، وبعدها سيتغير كل شيء، جذريا حين تغيرت وجهة قافلة النفط في البحر عائدة صوب طهران مجددا عام 1973 بأمر من السادات للشاه عقابا على التدخل الأمريكي لقلب ميزان القوى لصالح إسرائيل في حرب أكتوبر 1973، وكذلك نتيجة النضال العربي الإسرائيلي المستمر، تقدمت الكويت بمشروع قرار لطرد إسرائيل من الاتحاد الأسيوي لكرة القدم عام 1974، صوتت 17 دولة لصالح القرار من بينها إيران مقابل اعتراض 13 دولة وامتناع 6 عن التصويت، وجاء الطرد في أعقاب سنوات من التوتر بين المشروع الصهيوني الإسرائيلي والتعبيرات المتنامية عن القومية العربية والتضامن مع الشعب الفلسطيني منذ حرب الأيام الستة في عام 1967، وبعد تبني قرار الخرطوم من قبل قادة الدول العربية الذين رفضوا شرعية إسرائيل كدولة ذات سيادة بعد فترة وجيزة، بدت الأمور قاتمة أكثر لإسرائيل في المنطقة.
ستعيش إسرائيل حياة بدوية مجددا بكرة القدم حتى ترتمي بأحضان يويفا عام 1992 وتتسبب في إقصاء فرنسا من كأس العالم 1994 بتل أبيب، وقبل كأس آسيا 2011، أصدر الاتحاد الآسيوي لكرة القدم شريط فيديو ترويجي قصير بعنوان تاريخ كأس آسيا يعطيك الفيديو ثلاث دقائق من نهائيات كأس آسيا، إلا أنه يخفق تماما في ذكره عام 1964 ، وهو العام الذي استضافت فيه إسرائيل وفازت به كدلالة على طردها من الاتحاد.
إيران، من جانبها ، سوف تبدأ انحدارا حادا بمجرد سيطرة الإسلاميين على البلاد خلال ما يسمى بالثورة الإسلامية عام 1979، حيث أن التغييرات السياسية والأيديولوجية للبحرية من شأنها أن تمنعهم من الظهور على الساحة الدولية، وبصورة منهجية. إن التطهير المناهض لكرة القدم سيدمر إلى الأبد فريق ميلي (الفريق الوطني). واضطر غليشكاني، بطل أمجادية، إلى الفرار من البلاد بعد وصفه بأنه منشق و “عنصر غير مرغوب فيه”. وكان آخرون أقل حظا. تم إعدام البعض، وتحول أولئك الذين نجوا من الموت إلى أشباح من ماضيهم المجيد. لقد وصل العصر الذهبي إلى نهاية مفاجئة ومأساوية.